التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{لَقَدۡ نَصَرَكُمُ ٱللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٖ وَيَوۡمَ حُنَيۡنٍ إِذۡ أَعۡجَبَتۡكُمۡ كَثۡرَتُكُمۡ فَلَمۡ تُغۡنِ عَنكُمۡ شَيۡـٔٗا وَضَاقَتۡ عَلَيۡكُمُ ٱلۡأَرۡضُ بِمَا رَحُبَتۡ ثُمَّ وَلَّيۡتُم مُّدۡبِرِينَ} (25)

ثم انتقلت السورة الكريمة من نهى المؤمنين عن موالاة المشركين مهما بالغت درجة قرابتهم ، وعن إيثارهم محبة الآباء والأبناء على محبة الله . . انتقلت من ذلك إلى تذكيرهم بجانب من نعم الله عليهم . حيث نصرهم - سبحانه - في حنين بعد أن ولوا مدبرين دون أن تنفعهم كثرتهم وقوتهم فقال - تعالى - : { لَقَدْ نَصَرَكُمُ الله . . . غَفُورٌ رَّحِيمٌ } .

قال ابن كثير . هذه أول آية نزلت من براءة يذكر - تعالى - المؤمنين فضله عليهم وإحسانه لديهم في نصره إياهم في مواطن كثيرة من غزواتهم مع رسوله ، وأن ذلك من عنده - تعالى - : وبتأييده وتقديره لا بعددهم ، ونبههم إلى أن النصر من عند سواء قل الجمع أم كثر ، فإنهم يوم حنين أعجبتهم كثرتهم ومع هذا ما أجدى ذلك عنهم شيئاً فولوا مدبرين إلا القليل منهم . . . ثم أنزلا لله نصره على رسوله والمؤمنين .

" وقد كانت واقعة حنين بعد فتح مكة في شوال سنة ثمان من الهجرة : وذلك أنه لما فرغ - صلى الله عليه وسلم - من فتح مكة ، وتمهدت أمورها ، وأسلم عامة أهلها ، وأطلقهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم بلغه أن هوزان جمعوا له ليقاتلوه ، معهم ثقيف بكمالها وبنو سعد بن بكر .

فخرج إليهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في جيشه الذي جاء للفتح وهو عشرة آلاف من المهاجرين والأنصار وقبائل العرب ، ومعه الذين أسلموا من أهل مكة وهم الطلقاء في ألفين . فسار بهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى العدو ، فالتقوا بواد بين مكة والطائف يقال له حنين ، فكانت فيه الموقعة في أول النهار في غلس الصبح .

انحدروا في الاودى وقد كمنت فيه هوزان ، فلما تواجهوا لم يشعر المسلمون إلا بهم قد بادروهم ، ورشقوا بالنبال ، وأصلتوا السيوف ، وحملوا حمله رجل واحد . . فعند ذلك ولى المسلمون الأدبار ، وثبت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وثبت معه من أصحابه قريب من مائة .

ثم أمر - صلى الله عليه وسلم - عمه العباس - وكان جهير الصوت - أن ينادى بأعلى صوته يا أصحاب الشجرة - أى شجرة بيعة الرضوان التي بايعه المسلمون تحتها على أن لا يفروا عنه - فجعل ينادى بهم . . فجعلوا يقولون : ليبيك لبيك .

وانعطف الناس فتراجعوا . . فأمرهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يصدقوا الحملة ، وأخذ قبضة من تراب ثم رمى بها القوم ، فما بقى إنسان منهم إلا أصابه منها في عينيه وفمه ما شغله عن القتال ، ثم انهزموا فاتبع المسلمون أقفائهم يتقلون ويأسرون ، وما تراجع بقية الناس إلا والأسرى مجندلة بين ديدى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " .

هذه خلاصة لغزوة حنين التي اجتمع فيها للمسلمين - للمرة الأولى - جيش تعداده اثنا عشر ألفاً ، فلما أعجبتهم هذه الكثرة والقوة . . . أصيبوا بالهزيمة في أو معركة . . . ليعلموا أن كثرتهم لن تغنى عنهم شيئاً إذا لم يكن عون الله معهم .

فقوله - تعالى - : { لَقَدْ نَصَرَكُمُ الله فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئاً } تذكير للمؤمنين ببعض نعم الله عليهم ؛ حتى يداموا على طاعته ومحبته .

وحتى لا يغتروا بقوتهم مهما كثرت .

