ثم حكى - سبحانه - بعض مظاهر قدرته ، ورعايته لعبده عيسى - عليه السلام - وخذلانه لأعدائه فقال - تعالى . { إِذْ قَالَ الله ياعيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ }
وللعلماء فى تفسير هذه الآية الكريمة أقوال كثيرة أشهرها قولان :
أما القول الأول : وهو قول جمهور العلماء - فيرى أصحابه أن معنى { إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ } أى قابضك من الأرض ورافعك إلى السماء بجسدك وروحك لتستوفى حظك من الحياة هناك .
وأصحاب هذا الرأى لا يفسرون التوفى بالموت وإنما يقولون : إن التوفى في اللغة معناه أخذ الشيء تاما وافيا . فمعنى { مُتَوَفِّيكَ } آخذك وافيا بروحك وجسدك ومعنى { وَرَافِعُكَ إِلَيَّ } ورافعك إلى محل كرامتى فى السماء فالعطف للتفسير . يقال : وفيت فلانا حقه أى أعطيته إياه وافيا فاستوفاه وتوفاه أى أخذه وافيا كاملا .
قال القرطبي : " قال الحسن وبان جريج : معنى متوفيك قابضك ورافعك إلى السماء من غير موت ، مثل توفيت مالى من فلان أى قبضته " .
أما القول الثاني : وهو قول قلة من العلماء - فيرى أصحابه أن معنى { إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ } أى مميتك ورافع منزلتك وروحك إلى محل كرامتى ومقر ملائكتى كما ترفع أرواح الأنبياء إليه - سبحانه - .
فأنت ترى أن أصحاب هذا الرأى يفسرون التوفى بالإماتة ، ويقولون إن هذا التفسير هو الظاهر من معنى التوفى ويفسرون { وَرَافِعُكَ إِلَيَّ } بمعنى رفع الروح إلى السماء أى أن الله - تعالى - قد توفى عيسى كما يتوفى الأنفس كلها ، ورفع روحه إليه كما يرفع أرواح النبيين .
والذى تسكن إليه النفس هو القول الأول لأمور :
أولها : أن قوله - تعالى - فى سورة النساء { وَمَا قَتَلُوهُ يَقِيناً بَل رَّفَعَهُ الله إِلَيْهِ } يفيد أن الرفع كان بجسم عيسى كوروحه لأن الإضراب مقابل للقتل ولاصلب الذى أرادوه وزعموا حصوله ، ولا يصح مقابلا لهما رفعه بالروح لأن الرفع بالروح يجوز أن يجتمع معهما وما دام الرفع بالروح لا يصح مقابلا لهما إذن يكون المتعين أن المقابل لهما هو الرفع بالجسد والروح .
ثانيها : أن هناك أحاديث متعددة ، بلغت في قوتها مبلغ التواتر المعنوى - كما يقول ابن كثير - قد وردت فى شأن نزول عيسى إلى الأرض فى آخر الزمان ليملأها عدلا كما ملئت جوار ، وليكون حاكما بشريعة محمد صلى الله عليه وسلم ومن هذه الأحاديث ما أخرجه الشيخان عن أبي هريرة أنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " يوشك أن ينزل فيكم ابن مريم حكما عدلا ، يقتل الدجال ويقتل الخنزير ، ويكسر الصليب ، ويضع الجزية ، ويفيض المال ، وتكون السجدة واحدة لله رب العالمين " .
وظاهر هذا الحديث وما يشابهه من الأحاديث الصحيحة فى شأن نزول عيسى ، يفيد أن نزوله يكون بروحه وجسده كما رفعه الله إليه بروحه وجسده .
ثالثا : أن هذا القول هو قول جمهور العلماء ، وهو القول الذى يتناسب مع ما أكرم الله - تعالى - به عيسى - عليه السلام - من كرامات ومعجزات .
