ثم أبطل - سبحانه - بعض العادات التى كان متفشية فى المجتمع ، وكانت لا تتناسب مع شريعة الإِسلام وآدابه ، فقال - تعالى - : { مَّا جَعَلَ الله لِرَجُلٍ . . . . الله غَفُوراً رَّحِيماً } .
قال القرطبى ما ملخصه : قوله - تعالى - { مَّا جَعَلَ الله لِرَجُلٍ مِّن قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ } نزلت فى رجل من قريش اسمه جميل بن معمر الفهرى ، كان حفاظا لما يسمع ، وكان يقول : لى قلبان أعقل بهما أفضل من عقل محمد . فلما هزم المشركون يوم بدر ، ومعهم هذا الرجل ، رآه أبو سفيان وهو معلق إحدى نعليه فى يده والأخرى فى رجله - من شدة الهلع - ، فقال له أبو سفيان هو معلق إحدى نعليك فى يدك والأخرى فى رجلك ؟ قال : ما شعرت إلا أنهما فى رجلى . فعرفوا يومئذ أنه لو كان له قلبان لما نسى نعله فى يده .
وقيل سبب نزولها أن بعض المنافقين قال : إن محمدا صلى الله عليه وسلم له قلبان ، لأنه ربما كان فى شئ فنزع فى غيره نزعه ثم عاد إلى شأنه الأول ، فأكذبهم الله بقوله : { مَّا جَعَلَ الله لِرَجُلٍ مِّن قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ } .
ويرى بعضهم : أن هذه الجملة الكريمة ، مثل ضربه الله - تعالى - للمظاهر من امرأته ، والمتبنى ولد غيره ، تمهيدا لما بعده .
أى : كما أن الله - تعالى - لم يخلق للإِنسان قلبين فى جوفه ، كذلك لم يجعل المرأة الواحدة زوجا للرجل وأما له فى وقت واحد ، وكذلك لم يجعل المرء دعيا لرجل وابنا له فى زمن واحد .
وإلى هذا المعنى أشار صاحب الكشاف بقوله : أى : ما جمع الله قلبين فى جوف ، ولا زوجية وأمومة فى امرأة ، ولا بنوة ودعوة فى رجل . . لأن الأم مخدومة مخفوض لها الجناح ، والزوجة ليست كذلك .
ولأن البنؤة أصالة فى النسب وعراقة فيه ، والدعوة : إلصاق عارض بالتسمية لا غير .
فإن قلت : أى فائدة فى ذكر الجوف ؟ قلت : الفائدة فيه كالفائدة فى قوله - تعالى - : { ولكن تعمى القلوب التي فِي الصدور } وذلك ما يصلح للسامع من زيادة التصور والتجلى للمدلول عليه ، لأنه إذا سمع به ، صور لنفسه جوفا يشتمل على قلبين فكان أسرع إلى الإِنكار .
وقوله - سبحانه - : { وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللائي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ } إبطال لما كان سائدا من أن الرجل كان إذا قال لزوجته أنت على كظهر أمى حرمت عليه .
يقال . ظاهر فلان من امرأته وتظهر وظهر منها ، إذا قال لها : أنت على كظهر أمى ، يريد أنها محرمة عليه كحرمة أمه .
وقد جاء الكلام عن الظهار ، وعن حكمه ، وعن كفارته ، فى سورة المجادلة ، فى قوله - تعالى - : { قَدْ سَمِعَ الله قَوْلَ التي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وتشتكي إِلَى الله والله يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمآ إِنَّ الله سَمِيعٌ بَصِيرٌ الذين يُظَاهِرُونَ مِنكُمْ مِّن نِّسَآئِهِمْ مَّا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلاَّ اللائي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنكَراً مِّنَ القول وَزُوراً وَإِنَّ الله لَعَفُوٌّ غَفُورٌ }
وقوله - سبحانه - : { وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَآءَكُمْ أَبْنَآءَكُمْ } إبطال لعادة أخرى كانت موجودة ، وهى عادة التبنى .
