التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِۦ فَتَحۡنَا عَلَيۡهِمۡ أَبۡوَٰبَ كُلِّ شَيۡءٍ حَتَّىٰٓ إِذَا فَرِحُواْ بِمَآ أُوتُوٓاْ أَخَذۡنَٰهُم بَغۡتَةٗ فَإِذَا هُم مُّبۡلِسُونَ} (44)

ثم بين - سبحانه - أنه قد ابتلاهم بالنعم بعد أن عالجهم بالشدائد فلم يرتدعوا فقال - تعالى - :

{ فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حتى إِذَا فَرِحُواْ بِمَآ أوتوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُّبْلِسُونَ } .

والمعنى : فلما أعرضوا عن النذر والعظات التى وجهها إليهم الرسل ، فتحنا عليهم أبواب كل شىء من الرزق وأسباب القوة والجاه . حتى إذا اغتروا وبطروا بما أوتوا من ذلك أخذناهم بغتة فإذا هم متحسرون يائسون من النجاة .

ولفاء فى قوله - تعالى - { فَلَمَّا نَسُواْ } لتفصيل ما كان منهم . وبيان ما ترتب على كفرهم من عواقب قريبة وأخرى بعيدة .

والمراد بالنسيان هنا : الإعراض والترك . أى : تركوا الإهتداء بما جاء به الرسل حتى نسوه أو جعلوه كالمنسى فى عدم الاعتبار والاتعاظ به لإصرارهم على كفرهم ، وجمودهم على تقليد من قبلهم .

والتعبير بقوله - تعالى - { فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ } يرسم صورة بليغة لإقبال الدنيا عليهم من جميع أقطارها بجميع ألوان نعمها ، وبكل قوتها وإغرائها ، فهو اختبار لهم بالنعمة بعد أن ابتلاهم بالبأساء والضراء .

وعبر - سبحانه - عن إعطائهم النعمة بقوله : { بِمَآ أوتوا } بالبناء للمجهول لأنهم يحسبون أن ذلك بعلمهم وقدرتهم وحدهم ، كما قال قارون من قبل { إِنَّمَآ أُوتِيتُهُ على عِلْمٍ عندي } وأضاف - سبحانه - الأخذ إلى ذاته فى قوله { أَخَذْنَاهُمْ } لأنهم كانوا لا ينكرون ذلك ، بل كانوا ينسبون الخلق والإيجاد إلى الله - تعالى - .

وكان الأخذ بغتة ليكون أشد عليهم وأفظع هولا ، أى أخذناهم بعذاب الاستئصال حال كوننا مباغتين لهم . أو حال كونهم مبغوتين ، فقد فجأهم العذاب على غرة بدون إمهال .

وإذا فى قوله { فَإِذَا هُمْ مُّبْلِسُونَ } فجائية ، والمبلس : الباهت الحزين البائس من الخير ، الذى لا يحير جواباً لشدة ما نزل به من سوء الحال .

روى الإمام أحمد بسنده عن عقبة بن عامر عن النبى صلى الله عليه وسلم قال : " وإذا رأيت الله يعطى العبد من الدنيا على معاصيه ما يحب فإنما هو استدراج " ، ثم تلا قوله - تعالى - { فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ } . . الاية .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِۦ فَتَحۡنَا عَلَيۡهِمۡ أَبۡوَٰبَ كُلِّ شَيۡءٍ حَتَّىٰٓ إِذَا فَرِحُواْ بِمَآ أُوتُوٓاْ أَخَذۡنَٰهُم بَغۡتَةٗ فَإِذَا هُم مُّبۡلِسُونَ} (44)

40

وهذه الأمم التي يقص الله - سبحانه - من أنبائها على رسوله [ ص ] ومن وراءه من أمته . . لم تفد من الشدة شيئا . لم تتضرع إلى الله ، ولم ترجع عما زينه لها الشيطان من الإعراض والعناد . . وهنا يملي لها الله - سبحانه - ويستدرجها بالرخاء :

( فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء . حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة ، فإذا هم مبلسون . فقطع دابر القوم الذين ظلموا ، والحمد لله رب العالمين )

إن الرخاء ابتلاء آخر كابتلاء الشدة . وهو مرتبة أشد وأعلى من مرتبة الشدة ! والله يبتلي بالرخاء كما يبتلي بالشدة . يبتلي الطائعين والعصاة سواء . بهذه وبذاك سواء . . والمؤمن يبتلى بالشدة فيصبر ، ويبتلى بالرخاء فيشكر . ويكون أمره كله خيرا . . وفي الحديث : " عجبًا للمؤمن إن أمره كله له خير وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن ، إن أصابته سراء شكر فكان خيرا له ، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له " [ رواه مسلم ] .

فأما هذه الأمم التي كذبت بالرسل ، والتي يقص الله من أنبائها هنا . فإنهم لما نسوا ما ذكروا به ، وعلم الله - سبحانه - أنهم مهلكون ، وابتلاهم بالبأساء والضراء فلم يتضرعوا . . فأما هؤلاء فقد فتح عليهم أبواب كل شيء للاستدراج بعد الابتلاء . .

والتعبير القرآني : ( فتحنا عليهم أبواب كل شيء ) . . يصور الأرزاق والخيرات ، والمتاع ، والسلطان . . متدفقة كالسيول ؛ بلا حواجز ولا قيود ! وهي مقبلة عليهم بلا عناء ولا كد ولا حتى محاولة !

