ثم صور - سبحانه - بعد ذلك مشهدا عجيبا من أحوال هؤلاء الفتية فقال : { وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظاً وَهُمْ رُقُودٌ . . . } .
والحسبان بمعنى الظن ، والأيقاظ جمع يقظ وهو ضد النائم ، والرقود : جمع راقد والمراد به هنا : النائم .
أى : وتظنهم - أيها المخاطب لو قدر لك أن تراهم - أيقاظا منتبهين ، والحال أنهم رقود أى : نيام .
وقالوا : وسبب هذا الظن والحسبان ، أن عيونه كانت مفتوحة ، وأنهم كانوا يتقلبون من جهة إلى جهة ، كما قال - تعالى - بعد ذلك : { وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ اليمين وَذَاتَ الشمال } .
أى : ونحركهم وهم رقود إلى الجهة التى تلى أيمانهم ، وإلى الجهة التى تلى شمائلهم ، رعاية منا لأجسامهم حتى لا تأكل الأرض شيئا منها بسبب طول رقادهم عليهم .
وعدد مرات هذا التقليب لا يعلمه إلا الله - تعالى - وما أورده المفسرون فى ذلك لم يثبت عن طريق النقل الصحيح ، لذا ضربنا صفحا عنه .
ثم بين - سبحانه - حالة - كلبهم فقال : { وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بالوصيد } .
والمراد بالوصيد - على الصحيح - فناء الكهف قريبا من الباب ، أو هو من الباب نفسه ، ومنه قول الشاعر : بأرض فضاء لا يسد وصيدها . أى : لا يسد بابها .
أى : وكلبهم الذى كان معهم فى رحلتهم ماد ذراعيه بباب الكهف حتى لكأنه يحرسهم ويمنع من الوصول إليهم .
وما ذكره بعض المفسرين هنا عن اسم الكلب وصفاته ، لم نهتم بذكره لعدم فائدته .
ثم ختم - سبحانه - الآية بقوله : { لَوِ اطلعت عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَاراً وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْباً } .
أى . لو عاينتهم وشاهدتهم - أيها المخاطب - لأعرضت بوجهك عنهم من هول ما رأيت . ولملئ قلبك خوفا ورعبا من منظرهم .
وقد أخذ العلماء من هذه الآية أحكاماً منها : أن صحبة الأخيار لها من الفوائد ما لها .
قال ابن كثير - رحمه الله - ربض كلبهم على الباب كما جرت به عادة الكلاب وهذا من سجيته وطبيعته حيث يربض ببابهم كأنه يحرسهم ، وكان جلوسه خارج الباب . لأن الملائكة لا تدخل بيتا فيه كلب - كما ورد فى الصحيح . . وشملت كلبهم بركتهم ، فأصابه ما أصابهم من النوم على تلك الحال ، وهذا فائدة صحبة الأخيار ، فإنه صار لهذا الكلب ذكر وخبر وشأن .
وقال القرطبى - رحمه الله - ما ملخصه : قال ابن عطية : وحدثنى أبى قال : سمعت أبا الفضل الجوهرى فى جامع مصر يقول على منبر وعظه سنة تسع وستين وأربعمائة : إن من أحب أهل الخير نال من بركتهم ، كلب أحب أهل فضل وصحبهم فذكره الله فى محكم تنزيله .
قلت - أى القرطبى - : إذا كان بعض الكلام نال هذه الدرجة العليا بصحبة ومخالطة الصلحاء والأولياء حتى أخبر الله بذلك فى كتابه ، فما ظنك بالمؤمنين المخالطين المحبين للأولياء . والصالحين ! ! بل فى هذا تسلية وأنس للمؤمنين المقصرين عن درجات الكلمات : المحبين للنبى صلى الله عليه وسلم وآله خير آله .
روى فى الصحيح عن أنس قال : " بينا أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم خارجان من المسجد ، فلقينا رجل عند سدة المسجد ، فقال : يا رسول الله . متى الساعة ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ما أعدَدْتَ لها ؟ " قال : فكأن الرجل استكان ، ثم قال : يا رسول الله ، ما أعددت لها كثير صلاة ولا صيام ولا صدقة ، ولكنى أحببت الله ورسوله : قال صلى الله عليه وسلم : " فأنت مع من أحببت " "
ثم يمضي السياق يكمل المشهد العجيب . وهم يقلبون من جنب إلى جنب في نومتهم الطويلة . فيحسبهم الرائي أيقاظا وهم رقود . وكلبهم - على عادة الكلاب - باسط ذراعيه بالفناء قريبا من باب الكهف كأنه يحرسهم . وهم في هيئتهم هذه يثيرون الرعب في قلب من يطلع عليهم . إذ يراهم نياما كالأيقاظ ، يتقلبون ولا يستيقظون . وذلك من تدبير الله كي لا يبعث بهم عابث ، حتى يحين الوقت المعلوم .