والمواطن : جمع موطن . وهو المكان الذي يقيم فيه الإِنسان . يقال : استوطن فلان بمكان كذا ، إذا جعله وطنا له .

والمراد بالمواطن هنا : الأماكن التي حدثت فيها الحروب بين المسلمين وأعدائهم .

قال الآلوسى : وقوله : { وَيَوْمَ حُنَيْنٍ } معطوف على محل مواطن وعطف ظرف الزمان على ظرف المكان وعكسه جائز . . . وأوجب الزمخشرى كون { يَوْمَ } منصوباً بفعل مضمر والعطف من قبيل عطف الجملة على الجملة . .

أى : " ونصركم يوم حنين " .

وقوله : { إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ } بدل من يوم حنين ، أو عطف بيان له .

وأعجبتكم : من الإِعجاب بمعنى السرور بما يتعجب منه . وسبب هذا الإِعجاب أن عدد المسلمين كان اثنا عشر ألفا ، وعددهم أعدائهم كان أربعة آلاف .

وقوله : { فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئاً } بيان للأثر السئ الذي أعقب الإِعجاب بالكثرة ، وأن سرورهم بهذه الكثرة لم يدم طويلاً ، بل تبعه الحزن والهزيمة .

وقوله : { تُغْنِ } من الغناء بمعنى النفع . تقول : ما يغنى عنه : هذا الشئ ، أى : ما يجزئ عنه وما ينفعك .

وقوله : { وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأرض بِمَا رَحُبَتْ } بيان لشدة خوفهم وفزعهم .

قال القرطبى : والرحب - بضم الراء - السعة . تقول منه : فلان رحب الصدر . والرحب - بالفتح - الواسع . تقول منه : بلد رحب وأرض رحبة .

وقيل : الباء بمعنى مع ، أى : وضاقت عليكم الأرض مع رحبها ، وقيل معنى على . أى : على رحبها . وقيل المعنى برحبها فتكون " ما " مصدرية .

والمعنى : اذكروا - أيها المؤمنون - نعم الله عليكم ، وحافظوا عليها بالشكر وحسن الطاعة ، ومن مظاهر هذه النعم أنه - سبحانه - قد نصركم على أعدائاكم مع قلتكم . في مواقف حروب كثيرة ؛ كغزوة بدر ، وغزوة بنى قينقاع والنضير . . كما نصركم . أيضاً . في يوم غزوة حنين ، وهو اليوم الذي راقتكم فيه كثرتكم فاعتمدتم عليها حتى قال بعضكم : لن نغلب اليوم من قلة . .

ولكن هذه الكثرة التي أعجبتم بها لم تنفعكم شيئاً من النفع في أمر العدو بل انهزمتم أمامه في أول الأمر ، وضاقت في وجوهكم الأرض مع رحابتها وسعتها بسبب شدة خوفكم ، فكنتم كما قال الشاعر :

كأن بلاد الله وهى عريضة . . . على الخائف المطلوب كِفَّة حابل

ووقوله : { ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ } تذييل مؤكد لما قبله وهو شدة خوفهم .

ووليتم : من التولى مبعنى الإِعراض . ومدبرين : من الإِبار بمعنى الذهاب إلى الخلف .

أى : ثم وليتم الكفار ظهوركم منهزمين لا تلوون على شئ .

وهكذا ، نرى الآية الكريمة تصور ما حدث من المؤمنين في غزوة حنين تصويراً بديعاً معجزاً . . فهى تنتقل من تصوير سرورهم بالكثرة ، إلى تصوير عدم نفعهم بهذه الكثرة ، إلى تصوير شدة خوفهم حتى لكأن الأرض على سعتها تضيق بهم ، وتقف في وجوههم ، إلى تصوير حركاتهم الحسية المتثلة في تولية الأدبار ، والنكوص على الأعقاب .

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{لَقَدۡ نَصَرَكُمُ ٱللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٖ وَيَوۡمَ حُنَيۡنٍ إِذۡ أَعۡجَبَتۡكُمۡ كَثۡرَتُكُمۡ فَلَمۡ تُغۡنِ عَنكُمۡ شَيۡـٔٗا وَضَاقَتۡ عَلَيۡكُمُ ٱلۡأَرۡضُ بِمَا رَحُبَتۡ ثُمَّ وَلَّيۡتُم مُّدۡبِرِينَ} (25)

قال ابن جُرَيْج ، عن مجاهد : هذه أول آية نزلت من [ سورة ]{[13310]} " براءة " .