إنه مشهد عجيب ؛ يرسم حالة في حركة ؛ على طريقة التصوير القرآني العجيب .

( حتى إذا فرحوا بما أوتوًا ) . .

وغمرتهم الخيرات والأرزاق المتدفقة ؛ واستغرقوا في المتاع بها والفرح لها - بلا شكر ولا ذكر - وخلت قلوبهم من الاختلاج بذكر المنعم ومن خشيته وتقواه ؛ وانحصرت اهتماماتهم في لذائذ المتاع واستسلموا للشهوات ، وخلت حياتهم من الاهتمامات الكبيرة كما هي عادة المستغرقين في اللهو والمتاع . وتبع ذلك فساد النظم والأوضاع ، بعد فساد القلوب والأخلاق ؛ وجر هذا وذلك إلى نتائجه الطبيعية من فساد الحياة كلها . . عندئذ جاء موعد السنة التي لا تتبدل :

( أخذناهم بغتة ، فإذا هم مبلسون ) . .

فكان أخذهم على غرة ؛ وهم في سهوة وسكرة . فإذا هم حائرون منقطعو الرجاء في النجاة عاجزون عن التفكير في أي اتجاه . واذا هم مهلكون بجملتهم حتى آخر واحد منهم .

 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِۦ فَتَحۡنَا عَلَيۡهِمۡ أَبۡوَٰبَ كُلِّ شَيۡءٍ حَتَّىٰٓ إِذَا فَرِحُواْ بِمَآ أُوتُوٓاْ أَخَذۡنَٰهُم بَغۡتَةٗ فَإِذَا هُم مُّبۡلِسُونَ} (44)

{ فلما نسوا ما ذكروا به } من البأساء والضراء ولم يتعظوا به . { فتحنا عليهم أبواب كل شيء } من أنواع النعم مراوحة عليهم بين نوبتي الضراء والسراء ، وامتحانا لهم بالشدة والرخاء إلزاما للحجة وإزاحة للعلة ، أو مكرا بهم لما روي أنه عليه الصلاة والسلام قال " مكر بالقوم ورب الكعبة " . وقرأ ابن عامر { فتحنا } بالتشديد في جميع القرآن ووافقه يعقوب فيما عدا هذا والذي في " الأعراف " . { حتى إذا فرحوا } أعجبوا { بما أوتوا } من النعم ولا يزيدوا غير البطر والاشتغال بالنعم عن المنعم والقيام بحقه سبحانه وتعالى : { أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون } متحسرون آيسون .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِۦ فَتَحۡنَا عَلَيۡهِمۡ أَبۡوَٰبَ كُلِّ شَيۡءٍ حَتَّىٰٓ إِذَا فَرِحُواْ بِمَآ أُوتُوٓاْ أَخَذۡنَٰهُم بَغۡتَةٗ فَإِذَا هُم مُّبۡلِسُونَ} (44)

{ فلما نسوا } الآية ، عبر عن الترك بالنسيان إذا بلغ وجوه الترك الذي يكون معه نسيان وزوال المتروك عن الذهن ، وقرأ ابن عامر فيما روي عنه «فتّحنا » بتشديد التاء ، و { كل شيء } معناه مما كان سد عليهم بالبأساء والضراء من النعم الدنياوية ، فهو عموم معناه خصوص ، و { فرحوا } معناه بطروا وأشروا وأعجبوا وظنوا أن ذلك لا يبيد وأنه دال على رضى الله عنهم ، وهو استدراج من الله تعالى ، وقد روي عن بعض العلماء أنه قال : رحم الله عبداً تدبر هذه الآية { حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة } وقال محمد بن النضير الحارثي : أمهل القوم عشرين سنة ، وروى عقبة بن عامر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : «إذا رأيتم الله يعطي العباد ما يشاؤون على معاصيهم فذلك استدراج » ثم تلا { فلما نسوا } الآية كلها{[4918]} .

و { أخذناهم } ، وهو مصدر في موضع الحال لا يقاس عليه عند سيبويه ، و «المبلس » الحزين الباهت اليائس من الخير الذي لا ُيحير جواباً لشدة ما نزل به من سوء الحال{[4919]} .


[4918]:- أخرجه الإمام أحمد في مسنده، والطبراني في الكبير، والبيهقي في شعب الإيمان مع بعض التغيير في الألفاظ، ورمز له في "الجامع الصغير" بأنه حديث حسن. وفي نفس المعنى قال الحسن: "والله ما أحد من الناس بسط الله له في الدنيا فلم يخف أن يكون قد مكر له فيها إلا كان قد نقص عمله، وعجز رأيه. وما أمسكها الله عن عبد فلم يظن أنه خير له فيها إلا كان قد نقص عمله، وعجز رأيه".
[4919]:- وجاء على هذا المعنى قول العجاج: يا صاح هل تعرف رسما ُمْكرسا؟ قال نعم أعرفه وَأْبَلسا أي: تحيّر لهول ما رأى وسكت غمّا، ومن ذلك اشتق اسم (إبليس)، والمُكرس: الذي صار فيه الكرس (بالكسر) وهو أبوال الإبل وأبعارها التي يتلبد بعضها على بعض في الدار والدّمن.