التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{قُل لِّمَن مَّا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِۖ قُل لِّلَّهِۚ كَتَبَ عَلَىٰ نَفۡسِهِ ٱلرَّحۡمَةَۚ لَيَجۡمَعَنَّكُمۡ إِلَىٰ يَوۡمِ ٱلۡقِيَٰمَةِ لَا رَيۡبَ فِيهِۚ ٱلَّذِينَ خَسِرُوٓاْ أَنفُسَهُمۡ فَهُمۡ لَا يُؤۡمِنُونَ} (12)

ثم ساق القرآن الكريم ألوانا من البراهين الدالة على وحداينة الله وقدرته وعلى أنه هو المهيمن على هذا الكون ، فقال - تعالى - : { قُل لِّمَن . . . } .

المعنى : قل يا محمد لهؤلاء المشركين - على سبيل التوبيخ والتنبيه - من الذى يملك السموات والأرض وما فيهما من إنس وجن وحيوان ونبات وغير ذلك من المخلوقات ، إن الإجابة الصحيحة التى يعترفون بها ولا يستطيعون إنكارها أن جميع المخلوقات لله رب العالمين . قال - تعالى - { وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ الله } فالمقصود بالاستفهام تبكيتهم على عنادهم ، وتنبيههم إلى ضلالهم لعلهم يثوبون إلى رشدهم .

قال الإمام الرازى : وقوله : { قُل لِّمَن مَّا فِي السماوات والأرض } سؤال ، وقوله { قُل للَّهِ } جواب . فقد أمره الله - تعالى - بالسؤال أولا ثم بالجواب ثانيا ، وهذا إنما يحسن فى الموضع الذى يكون الجواب قد بلغ فى الظهور إلى حيث لا يقدر على إنكاره منكر ، ولا يقدر على دفعه دافع ، وهنا كذلك لأن القوم كانوا معترفين بأن العالم كله لله وتحت تصرفه وقهره وقدرته " .

ثم قال - تعالى - { كَتَبَ على نَفْسِهِ الرحمة } أى : أوجب - سبحانه - على نفسه رحمته التى وسعت كل شىء والتى من مظاهرها أنه منح خيره ونعمه فى الدنيا للطائعين والعصاة ، وأنه سيحاسبهم يوم القيامة على أعمالهم فيجازى الذين أساءوا بما عملوا ويجازى الذين أحسنوا بالحسنى .

وفى الصحيحين عن أبى هريرة - رضى الله عنه - قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن الله لما خلق الخلق كتب كتابا عنده فوق العرش ، إن رحمتى تغلب غضبى " .

وجملة ، ليجمعنكم إلى يوم القيامة لا ريب فيه ، يرى بعض العلماء أنها جواب لقسم محذوف أى : والله ليجمعنكم ، وجملة القسم والجواب لا محل لها من الإعراب ، وإن تعلقت بما قبلها من حيث المعنى وعلى هذا الرأى يكون الكلام قد تم عند قوله - تعالى - { كَتَبَ على نَفْسِهِ الرحمة } .

ويرى الزجاج ومن شايعه أن جملة ( ليجمنعكم ) فى محل نصب بدل من الرحمة ، وفسر ( ليجمعنكم ) بمعنى أمهلكم وأمد لكم فى العمر والرزق مع كفركم ، فهو تفسير الرحمة ، كما قال - تعالى - فى السورة نفسها ( كتب على نفسه الرحمة أنه من عمل منكم سوءا بجهالة ثم تاب من بعده وأصلح فأنه غفور رحيم ) .

والمقصود بهذه الجملة الكريمة ( ليجمعنكم ) بيان عدل الله بين عباده . فهو لم يجمعهم يوم القيامة لتعذيبهم جميعا ، وإنما يجمعهم لإثابة المحسن ومعاقبة المسىء .

ولما كان الكافرون ينكرون حصول البعث والحساب فقد أكد الله - تعالى - حصولهما باللام وبنون التوكيد الثقيلة ، وبتعدية الفعل بإلى دون فى للإشارة إلى أن هذا الجمع نهايته يوم القيامة - وبأنه يوم لا ينبغى لأحد أن يرتاب فيه لوضوح أدلته .