يذكر تعالى للمؤمنين فضله عليهم وإحسانه لديهم في نصره إياهم في مواطن كثيرة من غزواتهم مع رسوله{[13311]} وأن ذلك من عنده تعالى ، وبتأييده وتقديره ، لا بعَددهم ولا بعُددهم ونبههم على أن النصر من عنده ، سواء قل الجمع أو كثر ، فإن يوم حُنين أعجبتهم كثرتهم ، ومع هذا ما أجدى ذلك عنهم شيئا فولوا مدبرين إلا القليل منهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم . ثم أنزل [ الله ]{[13312]} نصره وتأييده على رسوله وعلى المؤمنين الذين معه ، كما سنبينه إن شاء الله تعالى مفصلا ليعلمهم{[13313]} أن النصر من عنده تعالى وحده وبإمداده وإن قل الجمع ، فكم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله ، والله مع الصابرين .

وقد قال الإمام أحمد : حدثنا وهب بن جرير ، حدثنا أبي ، سمعت يونس يحدث عن الزهري ، عن عبيد الله ، عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " خير الصحابة أربعة ، وخير السرايا أربعمائة ، وخير الجيوش أربعة آلاف ، ولن تغلب اثنا عشر ألفا من قلة " .

وهكذا رواه أبو داود ، والترمذي{[13314]} ثم قال :{[13315]} هذا حديث حسن غريب ، لا يسنده كبير أحد غير جرير بن حازم ، وإنما روي عن الزهري ، عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلا .

وقد رواه ابن ماجه والبيهقي وغيره ، عن أكثم بن الجون ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، بنحوه{[13316]} والله أعلم .

وقد كانت وقعة : " حُنين " بعد فتح مكة في شوال سنة ثمان من الهجرة ، وذلك لما فرغ عليه السلام{[13317]} من فتح مكة ، وتمهدت أمورها ، وأسلم عامة أهلها ، وأطلقهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فبلغه أن

هوازن جمعوا له ليقاتلوه ، وأن أميرهم مالك بن عوف النَّضْري ، ومعه ثقيف بكمالها ، وبنو جُشم وبنو سعد بن بكر ، وأوزاع من بني هلال ، وهم قليل ، وناس من بني عمرو بن عامر ، وعوف بن عامر ، وقد أقبلوا معهم النساء والولدان والشاء والنَّعم ، وجاءوا بقَضِّهم وقَضِيضهم فخرج إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في جيشه الذي جاء{[13318]} معه للفتح ، وهو عشرة آلاف من المهاجرين والأنصار وقبائل العرب ، ومعه الذين أسلموا من أهل مكة ، وهم الطلقاء في ألفين أيضا ، فسار بهم إلى العدو ، فالتقوا بواد بين مكة والطائف يقال له " حنين " ، فكانت فيه الوقعة في أول النهار في غلس الصبح ، انحدروا في الوادي وقد كمنت فيه هوازن ، فلما تواجهوا لم يشعر المسلمون إلا بهم قد ثاوروهم{[13319]} ورشقوا بالنبال ، وأصلتوا السيوف ، وحملوا حملة رجل واحد ، كما أمرهم ملكهم . فعند ذلك ولى المسلمون مدبرين ، كما قال الله ، عز وجل{[13320]} وثبت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهو راكب يومئذ بغلته الشهباء يسوقها إلى نحر العدو ، والعباس عمه آخذ بركابها الأيمن ، وأبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب آخذ بركابها الأيسر ، {[13321]} يثقلانها لئلا تسرع السير ، وهو ينوه باسمه ، عليه الصلاة والسلام ، ويدعو المسلمين إلى الرجعة [ ويقول ] : " أين يا عباد الله ؟ إليَّ أنا رسول الله " ، ويقول في تلك الحال :

