ثم بين - سبحانه - أنه لا مفر لهم من الموت ، وأنهم مهما فروا منه فإنه سيلقاهم آجلا أو عاجلا فقال - تعالى - : { أَيْنَمَا تَكُونُواْ يُدْرِككُّمُ الموت وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ } .
والبروج : مع برج وهو الحصن المنيع الذى هو نهاية ما يصل إليه البشر فى التحصن والمنعة . وأصل البروج من التبرج بمعنى الظهور . يقال : تبرجت المرأة ، إذا أظهرت محاسنها . والمراد بها الحصون والقلاع الشاهقة المنيعة .
والمشيدة : أى المحكة البناء ، والعظيمة الارتفاع من شاد القصر إذا رفعه ، والمعنى : إنكم أيها الخائفون من القتال إن ظننتم أن هذا الخوف منه أو القعود عنه سينجيكم من الموت ، فأنتم بهذا الظن مخطئون ، لأن الموت حيثما سيدرككم ، ولو كنتم فى أقوى الحصون ، وأمنعها وأحكمها بناء ، وما دام الأمر كذلك فليكن موتكم وأنتم مقبلون بدل أن تموتوا وأنتم مدبرون .
والجملة الكريمة لا محل لها من الإِعراب ، لأنها مسوقة على سبيل الاستئناف لتبكيت هؤلاء الكارهين للقتال ، وتحريض غيرهم من المؤمنين على الإِقدام عليه من أجل نصرة الحق .
ويحتمل أنها فى محل نصب ، فتكون داخلة فى حيز القول المأمور به الرسول صلى الله عليه وسلم أى : قل لهم يا محمد متاع الدنيا قليل . وقل لهم { أَيْنَمَا تَكُونُواْ يُدْرِككُّمُ الموت } .
وأين : اسم شرط جازم ظرف مكان يجزم فعلين ، و " ما " زائدة للتأكيد ، وتكونوا فعل الشرط ويدرككم جوابه .
والتعبير بقوله { يُدْرِككُّمُ } للإِشعار بأن الموت كأنه كائن حى يطلب الإِنسان ويتبعه حيثما كان ، وفى أى وقت كان ، فهو طالب لابد أن يدرك ما يطلبه ولا بد أن يصل إليه هما تحصن منه ، أو هرب من لقائه .
وجواب ( لو ) محذوف اعتماداً على دلالة ما قبله عليه أى : ولو كنتم فى بروج مشيدة لأدرككم الموت .
وقريب فى المعنى من هذه الآية قوله - تعالى - { قُل لَّن يَنفَعَكُمُ الفرار إِن فَرَرْتُمْ مِّنَ الموت أَوِ القتل } وقوله - تعالى - { قُلْ إِنَّ الموت الذي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاَقِيكُمْ } فالجملة الكريمة صريحة فى بيان أن الموت أمر لا مفر منه ، ولا مهرب عنه سواء أقاتل الإِنسان أم لم يقاتل . وما أحسن قول زهير بن أبى سلمى :
ومن هاب أسباب المنايا ينلنه . . . ولو رام أسباب السماء بسلم
ثم حكى - سبحانه - ما كان يتفوه به المنافقون وإخوانهم فى الكفر من باطل وزور فقال - تعالى : { وَإِن تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُواْ هذه مِنْ عِندِ الله وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُواْ هذه مِنْ عِندِكَ قُلْ كُلٌّ مِّنْ عِندِ الله } .
أى : إن هؤلاء المنافقين وأشباههم ، من ضعاف الإِيمان وإخوانهم فى الكفر بلغ بهم الفجور أنهم إذا أصابتهم حال حسنة من نعمة أو رخاء أو خصب أو غنيمة أو ظفر قالوا هذه الحال من عند الله ، وإذا أصابتهم حال سيئة من جدب أو مصيبة أو هزيمة قالوا هذه الحال من عندك يا محمد بسبب شؤمك وسوء قيادتك - وحاشاه من ذلك صلى الله عليه وسلم - .
وهذا القول منهم قريب من قول قوم فرعون لموسى - عليه السلام - كما حكاه القرآن عنهم فى قوله : { فَإِذَا جَآءَتْهُمُ الحسنة قَالُواْ لَنَا هذه وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُواْ بموسى وَمَن مَّعَهُ } قال القرطبى : نزلت هذه الآية فى اليهود والمنافقين ، وذلك أنهم لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة عليهم قالوا : ما زلنا نعرف النقص فى ثمارنا ومزارعنا منذ قدم علينا هذا الرجل وأصحابه . قال ابن عباس : ومعنى { مِنْ عِندِكَ } أى : بسوء تدبيرك . وقيل { مِنْ عِندِكَ } أى بشؤمك الذى لحقنا ، قالوه على جهة التطير .