والأدعياء : جمع دعى . وهو الولد الذى يدعى ابنا لغير أبيه وكان الرجل يتبنى ولد غيره ، ويجرى عليه أحكام البنوة النسبية ، ومنها حرمة زواج الأب بزوجه ابنه بالتبنى بعد طلاقها ، ومنها التوارث فيما بينهما .
قال ابن كثير : وقوله : { وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَآءَكُمْ أَبْنَآءَكُمْ } هذا هو المقصود بالنفى ، فإنها نزلت فى شأن زيد بن حارثة ، مولى النبى صلى الله عليه وسلم ، فقد كان صلى الله عليه وسلم قد تبناه قبل النبوة ، وكان يقال له زيد بن محمد . فأراد الله - تعالى - أن يقطع هذا الإِلحاق ، وهذه النسبة بقوله : { وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَآءَكُمْ أَبْنَآءَكُمْ } ، كما قال فى أثناء السورة : { مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَآ أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ ولكن رَّسُولَ الله وَخَاتَمَ النبيين } واسم الإِشارة فى قوله : { ذَلِكُمْ قَوْلُكُم بِأَفْوَاهِكُمْ } يعود إلى ما سبق ذكره من التلفظ بالظهار ، ومن إجراء التبنى على ولد الغير ، وهو مبتدأ ، وما بعده خبر .
أى : ذلكم الذى تزعمونه فى تشبيه الزوجة بالأم فى التحريم ، ومن نسبة الأبناء إلى غير آبائهم الشرعيين ، هو مجرد قول باللسان لا يؤيده الواقع ، ولا يسانده الحق .
قال ابن جرير : وقوله : { ذَلِكُمْ قَوْلُكُم بِأَفْوَاهِكُمْ } يقول - تعالى ذكره - هذا القول ، وهو قول الرجل لأمرأته : أنت على كظهر أمى ، ودعاؤه من ليس بابنه أنه ابنه ، إنما هو قولكم بأفواهكم ، لا حقيقة له ، ولا يثبت بهذه الدعوة نسب الذى ادعيت بنوته ، ولا تصير الزوجة أما بقول الرجل لها : أنت على كظهر أمى .
ثم ختم - سبحانه - الآية الكريمة بقوله : { والله يَقُولُ الحق وَهُوَ يَهْدِي السبيل } أى : والله - تعالى - يقول الحق الثابت الذى لا يحوم حوله باطل ، وهو - سبحانه - دونه غير يهدى ويرشد إلى السبيل القويم الذى يوصل إلى الخير والصلاح . وما دام الأمر كذلك فاتركوا عاداتكم وتقاليدكم التى ألفتموها . والتى أبطلها الله - تعالى - بحكمته ، وابتعوا ما يأمركم به - سبحانه - .
ويختم هذه التوجيهات بإيقاع حاسم مستمد من مشاهدة حسية :
( ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه ) . .
إنه قلب واحد ، فلا بد له من منهج واحد يسير عليه . ولا بد له من تصور كلي واحد للحياة وللوجود يستمد منه . ولا بد له من ميزان واحد يزن به القيم ، ويقوم به الأحداث والأشياء . وإلا تمزق وتفرق ونافق والتوى ، ولم يستقم على اتجاه .
ولا يملك الإنسان أن يستمد آدابه وأخلاقه من معين ؛ ويستمد شرائعه وقوانينه من معين آخر ؛ ويستمد أوضاعه الاجتماعية أو الاقتصادية من معين ثالث ؛ ويستمد فنونه وتصوراته من معين رابع . . فهذا الخليط لا يكون إنسانا له قلب . إنما يكون مزقا وأشلاء ليس لها قوام !