أنا النبي لا كذب *** أنا ابن عبد المطلب

وثبت معه من أصحابه قريب من مائة ، ومنهم من قال : ثمانون ، فمنهم : أبو بكر ، وعمر ، رضي الله عنهما ، والعباس وعلي ، والفضل بن عباس ، وأبو سفيان بن الحارث ، وأيمن بن أم أيمن ، وأسامة بن زيد ، وغيرهم ، رضي الله عنهم ثم أمر صلى الله عليه وسلم عمه العباس - وكان جهير الصوت - أن ينادي بأعلى صوته : يا أصحاب الشجرة - يعني شجرة بيعة الرضوان ، التي بايعه المسلمون من المهاجرين والأنصار تحتها ، على ألا يفروا عنه - فجعل ينادي بهم : يا أصحاب السمرة{[13322]} ويقول تارة : يا أصحاب سورة البقرة ، فجعلوا يقولون : يا لبيك ، يا لبيك ، وانعطف الناس فجعلوا يتراجعوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، حتى إن الرجل منهم إذا لم يطاوعه بعيره على الرجوع ، لبس درعه ، ثم انحدر عنه ، وأرسله ، ورجع بنفسه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم . فلما رجعت{[13323]} شرذمة منهم ، أمرهم عليه السلام{[13324]} أن يصدقوا الحملة ، وأخذ قبضة من التراب بعدما دعا ربه واستنصره ، وقال : " اللهم أنجز لي ما وعدتني " ثم رمى القوم بها ، فما بقي إنسان منهم إلا أصابه منها في عينيه وفمه ما شغله عن القتال ، ثم انهزموا ، فاتبع{[13325]} المسلمون أقفاءهم يقتلون ويأسرون ، وما تراجع بقية الناس إلا والأسارى مجدلة بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم .

وقال الإمام أحمد : حدثنا عفان ، حدثنا حماد بن سلمة ، أخبرنا يعلى بن عطاء ، عن عبد الله بن يسار أبي همام ، عن أبي عبد الرحمن الفهري - واسمه يزيد بن أسيد ، ويقال : يزيد بن أنيس ، ويقال : كُرْز - قال : كنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة حنين ، فسرنا في يوم قائظ شديد الحر ، فنزلنا تحت ظلال الشجر ، فلما زالت الشمس لبست لأمتي وركبت فرسي ، فانطلقت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في فسطاطه ، فقلت : السلام عليك يا رسول الله ورحمة الله ، حان الرواح ؟ فقال : " أجل " . فقال : " يا بلال " فثار من تحت سمرة{[13326]} كأن ظله ظل طائر ، فقال : لبيك وسعديك ، وأنا فداؤك{[13327]} فقال : " أسرج لي فرسي " . فأخرج سرجا دفتاه من ليف ، ليس فيهما أشرٌ ولا بَطَر .

قال : فأسرج ، فركب وركبنا ، فصاففناهم عشيتنا وليلتنا ، فتشامت الخيلان ، فولى المسلمون مدبرين ، كما قال الله ، عز وجل : ( ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ ) فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " يا عباد الله ، أنا عبد الله ورسوله " ، ثم قال : " يا معشر المهاجرين ، أنا عبد الله ورسوله " . قال : ثم اقتحم رسول الله صلى الله عليه وسلم عن فرسه{[13328]} فأخذ كفا من تراب ، فأخبرني الذي كان أدنى إليه مني : أنه ضرب به وجوههم وقال : " شاهت الوجوه " . فهزمهم الله عز وجل . قال يعلى بن عطاء : فحدثني أبناؤهم ، عن آبائهم ، أنهم قالوا : لم يبق منا أحد إلا امتلأت عيناه وفمه ترابا ، وسمعنا صلصلة بين السماء والأرض ، كإمرار الحديد على الطست{[13329]} الجديد .

وهكذا رواه الحافظ البيهقي في " دلائل النبوة " من حديث أبي داود الطيالسي ، عن حماد بن سلمة به{[13330]}

وقال محمد بن إسحاق : حدثني عاصم بن عمر بن قتادة ، عن عبد الرحمن بن جابر ، عن أبيه جابر عن عبد الله قال : فخرج مالك بن عوف بمن معه إلى حنين ، فسبق رسول الله صلى الله عليه وسلم إليه ، فأعدوا وتهيئوا في مضايق الوادي وأحنائه ، وأقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، حتى انحط بهم الوادي في عماية الصبح ، فلما انحط الناس ثارت في وجوههم الخيل ، فاشتدت عليهم ، وانكفأ الناس منهزمين ، لا يُقْبِل أحد عن أحد ، وانحاز رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات اليمين يقول : " أيها الناس{[13331]} هلموا إليَّ أنا رسول الله ، أنا رسول الله ، أنا محمد بن عبد الله " فلا شيء ، وركبت الإبل بعضها بعضا{[13332]} فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر الناس قال : " يا عباس ، اصرخ : يا معشر الأنصار ، يا أصحاب السمرة " . فأجابوه : لبيك ، لبيك ، فجعل الرجل يذهب ليعطف بعيره ، فلا يقدر على ذلك ، فيقذف درعه في عنقه ، ويأخذ سيفه وقوسه ، ثم يَؤُمَّ الصوت ، حتى اجتمع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم مائة ، فاستعرض الناسُ فاقتتلوا ، وكانت الدعوة أول ما كانت بالأنصار ، ثم جعلت آخرًا بالخزرج{[13333]} وكانوا صُبُرًا عند الحرب ، وأشرف رسول الله صلى الله عليه وسلم في ركائبه{[13334]} ( فنظر إلى مُجتَلَد القوم ، فقال : " الآن حمي الوَطيس " : قال : فوالله ما راجعه الناس إلا والأسارى عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ملقَون ، فقتل الله منهم من قتل ، وانهزم منهم من انهزم ، وأفاء الله على رسوله أموالهم وأبناءهم .