وقوله { قُلْ كُلٌّ مِّنْ عِندِ الله } أمر من الله لنبيه صلى الله عليه وسلم بأن يرد على مزاعمهم الباطلة . أى قل لهم يا محمد كل واحدة من النعمة والمصيبة هى من جهة الله - تعالى خلقا وإيجاداً من غير أن يكون لى مدخل فى وقوع شئ منها بوجه من الوجوه كما تزعمون :
وقوله { فَمَالِ هؤلاء القوم لاَ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً } جملة معترضة مسوقة لتعييرهم بالجهل والغباوة ، والفاء فى قوله { فَمَالِ } لترتيب ما عدها على ما قبلها والمعنى . وإذا كان الأمر كذلك وهو أن كل شئ من عند الله ، فمال هؤلاء القوم من المنافقين وإخوانهم فى الكفر وضعف الإِيمان لا يكادون - لانطماس بصيرتهم - يفقهون ما يلقى عليهم من مواعظ ، ولا يفهمون معنى ما يسمعون وما يقولون ، إذ لو فقهوا شيئا مما يوعظون به لعلموا أن الله هو القابض الباسط ، وأنه المعطى المانع .
قال - تعالى - { مَّا يَفْتَحِ الله لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فَلاَ مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلاَ مُرْسِلَ لَهُ مِن بَعْدِهِ وَهُوَ العزيز الحكيم }
هنا تجيء اللمسة الأخرى . اللمسة التي تصحح التصور عن حقيقة الموت والحياة ، والأجل والقدر ؛ وعلاقة هذا كله بتكليف القتال ، الذي جزعوا له هذا الجزع ، وخشوا الناس فيه هذه الخشية !
( أينما تكونوا يدرككم الموت ، ولو كنتم في بروج مشيدة ) . .
فالموت حتم في موعده المقدر . ولا علاقة له بالحرب والسلم . ولا علاقة له بحصانة المكان الذي يحتمي به الفرد أو قلة حصانته . ولا يؤخره أن يؤخر عنهم تكليف القتال إذن ؛ ولا هذا التكليف والتعرض للناس في الجهاد يعجله عن موعده . .
هذا أمر وذاك أمر ؛ ولا علاقة بينهما . . إنما العلاقة هناك بين الموت والأجل . بين الموعد الذي قدره الله وحلول ذلك الموعد . . وليست هنالك علاقة أخرى . . ولا معنى إذن لتمني تأجيل القتال . ولا معنى إذن لخشية الناس في قتال أو في غير قتال !
وبهذه اللمسة الثانية يعالج المنهج القرآني كل ما يهجس في الخاطر عن هذا الأمر ؛ وكل ما ينشئه التصور المضطرب من خوف ومن ذعر . .
إنه ليس معنى هذا ألا يأخذ الإنسان حذره وحيطته وكل ما يدخل في طوقه من استعداد وأهبه ووقاية . . فقد سبق أن أمرهم الله بأخذ الحذر . وفي مواضع أخرى أمرهم بالاحتياط في صلاة الخوف . وفي سور أخرى أمرهم باستكمال العدة والأهبة . . ولكن هذا كله شيء ، وتعليق الموت والأجل به شيء آخر . . إن أخذ الحذر واستكمال العدة أمر يجب أن يطاع ، وله حكمته الظاهرة والخفية ، ووراءه تدبير الله . . وإن التصور الصحيح لحقيقة العلاقة بين الموت والأجل المضروب - رغم كل استعداد واحتياط - أمر آخر يجب أن يطاع ؛ وله حكمته الظاهرة والخفية ، ووراءه تدبير الله . .
توازن واعتدال . وإلمام بجميع الأطراف . وتناسق بين جميع الأطراف . .
هذا هو الإسلام . وهذا هو منهج التربية الإسلامي ، للأفراد والجماعات . .