وصاحب العقيدة لا يملك أن تكون له عقيدة حقا ، ثم يتجرد من مقتضياتها وقيمها الخاصة في موقف واحد من مواقف حياته كلها ، صغيرا كان هذا الموقف أم كبيرا . لا يملك أن يقول كلمة ، أو يتحرك حركة ، أو ينوي نية . أو يتصور تصورا ، غير محكوم في هذا كله بعقيدته - إن كانت هذه العقيدة حقيقة واقعة في كيانه - لأن الله لم يجعل له سوى قلب واحد ، يخضع لناموس واحد ، ويستمد من تصور واحد ، ويزن بميزان واحد .
لا يملك صاحب العقيدة أن يقول عن فعل فعله : فعلت كذا بصفتي الشخصية . وفعلت كذا بصفتي الإسلامية ! كما يقول رجال السياسة أو رجال الشركات . أو رجال الجمعيات الاجتماعية أو العلمية وما إليها في هذه الأيام ! إنه شخص واحد له قلب واحد ، تعمره عقيدة واحدة . وله تصور واحد للحياة ، وميزان واحد للقيم . وتصوره المستمد من عقيدته متلبس بكل ما يصدر عنه ، في كل حالة من حالاته على السواء .
وبهذا القلب الواحد يعيش فردا ، ويعيش في الأسرة ، ويعيش في الجماعة ، ويعيش في الدولة . ويعيش في العالم . ويعيش سرا وعلانية . ويعيش عاملا وصاحب عمل . ويعيش حاكما ومحكوما . ويعيش في السراء والضراء . . فلا تتبدل موازينه ، ولا تتبدل قيمه ، ولا تتبدل تصوراته . . ( ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه ) . .
ومن ثم فهو منهج واحد ، وطريق واحد ، ووحي واحد ، واتجاه واحد . وهو استسلام لله وحده . فالقلب الواحد لا يعبد إلهين ، ولا يخدم سيدين ، ولا ينهج نهجين ، ولا يتجه اتجاهين . وما يفعل شيئا من هذا إلا أن يتمزق ويتفرق ويتحول إلى أشلاء وركام !
وبعد هذا الإيقاع الحاسم في تعيين المنهج والطريق يأخذ في إبطال عادة الظهار وعادة التبني . ليقيم المجتمع على أساس الأسرة الواضح السليم المستقيم :
( وما جعل أزواجكم اللائي تظاهرون منهن أمهاتكم . وما جعل أدعياءكم أبناءكم . ذلكم قولكم بأفواهكم ، والله يقول الحق وهو يهدي السبيل . ادعوهم لآبائهم هو أقسط عند الله . فإن لم تعلموا آباءهم فإخوانكم في الدين ومواليكم . وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به ولكن ما تعمدت قلوبكم . وكان الله غفورا رحيما ) .
كان الرجل في الجاهلية يقول لامرأته : أنت علي كظهر أمي . أي حرام محرمة كما تحرم علي أمي . ومن ساعتئذ يحرم عليه وطؤها ؛ ثم تبقى معلقة ، لا هي مطلقة فتتزوج غيره ، ولا هي زوجة فتحل له . وكان في هذا من القسوة ما فيه ؛ وكان طرفا من سوء معاملة المرأة في الجاهلية والاستبداد بها ، وسومها كل مشقة وعنت .
فلما أخذ الإسلام يعيد تنظيم العلاقات الإجتماعية في محيط الأسرة ؛ ويعتبر الأسرة هي الوحدة الاجتماعية الأولى ؛ ويوليها من عنايته ما يليق بالمحضن الذي تنشأ فيه الأجيال . . جعل يرفع عن المرأة هذا الخسف ؛ وجعل يصرف تلك العلاقات بالعدل واليسر . وكان مما شرعه هذه القاعدة : ( وما جعل أزواجكم اللائي تظاهرون منهن أمهاتكم ) . . فإن قولة باللسان لا تغير الحقيقة الواقعة ، وهي أن الأم أم والزوجة زوجة ؛ ولا تتحول طبيعة العلاقة بكلمة ! ومن ثم لم يعد الظهار تحريما أبديا كتحريم الأم كما كان في الجاهلية .
