وقوله : { قُلِ الله أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُواْ } تقرير وتأكيد لكون المدة التى لبثوها هى ما سبق بيانه فى الآية السابقة .
فكأنه - سبحانه - يقول : هذا هو فصل الخطاب فى المدة التى لبثوها راقدين فى كهفهم ، وقد أعلمك الله - تعالى - بذلك - أيها الرسول الكريم - ، وما أعلمك به فهو الحق الصحيح الذى لا يحوم حوله شك ، فلا تلتفت إلى غيره من أقوال الخائضين فى أمر هؤلاء الفتية ، فإن الله - تعالى - هو الأعلم بحقيقة ذلك .
ويرى بعضهم أن قوله - تعالى - : { وَلَبِثُواْ فِي كَهْفِهِمْ } حكاية لكلام أهل الكتاب فى المدة التى لبثها أهل الكهف نياما فى كهفهم ، وأن قوله { قُلِ الله أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُواْ } للرد عليهم .
وقد حكى الإِمام ابن كثير القولين . ورجح الأول منهما فقال : هذا خبر من الله - تعالى - لرسوله صلى الله عليه وسلم بمقدار ما لبث أصحاب الكهف فى كهفهم ، منذ أن أرقدهم الله إلى أن بعثهم وأعثر عليهم أهل ذلك الزمان . كان مقداره ثلاثمائة سنين وتسع سنين بالهلالية وهى ثلاثمائة سنة بالشمسية ، فإن تفاوت ما بين كل مائة سنة بالقمرية إلى الشمسية ثلاث سنين ، فلهذا قال بعد الثلاثمائة { وازدادوا تسعا } .
وقال قتادة فى قوله : { وَلَبِثُواْ فِي كَهْفِهِمْ . . } وهذا قول أهل الكتاب وقد رده الله - تعالى - بقوله : { قُلِ الله أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُواْ } .
وفى هذا الذى قاله قتادة نظر ، فإن الذى بأيدى أهل الكتاب أنهم لبثوا ثلاثمائة سنة من غير تسع ولو كان الله - تعالى - قد حكى قولهم لما قال : { وازدادوا تسعا } ، وظاهر الآية أنه خبر عن الله لا حكاية عنهم . . .
وقوله - تعالى - : { لَهُ غَيْبُ السماوات والأرض } تأكيد لاختصاصه - عز وجل - بعلم المدة التى لبثوها ، أى : له - سبحانه - وحده علم ما خفى وغاب من أحوال السموات والأرض ، وأحوال أهلهما ، كما قال - تعالى - : { إِنَّ الله لاَ يخفى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الأرض وَلاَ فِي السمآء } وقوله - سبحانه - : { أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ } صيغتا تعجب : أى : ما أبصره وما أسمعه - تعالى - والمراد أنه - سبحانه - لا يغيب عن بصره وسمعه شئ .
وجاءت هذه الجملة الكريمة بصيغة التعجب للدلالة على أن أمره - تعالى - فى الإِدراك خارج عما عليه إدراك المبصرين والسامعين . إذ لا يحجبه شئ ، ولا يتفاوت عنده لطيف وكثيف ، وصغير وكبير ، وجلى وخفى .
ثم ختم - سبحانه - الآية الكريمة بقوله : { مَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً } .
أى : ليس لأهل السموات ولا لأهل الأرض ولا لغيرهما غير الله - تعالى - نصير ينصرهم ، أو ولى يلى أمرهم . ولا يشرك - سبحانه - فى حكمه أو قضائه أحدا كائنا من كان من خلقه . كما قال - تعالى - { أَلاَ لَهُ الخلق والأمر تَبَارَكَ الله رَبُّ العالمين } هذا ، وقد ذكر المفسرون عند تفسيرهم لهذه الآيات مسائل منها .
( أ ) مكان الكهف الذى لجأ إليه هؤلاء الفتية ، والزمن الذى ظهروا فيه ، أما مكان الكهف فللعلماء فيه أقوال : من أشهرها أنه كان بالقرب من مدينة تسمى " أفسوس " وهى من مدن تركيا الآن ، قالوا إنها تبعد عن مدينة " أزمير " بحوالى أربعين ميلا ، وتعرف الآن باسم : " أيازبوك " .
وقيل : إنه كان ببلدة تدعى " أبسس " - بفتح الهمزة وسكون الباء وضم السين - وهذه البلدة من ثغور " طرسوس " بين مدينة حلب بسوريا ، وبلاد أرمينية وأنطاكية .
وقيل : إنه كان ببلدة تسمى " بتراء " بين خليج العقبة وفلسطين . . إلى غير ذلك من الأقوال الكثيرة ، التى لا نرى داعيا لذكرها ، لقلة فائدتها .
وأما الزمن الذى ظهروا فيه ، فيرى كثير من المفسرين أنه كان فى القرن الثالث الميلادى فى عهد الإِمبراطور الروماني " دقيانوس " الذى كان يحمل الناس حملا على عبادة الأصنام ، ويعذب من يخالف ذلك .