وبهذا ربما ينتهي الحديث عن تلك الطائفة من المهاجرين . ويبدأ الحديث عن طائفة أخرى من الطوائف المنبثة في المجتمع الإسلامي ، والتي يتألف منها الصف المسلم ومن سواها . . هذا وإن كان السياق لا انقطاع فيه ، ولا فصل ، ولا وقفة تنبى ء بأن الحديث الآتي عن طائفة أخرى ، وأن الحديث عن هذه الطائفة قد انتهى . . ولكننا نمضي مع الاعتبارات التي أسلفناها :
( وإن تصبهم حسنة يقولوا : هذه من عند الله . وإن تصبهم سيئة يقولوا : هذه من عندك ! قل : كل من عند الله . فما لهؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثا ؟ ! ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك . وأرسلناك للناس رسولا . وكفى بالله شهيدا . من يطع الرسول فقد أطاع الله ، ومن تولى فما أرسلناك عليهم حفيظًا ) . .
إن الذين يقولون هذا القول ، وينسبون ما يصيبهم من الخير إلى الله ، وما يصيبهم من الضر إلى النبي [ ص ] يحتمل فيهم وجوه :
الوجه الأول : أنهم يتطيرون بالنبي [ ص ] فيظنونه - حاشاه - شؤما عليهم . يأتيهم السوء من قبله . فإن أجدبت السنة ، ولم تنسل الماشية ، أو إذا أصيبوا في موقعة ؛ تطيروا بالرسول [ ص ] فأما حين يصيبهم الخير فينسبون هذا إلى الله !
الوجه الثاني : أنهم يريدون عامدين تجريح قيادة الرسول [ ص ] تخلصا من التكاليف التي يأمرهم بها . وقد يكون تكليف القتال منها - أو أخصها - فبدلا من أن يقولوا : إنهم ضعاف يخشون مواجهة القتال ، يتخذون ذلك الطريق الملتوي الآخر ! ويقولون : إن الخير يأتيهم من الله ، وإن السوء لا يجيئهم إلا من قبل الرسول [ ص ] ومن أوامره . وهم يعنون بالخير أو السوء النفع أو الضر القريب الظاهر !
والوجه الثالث : هو سوء التصور فعلا لحقيقة ما يجري لهم وللناس في هذه الحياة ، وعلاقته بمشيئة الله . وطبيعة أوامر النبي [ ص ] لهم ؛ وحقيقة صلة الرسول بالله سبحانه وتعالى . .
وهذا الوجه الثالث - إذا صح - ربما يكون قابلا لأن يوسم به ذلك الفريق من المهاجرين الذين كان سوء تصورهم لحقيقة الموت والأجل ، يجعلهم يخشون الناس كخشية الله أو أشد خشية . ويقولون : ( ربنا لم كتبت علينا القتال ؟ لولا أخرتنا إلى أجل قريب ) . . غير أننا ما نزال نميل إلى اعتبار المتحدث عنهم هنا طائفة أخرى . . تجتمع فيها تلك الأوجه كلها أو بعضها . وهذا الوجه الثالث منها . .
إن القضية التي تتناولها هذه الآيات ، هي جانب من قضية كبيرة . . القضية المعروفة في تاريخ الجدل والفلسفة في العالم كله باسم " قضية القضاء والقدر " أو " الجبر والاختيار " . . وقد وردت في أثناء حكاية ذلك الفريق من الناس ؛ ثم في الرد عليهم ، وتصحيح تصورهم . والقرآن يتناولها ببساطة واضحة لا تعقيد فيها ولا غموض . . فلنعرضها كما وردت وكما رد عليها القرآن الكريم :
وإن تصبهم حسنة يقولوا : هذه من عند الله . وإن تصبهم سيئة يقولوا هذه من عندك . قل : كل من عند الله . فما لهؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثا ؟ . .
إن الله هو الفاعل الأول ، والفاعل الواحد ، لكل ما يقع في الكون ، وما يقع للناس ، وما يقع من الناس . فالناس يملكون أن يتجهوا وأن يحاولوا . ولكن تحقق الفعل - أي فعل - لا يكون إلا بإرادة من الله وقدر .
فنسبة إنشاء الحسنة أو إنشاء السيئة ، وإيقاعها بهم ، للرسول [ ص ] وهو بشر منهم مخلوق مثلهم - نسبة غير حقيقية ؛ تدل على عدم فقههم لشيء ما في هذا الموضوع .
إن الإنسان قد يتجه ويحاول تحقيق الخير ؛ بالوسائل التي أرشد الله إلى أنها تحقق الخير . ولكن تحقق الخير فعلا يتم بإرادة الله وقدره . لأنه ليست هناك قدرة - غير قدرة الله - تنشى ء الأشياء والأحداث وتحقق ما يقع في هذا الكون من وقائع . وإذن يكون تحقق الخير - بوسائله التي اتخذها الإنسان وباتجاه الإنسان وجهده - عملا من أعمال القدرة الإلهية .