ثم ختمت الآية الكريمة ببيان عاقبتهم السيئة فقال - تعالى - { الذين خسروا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ } .

أى : الذين خسروا أنفسهم بانطماس فطرتهم ، وإصرارهم على العناد والجمود ، لا يتسرب الإيمان إلى قلوبهم لأنها قست وأظلمت .

قال الآلوسى : ( الفاء ) فى قوله ( فهم لا يؤمنون ) - للدلالة على أن عدم إيمانهم وإصرارهم على الكفر مسبب عن خسرانهم ، فإن إبطال العقل والانهماك فى التقليد أدى بهم إلى الإصرار على الكفر والامتناع عن الإيمان .

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{قُل لِّمَن مَّا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِۖ قُل لِّلَّهِۚ كَتَبَ عَلَىٰ نَفۡسِهِ ٱلرَّحۡمَةَۚ لَيَجۡمَعَنَّكُمۡ إِلَىٰ يَوۡمِ ٱلۡقِيَٰمَةِ لَا رَيۡبَ فِيهِۚ ٱلَّذِينَ خَسِرُوٓاْ أَنفُسَهُمۡ فَهُمۡ لَا يُؤۡمِنُونَ} (12)

يخبر تعالى أنه مالك السموات والأرض ومن فيهن ، وأنه قد كتب على نفسه المقدسة الرحمة ، كما ثبت في الصحيحين ، من طريق الأعْمَش ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة ، رضي الله عنه ، قال : قال النبي{[10582]} صلى الله عليه وسلم " إن الله لما خَلَقَ الخَلْق كتب كتابًا عنده فوق العرش ، إن رحمتي تَغْلِبُ غَضَبِي " {[10583]}

وقوله : { لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ } هذه اللام هي الموطئة للقسم ، فأقسم بنفسه الكريمة ليجمعن عباده لميقات يوم معلوم [ وهو يوم القيامة ]{[10584]} الذي لا ريب فيه ولا شك فيه عند عباده المؤمنين ، فأما الجاحدون المكذبون فهم{[10585]} في ريبهم{[10586]} يترددون .

وقال ابن مَرْدُوَيه عند تفسير هذه الآية : حدثنا محمد بن أحمد بن إبراهيم ، حدثنا عبيد الله بن أحمد بن عُقْبَة ، حدثنا عباس بن محمد ، حدثنا حسين بن محمد ، حدثنا مِحْصَن بن عقْبَة اليماني ، عن الزبير بن شَبِيب ، عن عثمان بن حاضر ، عن ابن عباس قال : سُئِلَ رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الوقوف بين يدي رب العالمين ، هل فيه ماء ؟ قال : " والذي نَفْسِي بيَدِه ، إن فيه لماءً ، إن أولياء الله ليردون حِياضَ الأنبياء ، ويَبْعَثُ الله تعالى سبعين ألف مَلَكٍ في أيديهم عِصِيّ من نار ، يَذُودون الكفار عن حياض الأنبياء " .

هذا حديث غريب{[10587]} وفي الترمذي : " إن لكل نبي حَوْضًا ، وإنهم يتباهون أيهم أكثر واردة ، وأرجو أن أكون أكثرهم واردة{[10588]} {[10589]}

ولهذا قال : { الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ } [ أي يوم القيامة ]{[10590]} { فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ } أي : لا يصدقون بالمعاد ، ولا يخافون شر ذلك اليوم .


[10582]:في أ: "قال رسول الله".
[10583]:صحيح البخاري برقم (7404) ورواه مسلم في صحيحه برقم (2751) من طريق أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبى هريرة. بنحوه
[10584]:زيادة من أ.
[10585]:في أ: "فيهم".
[10586]:في م: "دينهم".
[10587]:في إسناده من لم أجد ترجمته.
[10588]:في م، أ: "واردا".
[10589]:سنن الترمذي برقم (2443) من طريق سعيد بن بشير، عن قتادة، عن الحسن، عن سمرة بن جندب، رضي الله عنه، مرفوعا. وقال الترمذي: "هذا حديث غريب". قلت: في إسناده سعيد بن بشير وهو ضعيف.
[10590]:زيادة من م، أ.