قال بعض العلماء ما ملخصه : وجمهور العلماء على أن عيسى رفع حيا من غير موت ولا غفوة بجسده و روحه إلى السماء . والخصوصية له - عليه السلام - هى فى رفعه بجسده ، وبقاؤه فيها إلى الأمد المقدر له ولا يصح أن يحمل التوفى على الإماتة لأن إماتة عيسى فى وقت حصار أعدائه ليس فيها ما يسوغ الامتنان بها ورفعه إلى السماء جثة هامدة سخف من القول . وقد نزه الله السماء أن تكون قبورا لجثث الموتى . وإن كان الرفع بالروح فقط فأى مزية لعيسى فى ذلك على سائر الأنبياء ، والسماء مستقر أرواحهم الطاهرة . فالحق أنه - عليه السلام - رفع إلى السماء حيا بجسده . وكما كان - عليه السلام - فى مبدأ خلقه آية للناس ومعجزة ظاهرة ، كان فى نهاية أمره آية ومعجزة باهرة والمعجزات بأسرها فوق قدرة البشرة ومدارك العقول ، وهى من متعلقات القدرة الإلهية ومن الأدلة على صدق الرسل - عليهم الصلاة والسلام - " .
هذا ، وقد ذكر بعض المفسرين أقوالا أخرى للعلماء فى معنى هذه الآية الكريمة نرى من الخير عدم ذكرها لضعفها وخوف الإطالة .
ومعنى الآية الكريمة : واذكر أيها المخاطب لتعتبر وتتعظ وقت أن قال الله - تعالى - لنبيه عيسى : { إِنِّي مُتَوَفِّيكَ } أى آخذك وافياً بورحك وجسدك من الأرض { وَرَافِعُكَ إِلَيَّ } أى ورافعك إلى محل كرامتي فى السماء لتستوفى حظك من الحياة هناك إلى أن آذن لك بالنزول إلى الأرض .
{ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الذين كَفَرُواْ } بإبعادك عنهم ، وبإنجائك مما بيتوه لك من مكر سيء وبتبرئتك مما أشاعوه عنك وعن أمك من أكاذيب وأباطيل .
{ وَجَاعِلُ الذين اتبعوك } وهم المسلمون الذين آمنوا بك وصدقوك ، وصدقوا بكل نبى بعثه الله - تعالى - بدون تفرقة بين أنبيائه ورسله .
{ فَوْقَ الذين كَفَرُواْ إلى يَوْمِ القيامة } أى جاعل هؤلاء المؤمنين فوق الذين كفروا بك وبغيرك من الرسل إلى يوم القيامة .
أى فوقهم بحجتهم ، وبسلامة اعتقادهم ، وبقوتهم المادية والروحية إلى يوم القيامة .
فالمراد بأتباع عيسى هم الذين أخلصوا لله - تعالى - عبادتهم ، وأقروا بوحدانيته - سبحانه - ونزهوا عيسى عن أن يكون ابن الله أو ثالث ثلاثة أو غير ذلك من الأقاويل الباطلة .
والمراد بالفوقية ما يتناول الناحيتين الروحية والمادية ، اي هم فوقهم بقوة إمانهم ، وحسن إدراكهم ، وسلامة عقولهم ، وهم فوقهم كذلك بشجاعتهم وحسن أخذهم للاسباب التي شرعها الله - تعالى - كوسائل للنصر والفوز ولذا قال صاحب الكشاف قوله : { فَوْقَ الذين كَفَرُواْ إلى يَوْمِ القيامة } أي يعلونهم بالحجة وفى أكثر الأحوال بها وبالسيف ومتبعوه هم المسلمون لأنهم متبعوه في أصل الإسلام وإن اختلفت الشرائع ، دون الذين كذبوه والذين كذبوا عليه من اليهود والنصارى " .
ثم ختم - سبحانه - الآية بقوله : { ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ } .
أى ثم إلى الله مرجعكم ومصيركم أيها الناس فيتولى - سبحانه - الحكم العادل بينكم فيما كنتم تختلفون فيه فى دنياكم من شؤون دينية أو دنيوية .