وإن الإنسان قد يتجه إلى تحقيق السوء . أو يفعل ما من شأنه إيقاع السوء . ولكن وقوع السوء فعلا ، ووجوده أصلا ، لا يتم إلا بقدرة الله وقدر الله . لأنه ليس هناك قدرة منشئة للأشياء والأحداث في هذا الكون غير قوة الله .
وقوله : { أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكُكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ } أي : أنتم صائرون إلى الموت لا محالة ، ولا ينجو منه أحد منكم ، كما قال تعالى : { كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ [ وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وِالإكْرَامِ ]{[7906]} } [ الرحمن : 26 ، 27 ] وقال تعالى { كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ } [ آل عمران : 185 ] وقال تعالى : { وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ } [ الأنبياء : 34 ] والمقصود : أن كل أحد صائر إلى الموت لا محالة ، ولا ينجيه من ذلك شيء ، وسواء عليه جاهد أو لم يجاهد ، فإن له أجلا محتوما ، وأمدا مقسوما ، كما قال خالد بن الوليد حين جاء الموت على فراشه : لقد شهدت كذا وكذا موقفا ، وما من عضو من أعضائي إلا وفيه جرح من طعنة أو رمية ، وها أنا أموت على فراشي ، فلا نامت أعين الجبناء{[7907]} .
وقوله : { وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ } أي : حصينة منيعة عالية رفيعة . وقيل : هي بروج في السماء . قاله السدي ، وهو ضعيف . والصحيح : أنها المنيعة . أي : لا يغني حذر وتحصن من الموت ، كما قال زهير بن أبي سلمى :{[7908]}
وَمَن خَاف أسبابَ المَنيّة يَلْقَهَا*** ولو رَامَ أسبابَ السماء بسُلَّم{[7909]}
ثم قيل : " المشَيَّدَة " هي المَشِيدَة كما قال : " وَقَصْرٍ مَشِيدٍ " [ الحج : 45 ] وقيل : بل بينهما فرق ، وهو أن المُشَيَّدة بالتشديد ، هي : المطولة ، وبالتخفيف هي : المزينة بالشيد وهو الجص .
وقد ذكر ابن جرير ، وابن أبي حاتم هاهنا حكاية مطولة عن مجاهد : أنه ذكر أن امرأة فيمن كان قبلنا أخذها الطَّلْقُ ، فأمرت أجيرها أن يأتيها بنار ، فخرج ، فإذا هو برجل واقف على الباب ، فقال : ما ولدت المرأة ؟ فقال : جارية ، فقال : أما إنها ستزني بمائة رجل ، ثم يتزوجها أجيرها ، ويكون موتها بالعنكبوت . قال : فَكَرَّ راجعا ، فبعج الجارية بسكين في بطنها ، فشقه ، ثم ذهب هاربا ، وظن أنها قد ماتت ، فخاطت أمها بطنها ، فبرئت وشبت وترعرعت ، ونشأت أحسن امرأة ببلدتها{[7910]} فذهب ذاك [ الأجير ]{[7911]} ما ذهب ، ودخل البحور فاقتنى أموالا جزيلة ، ثم رجع إلى بلده وأراد التزويج ، فقال لعجوز : أريد أن أتزوج بأحسن امرأة بهذه البلدة . فقالت له : ليس هنا أحسن من فلانة . فقال : اخطبيها علي . فذهبت إليها فأجابت ، فدخل بها فأعجبته إعجابا شديدًا ، فسألته عن أمره ومن أين مقدمه{[7912]} ؟ فأخبرها خبره ، وما كان من أمره في هربه . فقالت : أنا هي . وأرته مكان السكين ، فتحقق ذلك فقال : لئن كنت إياها فلقد أخبرتني باثنتين لا بد منهما ، إحداهما : أنك قد زنيت بمائة رجل . فقالت : لقد كان شيء من ذلك ، ولكن لا أدري ما عددهم ؟ فقال : هم مائة . والثانية : أنك تموتين بالعنكبوت . فاتخذ لها قصرا منيعا شاهقا ، ليحرزها من ذلك ، فبينا هم يوما إذا بالعنكبوت في السقف ، فأراها إياها ، فقالت : أهذه التي تحذرها علي ، والله لا يقتلها إلا أنا ، فأنزلوها من السقف فعمدت إليها فوطئتا بإبهام رجلها فقتلتها ، فطار من سمها شيء{[7913]} فوقع بين ظفرها ولحمها ، فاسودت رجلها وكان في ذلك أجلها{[7914]} .