ذكر بعض أهل العلم أنهم لما ضرب الله على آذانهم بالنوم ، لم تنطبق{[18039]} أعينهم ؛ لئلا{[18040]} يسرع إليها البلى ، فإذا بقيت ظاهرة للهواء كان أبقى لها ؛ ولهذا قال تعالى : { وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ } وقد ذكر عن الذئب أنه ينام فيطبق عينًا ويفتح عينًا ، ثم يفتح هذه ويطبق هذه وهو راقد ، كما قال الشاعر{[18041]}
يَنَامُ بإحْدَى مُقْلتَيه وَيَتَّقِي *** بأخْرَى الرزايا فَهْوَ يَقْظَانُ نَائِمُ
وقوله تعالى : { وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ } قال بعض السلف : يقلبون في العام مرتين . قال ابن عباس : لو لم يقلبوا{[18042]} لأكلتهم الأرض .
وقوله : { وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ } قال ابن عباس ، وقتادة ومجاهد وسعيد بن جبير{[18043]} الوصيد : الفناء .
وقال ابن عباس : بالباب . وقيل : بالصعيد ، وهو التراب . والصحيح أنه بالفناء ، وهو الباب ، ومنه قوله تعالى : { إِنَّهَا عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ } [ الهمزة : 8 ] أي : مطبقة مغلقة . ويقال : " وَصِيد " و " أصيد " .
ربض كلبهم على الباب كما جرت به عادة الكلاب .
قال ابن جريج{[18044]} يحرس عليهم الباب . وهذا من سجيته وطبيعته ، حيث يربض{[18045]} ببابهم كأنه يحرسهم ، وكان جلوسه خارج الباب ؛ لأن الملائكة لا تدخل بيتًا فيه كلب - كما ورد في الصحيح{[18046]} - ولا صورة ولا جُنُب ولا كافر ، كما ورد به الحديث الحسن{[18047]} وشملت كلبهم بركتهم ، فأصابه ما أصابهم من النوم على تلك الحال . وهذا فائدة صحبة الأخيار ؛ فإنه صار لهذا الكلب ذكر وخبر وشأن .
وقد قيل : إنه كان كلب صيد لأحدهم ، وهو الأشبه . وقيل : كان كلب طباخ الملك ، وقد كان وافقهم على الدين فصحبه كلبه فالله أعلم .
وقد روى الحافظ ابن عساكر في ترجمة " همام بن الوليد الدمشقي " : حدثنا صَدَقَة بن عمر الغَسَّاني ، حدثنا عباد المِنْقَري ، سمعت الحسن البصري ، رحمه الله ، يقول : كان اسم كبش إبراهيم : جرير واسم هدهد سليمان : عَنْقَز ، واسم كلب أصحاب الكهف : قطمير ، واسم عجل بني إسرائيل الذي عبدوه : بهموت . وهبط آدم ، عليه السلام ، بالهند ، وحواء بجدة ، وإبليس بدست بيسان ، والحية بأصبهان{[18048]}
وقد تقدم{[18049]} عن شعيب الجبائي أنه سماه : حمران .
واختلفوا في لونه{[18050]} على أقوال لا حاصل لها ، ولا طائل تحتها ولا دليل عليها ، ولا حاجة إليها ، بل هي مما ينهى عنه ، فإن مستندها رجم بالغيب .
وقوله تعالى : { لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا } أي : أنه تعالى ألقى عليهم المهابة بحيث لا يقع نظر أحد عليهم إلا هابهم ؛ لما ألبسوا من المهابة والذعر ، لئلا يدنو منهم أحد ولا تمسهم{[18051]} يد لامس ، حتى يبلغ الكتاب أجله ، وتنقضي رقدتهم التي شاء تبارك وتعالى فيهم ، لما له في ذلك من الحجة والحكمة{[18052]} البالغة ، والرحمة الواسعة .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظاً وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلّبُهُمْ ذَاتَ اليَمِينِ وَذَاتَ الشّمَالِ وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالوَصِيدِ لَوِ اطّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوْلّيْتَ مِنْهُمْ فِرَاراً وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْباً } .
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : وتحسب يا محمد هؤلاء الفتية الذين قصصنا عليك قصتهم ، لو رأيتهم في حال ضربنا على آذانهم في كهفهم الذي أووا إليه أيقاظا . والأيقاظ : جمع يَقِظ ومنه قول الراجز :
وَوَجَدُوا إخْوَتهُمْ أيْقاظا *** وسَيْفَ غَيّاظٍ لَهُمْ غَيّاظا
وقوله : وَهُمْ رُقُودٌ يقول : وهم نيام . والرقود : جمع راقد ، كالجلوس : جمع جالس ، والقعود : جمع قاعد . وقوله : وَنُقَلّبُهُمْ ذَاتَ اليَمِينَ وَذَاتَ الشّمالِ يقول جلّ ثناؤه : ونقلّب هؤلاء الفتية في رقدتهم مرّة للجنب الأيمن ، ومرّة للجنب الأيسر ، كما :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : وَنُقَلّبُهُمْ ذَاتَ اليَمِينِ وَذَات الشّمالِ وهذا التقليب في رقدتهم الأولى . قال : وذُكر لنا أن أبا عياض قال : لهم في كل عام تقليبتان .