لقد أرادوا صلب عيسى - عليه السلام - وقتله . وأراد الله أن يتوفاه ، وأن يرفعه إليه ، وأن يطره من مخالطة الذين كفروا والبقاء بينهم وهم رجس ودنس ، وأن يكرمه فيجعل الذين اتبعوه فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة . . وكان ما أراده الله . وأبطل الله مكر الماكرين :
( إذ قال الله : يا عيسى إني متوفيك ورافعك إلي ومطهرك من الذين كفروا ، وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة ) .
فأما كيف كانت وفاته ، وكيف كان رفعه . . فهي أمور غيبية تدخل في المتشابهات التي لا يعلم تأويلها إلا الله . ولا طائل وراء البحث فيها . لا في عقيدة ولا في شريعة . والذين يجرون وراءها ، ويجعلونها مادة للجدل ، ينتهي بهم الحال إلى المراء ، وإلى التخليط ، وإلى التعقيد . دون ما جزم بحقيقة ، ودون ما راحة بال في أمر موكول إلى علم الله .
وأما أن الله جعل الذين اتبعوه فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة . . فلا يصعب القول فيه . فالذين اتبعوه هم الذين يؤمنون بدين الله الصحيح . . الإسلام . . الذي عرف حقيقته كل نبي ، وجاء به كل رسول ، وآمن به كل من آمن حقا بدين الله . . وهؤلاء فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة في ميزان الله . . كما أنهم كذلك في واقع الحياة كلما واجهوا معسكر الكفر بحقيقة الإيمان ، وحقيقة الأتباع . . ودين الله واحد . وقد جاء به عيسى بن مريم كما جاء به من قبله ومن بعده كل رسول . والذين يتبعون محمدا [ ص ] هم في الوقت ذاته اتبعوا موكب الرسل كلهم . من لدن آدم - عليه السلام - إلى آخر الزمان .
وهذا المفهوم الشامل هو الذي يتفق مع سياق السورة ، ومع حقيقة الدين كما يركز عليها هذا السياق .
فأما نهاية المطاف للمؤمنين والكافرين ، فيقررها السياق في صدد إخبار الله لعيسى عليه السلام :
{ إِذْ قَالَ اللّهُ يَعِيسَى إِنّي مُتَوَفّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيّ وَمُطَهّرُكَ مِنَ الّذِينَ كَفَرُواْ وَجَاعِلُ الّذِينَ اتّبَعُوكَ فَوْقَ الّذِينَ كَفَرُواْ إِلَىَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُمّ إِلَيّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ }
يعني بذلك جل ثناؤه : ومكر الله بالقوم الذين حاولوا قتل عيسى مع كفرهم بالله ، وتكذيبهم عيسى فيما أتاهم به من عند ربهم ، إذ قال الله جل ثناؤه : { إنّي مُتَوَفّيكَ } ف«إذْ » صلة من قوله : { وَمَكَرَ اللّهُ } يعني : ومكر الله بهم حين قال الله لعيسى : { إنّي مُتَوَفّيكَ وَرَافِعُكَ إِليّ } فتوفاه ورفعه إليه .
ثم اختلف أهل التأويل في معنى الوفاة التي ذكرها الله عزّ وجلّ في هذه الاَية ، فقال بعضهم : هي وفاة نوم ، وكان معنى الكلام على مذهبهم : إني مُنِيمُك ، ورافعك في نومك . ذكر من قال ذلك :
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا عبد الله بن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع في قوله : { إنّي مُتَوَفّيكَ } قال : يعني وفاة المنام : رفعه الله في منامه . قال الحسن : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لليهود : «إِنّ عِيسَى لَمْ يَمُتْ ، وَإِنّهُ رَاجِعٌ إِلَيْكُمْ قَبْلَ يَوْمِ القِيامَةِ » .