وقد روي أن إبطال عادة الظهار شرع فيما نزل من " سورة المجادلة " عندما ظاهر أوس بن الصامت من زوجه خولة بنت ثعلبة ، فجاءت إلى رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] تشكو تقول : يا رسول الله ، أكل مالي ، وأفنى شبابي ، ونثرت له بطني . حتى إذا كبرت سني وانقطع ولدي ، ظاهر مني . فقال [ صلى الله عليه وسلم ] " ما أراك إلا قد حرمت عليه " . فأعادت ذلك مرارا . فأنزل الله : قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها وتشتكي إلى الله ، والله يسمع تحاوركما ، إن الله سميع بصير . الذين يظاهرون منكم من نسائهم ما هن أمهاتهم ، إن أمهاتهم إلا اللائي ولدنهم ، وإنهم ليقولون منكرا من القول وزورا . وإن الله لعفو غفور . والذين يظاهرون من نسائهم ثم يعودون لما قالوا فتحرير رقبة - من قبل أن يتماسا - ذلكم توعظون به . والله بما تعملون خبير . فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين من قبل أن يتماسا ؛ فمن لم يستطع فإطعام ستين مسكينا . ذلك لتؤمنوا بالله ورسوله . وتلك حدود الله وللكافرين عذاب أليم . . فجعل الظهار تحريما مؤقتا للوطء - لا مؤبدا ولا طلاقا - كفارته عتق رقبة ، أو( صيام شهرين متتابعين أو( إطعام ستين مسكينا ) . وبذلك تحل الزوجة مرة أخرى ، وتعود الحياة الزوجية لسابق عهدها . ويستقر الحكم الثابت المستقيم على الحقيقة الواقعة : ( وما جعل أزواجكم اللائي تظاهرون منهن أمهاتكم ) . . وتسلم الأسرة من التصدع بسبب تلك العادة الجاهلية ، التي كانت تمثل طرفا من سوم المرأة الخسف والعنت ، ومن اضطراب علاقات الأسرة وتعقيدها وفوضاها ، تحت نزوات الرجال وعنجهيتهم في المجتمع الجاهلي .
يقول تعالى موطئا قبل المقصود المعنوي أمرا حسيا معروفا ، وهو أنه كما لا يكون للشخص الواحد قلبان في جوفه ، ولا تصير زوجته التي يظاهر منها بقوله : أنت عَلَيَّ كظهر أمي أمًا له ، كذلك لا يصير الدَّعيّ ولدًا للرجل إذا تبنَّاه فدعاه ابنا له ، فقال : { مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللائِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ } ، كقوله : { مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلا اللائِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ وَزُورًا } . [ المجادلة : 3 ] .
وقوله : { وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ } : هذا هو المقصود بالنفي ؛ فإنها نزلت في شأن زيد بن حارثة مولى النبي صلى الله عليه وسلم ، كان النبي صلى الله عليه وسلم قد تبناه قبل النبوة ، وكان يقال له : " زيد بن محمد " فأراد الله تعالى أن يقطع هذا الإلحاق وهذه النسبة بقوله : { وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ } كما قال في أثناء السورة : { مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا } [ الأحزاب : 40 ] وقال هاهنا : { ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ } يعني : تبنيكم لهم قول لا يقتضي أن يكون ابنا حقيقيا ، فإنه مخلوق من صلب رجل آخر ، فما يمكن أن يكون له أبوان ، كما لا يمكن أن يكون للبشر الواحد قلبان .
{ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ } : قال سعيد بن جبير { يَقُولُ الْحَقَّ } أي : العدل . وقال قتادة : { وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ } أي : الصراط المستقيم .