حُدثت عن يزيد ، قال : أخبرنا سفيان بن حسين ، عن يعلى بن مسلم عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس وَنُقَلّبُهُمْ ذَاتَ اليَمِينِ وَذَاتَ الشّمالِ قال : لو أنهم لا يقلّبون لأكلتهم الأرض .
وقوله : وكَلْبُهُمْ باسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بالوَصِيدِ اختلف أهل التأويل في الذي عنى الله بقوله : وكَلْبُهُمْ باسِطٌ ذِرَاعَيْهِ فقال بعضهم : هو كلب من كلابهم كان معهم . وقد ذكرنا كثيرا ممن قال ذلك فيما مضى . وقال بعضهم : كان إنسانا من الناس طباخا لهم تَبِعهم .
وأما الوصيد ، فإن أهل التأويل اختلفوا في تأويله ، فقال بعضهم : هو الفِناء . ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : بالوَصِيد يقول : بالفِناء .
حدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن بن مَهديّ ، قال : حدثنا محمد بن أبي الوضّاح ، عن سالم الأفطس ، عن سعيد بن جبير وكَلْبُهُمْ باسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بالوَصِيدِ قال : بالفناء .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحرث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد بالوَصِيد قال : بالفناء .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد بالوَصِيد قال : بالفناء . قال ابن جريج : يمسك باب الكهف .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة وَكَلْبُهُمْ باسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بالوَصِيدِ يقول : بفناء الكهف .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، قوله : بالوَصِيدِ قال : بفناء الكهف .
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : حدثنا عبيد بن سليمان ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : بالوَصِيدِ قال : يعني بالفناء .
وقال آخرون : الوَصِيد : الصعيد . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : وكَلْبُهُمْ باسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بالوَصِيدِ يعني فناءهم ، ويقال : الوصيد : الصعيد .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا يعقوب ، عن هارون ، عن عنترة ، عن سعيد بن جبير ، في قوله : وكَلْبُهُمْ باسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بالوَصِيدِ قال : الوصيد : الصعيد .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا الحكم بن بشير ، عن عمرو ، في قوله : وكَلْبُهُمْ باسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بالوَصِيدِ قال : الوصيد : الصعيد ، التراب .
وقال آخرون : الوصيد الباب . ذكر من قال ذلك :
حدثني زكريا بن يحيى بن أبي زائدة ، قال : حدثنا أبو عاصم ، عن شبيب ، عن عكرمة ، عن ابن عباس وكَلْبُهُمْ باسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بالوَصِيدِ قال : بالباب ، وقالوا بالفناء .
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب ، قول من قال : الوصيد : الباب ، أو فناء الباب حيث يغلق الباب ، وذلك أن الباب يُوصَد ، وإيصاده : إطباقه وإغلاقه من قول الله عزّ وجلّ : إنّهَا عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ وفيه لغتان : الأصيد ، وهي لغة أهل نجد ، والوصيد : وهي لغة أهل تهامة . وذُكِر عن أبي عمرو بن العلاء ، قال : إنها لغة أهل اليمن ، وذلك نظير قولهم : ورّخت الكتاب وأرخته ، ووكدت الأمر وأكدته فمن قال الوصيد ، قال : أوصدت الباب فأنا أُوصِده ، وهو مُوصَد ومن قال الأصيد ، قال : آصدت الباب فهو مُؤْصَد ، فكان معنى الكلام : وكلبهم باسط ذَراعيه بفناء كهفهم عند الباب ، يحفظ عليهم بابه .
وقوله : لَوِ اطّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارا يقول : لو اطلعت عليهم في رقدتهم التي رقدوها في كهفهم ، لأدبرت عنهم هاربا منهم فارّا ، وَلُمِلئْتَ مِنْهُمْ رُعْبا يقول : ولملئت نفسُك من اطلاعك عليهم فَزَعا ، لما كان الله ألبسهم من الهيبة ، كي لا يصل إليهم واصل ، ولا تلمِسهم يد لامس حتى يبلغ الكتاب فيهم أجله ، وتوقظهم من رقدتهم قدرته وسلطانه في الوقت الذي أراد أن يجعلهم عبرة لمن شاء من خلقه ، وآية لمن أراد الاحتجاج بهم عليه من عباده ، ليعلموا أن وعد الله حقّ ، وأنّ الساعة آتية لا ريب فيها .
واختلفت القرّاء في قراءة قوله : وَلُملِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبا فقرأته عامة قرّاء المدينة بتشديد اللام من قوله : «ولُملّئْتَ » بمعنى أنه كان يمتلىءَ مرّة بعد مرّة . وقرأ ذلك عامة قراء العراق : وَلُملِئْتَ بالتخفيف ، بمعنى : لملئت مرّة ، وهما عندنا قراءتان مستفيضتان في القراءة ، متقاربتا المعنى ، فبأيتهما قرأ القارىء فمصيب .