ونذكر هاهنا قصة صاحب الحَضْر ، وهو " الساطرون " لما احتال عليه " سابور " حتى حصره فيه ، وقتل من فيه بعد محاصرة سنتين ، وقالت العرب في ذلك أشعارا منها :
وأخو الحَضْر إذ بناه وإذ دج*** لة تُجْبَى إليه والخابورُ
شاده مَرْمَرا وجلله كلْ***سا فللطير في ذُرَاه وُكُور
لم تَهَبْهُ أيدي المنون فباد ال***مُلْكُ عنه فبابُه مَهْجور
ولما دخل على عثمان جعل يقول : اللهم اجمع أمة محمد ، ثم تمثل بقول الشاعر :
أرى الموتَ لا يُبقي عَزيزا ولم يَدَعْ*** لعاد ملاذَّا في البلاد ومَرْبَعا . . .
يُبَيَّتُ أهلُ الحِصْن والحصنُ مغلقٌ*** ويأتي الجبالَ في شَماريخها معا{[7915]}
وقوله : { وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ } أي : خصب ورزق من ثمار وزروع وأولاد ونحو{[7916]} ذلك هذا معنى قول ابن عباس وأبي العالية والسدي { يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ } أي : قحط وجدب ونقص في الثمار والزروع أو موت أولاد أو نتاج أو غير ذلك . كما يقوله أبو العالية والسدي . { يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ } أي : من قبلك وبسبب اتباعنا لك واقتدائنا بدينك . كما قال تعالى عن قوم فرعون : { فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ } [ الأعراف : 131 ] وكما قال تعالى : { وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ [ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وِإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ ]{[7917]} } الآية [ الحج : 11 ] . وهكذا قال هؤلاء المنافقون الذين دخلوا في الإسلام ظاهرا وهم كارهون له في نفس الأمر ؛ ولهذا إذا أصابهم شر إنما يسندونه إلى اتباعهم للنبي صلى الله عليه وسلم وقال{[7918]} السدي : { وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ } قال : والحسنة الخصب ، تُنْتج خيولهم وأنعامهم ومواشيهم ، ويحسن حالهم وتلد نساؤهم الغلمان قالوا : { هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ } والسيئة : الجدْب والضرر في أموالهم ، تشاءموا بمحمد صلى الله عليه وسلم وقالوا : { هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ } يقولون : بتركنا ديننا واتباعنا محمدا أصابنا هذا البلاء ، فأنزل الله عز وجل : { قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ } فقوله { قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ } أي الجميع بقضاء الله وقدره ، وهو نافذ في البَرّ والفاجر ، والمؤمن والكافر .
قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : { قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ } أي : الحسنة والسيئة . وكذا قال الحسن البصري .
ثم قال تعالى منكرًا على هؤلاء القائلين هذه المقالة الصادرة عن شك وريب . وقلة فهم وعلم ، وكثرة جهل وظلم : { فَمَالِ هَؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا }
ذكر حديث غريب يتعلق بقوله تعالى : { قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ }
قال الحافظ أبو بكر البزار : حدثنا السَّكن بن سعيد ، حدثنا عمر بن يونس ، حدثنا إسماعيل بن حماد ، عن مقاتل بن حَيَّان ، عن عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده قال : كنا جلوسا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ فأقبل أبو بكر وعمر في قبيلتين من الناس ، وقد ارتفعت أصواتهما ، فجلس أبو بكر قريبا من رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ وجلس عمر قريبا من أبي بكر ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لم ارتفعت أصواتكما ؟ " فقال رجل : يا رسول الله ، قال أبو بكر : الحسنات من الله والسيئات من أنفسنا . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " فما قلت يا عمر ؟ " قال : قلت : الحسنات والسيئات من الله . تعالى . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن أول من تكلم فيه جبريل وميكائيل ، فقال ميكائيل مقالتك يا أبا بكر ، وقال جبريل مقالتك يا عمر فقال : نختلف فيختلف أهل السماء{[7919]} وإن يختلف أهل السماء يختلف أهل الأرض . فتحاكما إلى إسرافيل ، فقضى بينهم أن الحسنات والسيئات من الله " . ثم أقبل على أبي بكر وعمر فقال " احفظا قضائي بينكما ، لو أراد الله ألا يُعْصَى لم يخلق إبليس " .
قال شيخ الإسلام تقي الدين أبو العباس ابن تيميّة : هذا حديث موضوع مختلق باتفاق أهل المعرفة{[7920]} .