وفي الصحيحين من حديث شعبة ، عن أبي إسحاق ، عن البراء بن عازب ، رضي الله عنهما ، أنه قال له رجل : يا أبا عمارة ، أفررتم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين ، فقال : لكن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يفرّ ، إن هوازن كانوا قوما رُمَاة ، فلما لقيناهم وحَمَلنا عليهم انهزموا ، فأقبل الناس على الغنائم ، فاستقبلونا بالسهام ، فانهزم الناس ، فلقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو سفيان بن الحارث آخذ بلجام بغلة رسول الله صلى الله عليه وسلم البيضاء ، وهو يقول :

أنا النبي لا كذب*** أنا ابن عبد المطلب{[13335]}

قلت : وهذا في غاية ما يكون من الشجاعة التامة ، إنه في مثل هذا اليوم في حَومة الوَغَى ، وقد انكشف عنه جيشه ، هو مع ذلك{[13336]} على بغلة وليست سريعة الجري ، ولا تصلح لكرٍّ ولا لفرٍّ ولا لهرب ، وهو مع هذا{[13337]} أيضًا يركضها إلى وجوههم وينوِّه باسمه ليعرفه من لم يعرفه ، صلوات الله وسلامه عليه دائمًا إلى يوم الدين ، وما هذا كله إلا ثقة بالله ، وتوكلا عليه ، وعلمًا منه بأنه سينصره ، ويتم ما أرسله به ، ويظهر دينه على سائر الأديان ولهذا قال تعالى : ( ثُمَّ أَنزلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ )


[13310]:- زيادة من أ.
[13311]:- في ت : "رسول الله صلى الله عليه وسلم".
[13312]:- زيادة من ت ، أ.
[13313]:- في د : "ليعلم".
[13314]:- المسند (1/294) وسنن أبي داود برقم (2611) وسنن الترمذي برقم (1555).
[13315]:- في د : "وقال".
[13316]:- سنن ابن ماجه برقم (2827) وسنن البيهقي الكبرى (9/263) من طريق أبي سلمة العاملي عن الزهري عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأكثم بن الجون ، فذكر نحو حديث ابن عباس. وقال البوصيري في الزوائد (2/412) : "هذا إسناد ضعيف ؛ لضعف أبي سلمة العاملي الأزدي وعبد الملك بن محمد الصنعاني".
[13317]:- في أ : "رسوله الله صلى الله عليه وسلم".
[13318]:- في ت ، أ : "الذي جاءوا" ، وفي د : "الذين جاءوا".
[13319]:- في ت : "بادروهم".
[13320]:- في ت : "الله تعالى".
[13321]:- زيادة من ت ، أ.
[13322]:- في ت : "الشجرة".
[13323]:- في د : "اجتمعت".
[13324]:- في أ : "صلى الله عليه وسلم".
[13325]:- في ت ، د : "واتبع".
[13326]:- في ت : "شجرة".
[13327]:- في ك : "فداك".
[13328]:- في ت : "قرب".
[13329]:- في ت : "الطشت".
[13330]:- المسند (5/286) ودلائل النبوة (5/141).
[13331]:- في ت : "يأيها الناس".
[13332]:- في ك : "بعض".
[13333]:- في ت : "بالخروج".
[13334]:-في ك ، أ : "ركابه".
[13335]:- صحيح البخاري برقم (2864) ، وصحيح مسلم برقم (1776).
[13336]:- في ت ، د ، ك : "وهو مع هذا".
[13337]:- في ت ، د ، ك : "ذلك"