وقد ذكر غير واحد : أن هذه الآية نزلت في رجل من قريش ، كان يقال له : " ذو القلبين " ، وأنه كان يزعم أن له قلبين ، كل منهما بعقل وافر . فأنزل الله هذه الآية ردا عليه . هكذا روى العَوْفي عن ابن عباس . قاله مجاهد ، وعكرمة ، والحسن ، وقتادة ، واختاره ابن جرير .
وقال الإمام أحمد : حدثنا حسن ، حدثنا زهير ، عن قابوس - يعني ابن أبي ظِبْيَان - أن أباه حدثه قال : قلت لابن عباس : أرأيت قول الله تعالى{[23174]} : { مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ } ، ما عنى بذلك ؟ قال : قام رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما يصلي ، فخَطَر خَطْرَة ، فقال المنافقون الذين يصلون معه : ألا ترون له قلبين ، قلبا معكم وقلبا معهم ؟ فأنزل الله ، عز وجل : { مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ }{[23175]} .
وهكذا رواه الترمذي عن عبد الله بن عبد الرحمن الدارمي ، عن صاعد الحراني - وعن عبد بن حميد ، عن أحمد بن يونس - كلاهما عن زهير ، وهو ابن معاوية ، به . ثم قال : وهذا حديث حسن . وكذا رواه ابن جرير ، وابن أبي حاتم من حديث زهير ، به . {[23176]}
وقال عبد الرزاق : أخبرنا مَعْمَر ، عن الزهري ، في قوله : { مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ } قال : بلغنا أن ذلك كان في زيد بن حارثة ، ضُرب له مثل ، يقول : ليس ابن رجل آخر ابنك{[23177]} .
وكذا قال مجاهد ، وقتادة ، وابن زيد : أنها نزلت في زيد بن حارثة . وهذا يوافق ما قدَّمناه من التفسير ، والله أعلم .
اختلف الناس في السبب في قوله تعالى : { ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه } ، فقال ابن عباس سببها أن بعض المنافقين قال : إن محمداً له قلبان ، لأنه ربما كان في شيء فنزع في غيره نزعة ثم عاد إلى شأنه الأول فقالوا ذلك عنه فنفاه الله تعالى عنه ، وقال ابن عباس أيضاً بل سببه أنه كان في قريش في بني فهر رجل فهم يدعي أن له قلبين ويقال له ذو القلبين ، قال الثعلبي وهو أبو معمر{[9446]} وكان يقول : أنا أذكى من محمد وأفهم ، فلما وقعت هزيمة بدر طاش لبه وحدث أبا سفيان بن حرب بحديث كالمختل ، فنزلت الآية بسببه ونفياً لدعواه ، وقيل إنه كان ابن خطل{[9447]} ، قال الزهراوي جاء هذا اللفظ على جهة المثل في زيد بن حارثة والتوطئة لقوله تعالى : { وما جعل أدعياءكم أبناءكم } ، أي كما ليس لأحد قلبان كذلك ليس دعيه ابنه .