( ب ) العبر والعظات والأحكام التى تؤخذ من هذه القصة - ومن أهمها :
1- إثبات صدق الرسول صلى الله عليه وسلم فيما يبلغه عن ربه ، حيث أخبر - عن طريق ما أوحاه الله إليه من قرآن - عن قصة هؤلاء الفتية ، وبين وجه الحق فى شأنهم ورد على ما خاضه الخائضون فى أمرهم ، وصدق الله إذ يقول : { نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نبَأَهُم بالحق . . . } 2- الكشف عن جانب من بلاغة القرآن الكريم فى قصصه ، حيث ساق هذه القصة مجملة فى الآيات الأربع الأولى منها ، ثم ساقها مفصلة بعد ذلك تفصيلا حكيما . وفى ذلك ما فيه من تمكن أحداثها وهداياتها فى القلوب .
والمرشد العاقل هو الذى ينتفع بهذا الأسلوب القرآنى فى وعظه وإرشاده .
3- بيان أن الإِيمان متى استقر فى القلوب ، هان كل شئ فى سبيله . فهؤلاء الفتية آثروا الفرار بدينهم ، على البقاء فى أوطانهم ، لكى تسلم لهم عقيدتهم . . فهم كما قال - سبحانه - فى شأنهم : { إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُواْ بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى }
4- بيان أن على المؤمن أن يلجأ إلى الله بالدعاء - لا سيما عند الشدائد والكروب ، وأنه متى اتقى الله - تعالى - وأطاعه ، جعل له - سبحانه - من كل ضيق فرجا ، ومن كل هم مخرجا ، ورزقه من حيث لا يحتسب ، وصانه من السوء .
( قل : الله أعلم بما لبثوا له غيب السماوات والأرض . أبصر به وأسمع ) . .
فهذا هو فصل الخطاب في أمرهم ، يقرره عالم غيب السماوات والأرض . ما أبصره ، وما أسمعه ! سبحانه . فلا جدال بعد هذا ولا مراء .
ويعقب على القصة بإعلان الوحدانية الظاهرة الأثر في سير القصة وأحداثها : ( ما لهم من دونه من ولي . ولا يشرك في حكمه أحدا ) . .
وقوله : { قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا } أي : إذا سئلت عن لبثهم وليس عندك [ علم ]{[18105]} في ذلك وتوقيف{[18106]} من الله ، عز وجل{[18107]} فلا تتقدم فيه بشيء ، بل قل في مثل هذا : { اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ } أي : لا يعلم ذلك إلا هو أو من أطلعه الله عليه من خَلْقه ، وهذا الذي قلناه ، عليه غير واحد من علماء التفسير كمجاهد ، وغير واحد من السلف والخلف .
وقوله : { أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ } أي : إنه لبصير بهم سميع لهم .
قال ابن جرير : وذلك في معنى المبالغة في المدح ، كأنه قيل : ما أبصره وأسمعه ، وتأويل الكلام : ما أبصر الله لكل موجود ، وأسمعه لكل مسموع ، لا يخفى عليه من ذلك شيء .
ثم روي عن قتادة في قوله : { أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ } فلا أحد أبصر{[18108]} من الله ولا أسمع .
وقال ابن زيد : { أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ } يرى أعمالهم ، ويسمع ذلك منهم سميعًا بصيرًا .
وقوله : { مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا } أي : أنه تعالى هو الذي له الخلق والأمر ، الذي لا معقب لحكمه ، وليس له وزير ولا نصير ولا شريك ولا مشير ، تعالى وتقدس .
إن كان قوله تعالى : { ولبثوا في كهفهم } [ الكهف : 25 ] إخباراً مِن الله عن مدة لبثهم يكون قوله : { قل الله أعلم بما لبثوا } قطعاً للمماراة في مدة لبثهم المختلف فيها بين أهل الكتاب ، أي الله أعلم منكم بمدة لبثهم .
وإن كان قوله : { ولبثوا } حكاية عن قول أهل الكتاب في مدة لبثهم كان قوله : { قل الله أعلم بما لبثوا } تفويضاً إلى الله في علم ذلك كقوله : { قل ربي أعلم بعدتهم } [ الكهف : 22 ] .
وغيبُ السماوات والأرض ما غاب عِلمه عن الناس من موجودات السماوات والأرض وأحوالهم . واللام في { له } للملك . وتقديم الخبر المجرور لإفادة الاختصاص ، أي لله لا لغيره ، رداً على الذين يزعمون علم خبر أهل الكهف ونحوهم .
و { أبصر به وأسمع } صيغتا تعجيب من عموم علمه تعالى بالمغيبات من المسموعات والمبصرات ، وهو العلم الذي لا يشاركه فيه أحد .
وضمير الجمع في قوله : { ما لهم من دونه من ولي } يعود إلى المشركين الذين الحديث معهم . وهو إبطال لولاية آلهتهم بطريقة التنصيص على عموم النفي بدخول ( من ) الزائدة على النكرة المنفية .
وكذلك قوله : { ولا يشرك في حكمه أحداً } هو ردّ على زعمهم بأنّ الله اتخذ آلهتهم شركاء له في ملكه .
وقرأ الجمهور { ولا يشرك } برفع { يشرك } وبياء الغيبة . والضمير عائد إلى اسم الجلالة في قوله : { قل الله أعلم } . وقرأه ابن عامر بتاء الخطاب وجَزْم و { يشرك } على أن ( لا ) ناهية . والخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم مراد به أمته ، أو الخطاب لكل من يتلقاه .
وهنا انتهت قصة أصحاب الكهف بما تخللها ، وقد أكثر المفسرون من رواية الأخبار الموضوعة فيها .