قال الفقيه الإمام القاضي : ويظهر من الآية أنها بجملتها نفي لأشياء كانت العرب تعتقدها في ذلك الوقت وإعلام بحقيقة الأمر ، فمنها أن بعض العرب كانت تقول : إن الإنسان له قلبان قلب يأمره وقلب ينهاه ، وكان تضاد الخواطر يحملها على ذلك ، ومن هذا قول الكميت : [ الطويل ]
تذكر من أنا ومن أين شربه . . . يؤامر نفسيه كذي الثلة الإبل{[9448]}
والناس حتى الآن يقولون إذا وصفوا أفكارهم في شيء ما يقول لي أحد قلبي كذا ويقول الآخر كذا ، وكذا كانت العرب تعتقد الزوجة إذا ظوهر منها بمنزلة الأم وتراه طلاقاً وكانت تعتقد الدعي المتبني ابناً فأعلم الله تعالى أنه لا أحد بقلبين ، ويكون في هذا أيضاً طعن على المنافقين الذي تقدم ذكرهم ، أي إنما هو قلب واحد ، فإما حله إيمان وإما حله كفر لأن درجة النفاق كأنها متوسطة يؤمن قلب ويكفر الآخر ، فنفاها الله تعالى وبين أنه قلب واحد ، وعلى هذا النحو يستشهد الإنسان بهذه الآية متى نسي شيئاً أو وهم يقول على جهة الاعتذار { ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه } ، أي إذا نسي قلبه الواحد يذكره الآخر ، وكذلك أعلم أن الزوجة لا تكون أماً وأن الدعي لم يجعله ابناً ، وقرأ نافع وابن كثير «اللاء » دون ياء ، وروي عن أبي عمرو وابن جبير «اللاي » بياء ساكنة بغير همز ، وقرأ ورش بياء ساكنة مكسورة من غير همز ، وقرأ عاصم وحمزة والكسائي وابن عامر وطلحة والأعمش بهمزة مكسورة بعدها ياء ، وقرأ ابن عامر «تظّاهرون » بشد الظاء وألف ، وقرأ عاصم والحسن وأبو جعفر وقتادة «تُظاهرون » بضم التاء وتخفيف الظاء ، وأنكرها أبو عمرو وقال : إنما هذا في المعاونة .
قال القاضي أبو محمد : وليس بمنكر ولفظة ظهار تقتضيه ، وقرأ الكسائي وحمزة وأبو بكر عن عاصم «تَظَاهرون » بفتح التاء والظاء مخففة ، وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو «تظّهّرون » بشد الظاء والهاء دون ألف ، وقرأ يحيى بن وثاب «تُظْهِرون » بضم التاء وسكون الظاء وكسر الهاء ، وفي مصحف أبيّ بن كعب «تتظهرون » بتاءين ، وكانت العرب تطلق تقول أنت مني كظهر أمي فنزلت الآية وأنزل الله تعالى كفارة الظهار ، وتفسير الظهار وبيانه أثبتناه في سورة المجادلة ، وقوله { وما جعل أدعياءكم أبناءكم } الآية سببها أمر زيد حارثة كانوا يدعونه زيد بن محمد ، وذلك أنه كان عبداً لخديجة ، فوهبته لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأقام معه مدة ثم جاء عمه وأبوه يرغبان في فدائه فقال لهما النبي صلى الله عليه وسلم - وذلك قبل البعث- : «خيراه فإن اختاركما فهو لكما دون فداء » ، فخيراه فاختار الرق مع محمد على حريته وقومه ، فقال محمد عليه السلام : «يا معشر قريش اشهدوا أنه ابني يرثني وأرثه » ، فرضي بذلك أبوه وعمه وانصرفا{[9449]} . وقوله تعالى : { بأفواهكم } تأكيد لبطلان القول ، أي أنه لا حقيقة له في الوجود إنما هو قول فقط ، وهذا كما تقول أنا أمشي إليك على قدم ، فإنما تؤكد بذلك المبرة وهذا كثير ، و { يهدي } معناه يبين ، فهو يتعدى بغير حرف جر ، وقرأ قتادة «يُهَدّي » بضم الياء وفتح الهاء وشد الدال ، و { السبيل } هو سبيل الشرع والإيمان ، وابن كثير والكسائي وعاصم في رواية حفص يقفون «السبيلا » ويطرحونها في الوصل ، وقرأ نافع وابن عامر وعاصم بالألف وصلاً ووقفاً ، وقرأ أبو عمرو وحمزة بغير ألف وصلاً ووقفاً ، وهذا كله في غير هذا الموضع{[9450]} ، واتفقوا هنا خاصة على طرح الألف وصلاً ووقفاً لمكان ألف الوصل التي تلقى اللام .