وقال آخرون : معنى ذلك : إني قابضك من الأرض ، فرافعك إليّ ، قالوا : ومعنى الوفاة : القبض ، لما يقال : توفيت من فلان ما لي عليه ، بمعنى : قبضته واستوفيته . قالوا : فمعنى قوله : { إِنّي مُتَوَفّيكَ وَرَافِعُكَ } : أي قابضك من الأرض حيا إلى جواري ، وآخذك إلى ما عندي بغير موت ، ورافعك من بين المشركين وأهل الكفر بك . ذكر من قال ذلك :
حدثنا عليّ بن سهل ، قال : حدثنا ضمرة بن ربيعة ، عن ابن شوذب ، عن مطر الورّاق في قول الله : { إنّي مُتَوَفّيكَ } قال : متوفيك من الدنيا ، وليس بوفاة موت .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن الحسن في قوله : { إنّي مُتَوَفّيكَ } قال : متوفيك من الأرض .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قوله : { إنّي مُتَوَفّيكَ وَرَافِعُكَ إِليّ وَمُطَهّرُكَ مِنَ الّذِينَ كَفَرُوا } قال : فرفعه إياه إليه ، توفيه إياه ، وتطهيره من الذين كفروا .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية بن صالح أن كعب الأحبار ، قال : ما كان الله عزّ وجلّ ليميت عيسى ابن مريم ، إنما بعثه الله داعيا ومبشرا يدعو إليه وحده ، فلما رأى عيسى قلة من اتبعه وكثرة من كذّبه ، شكا ذلك إلى الله عزّ وجلّ ، فأوحى الله إليه : { إِنّي مُتَوَفّيكَ وَرَافِعُكَ إِليّ } وليس من رفعته عندي ميتا ، وإني سأبعثك على الأعور الدجال ، فتقتله ، ثم تعيش بعد ذلك أربعا وعشرين سنة ، ثم أميتك ميتة الحيّ . قال كعب الأحبار : وذلك يصدّق حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قال : «كيفَ تَهلِكُ أمةٌ أنَا فِي أوّلهَا ، وَعِيسَى فِي آخِرِهَا ؟ » .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن محمد بن جعفر بن الزبير : يا عيسى إني متوفيك : أي قابضك .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : { إنّي مُتَوَفّيكَ وَرَافِعُكَ إِليّ } قال : متوفيك : قابضك ، قال : ومتوفيك ورافعك واحد . قال : ولم يمت بعد حتى يقتلَ الدجال ، وسيموت ، وقرأ قول الله عزّ وجلّ : { وَيُكَلّمُ النّاسَ فِي المَهْدِ وَكَهْلاً } قال : رفعه الله إليه قبل أن يكون كهلاً ، قال : وينزل كهلاً .
حدثنا محمد بن سنان ، قال : حدثنا أبو بكر الحنفي ، عن عباد ، عن الحسن في قول الله عزّ وجلّ : { يا عِيسَى إنّي مُتَوَفّيكَ وَرَافِعُكَ إليّ } . . . الاَية كلها ، قال : رفعه الله إليه ، فهو عنده في السماء .
وقال آخرون : معنى ذلك : إني متوفيك وفاة موت . ذكر من قال ذلك :
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : { إنّي مُتَوَفّيكَ } يقول : إني مميتك .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عمن لا يتهم ، عن وهب بن منبه اليماني أنه قال : توفي الله عيسى ابن مريم ثلاث ساعات من النهار حتى رفعه إليه .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، قال : والنصارى يزعمون أنه توفاه سبع ساعات من النهار ، ثم أحياه الله .
وقال آخرون : معنى ذلك : إذ قال الله يا عيسى ، إني رافعك إليّ ، ومطهرك من الذين كفروا ، ومتوفيك بعد إنزالي إياك إلى الدنيا . وقال : هذا من المقدّم الذي معناه التأخير ، والمؤخر الذي معناه التقديم .
قال أبو جعفر : وأولى هذه الأقوال بالصحة عندنا قول من قال : معنى ذلك : إني قابضك من الأرض ورافعك إليّ ، لتواتر الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : «يَنْزِلُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ فَيَقْتُلُ الدّجّالَ » ثُمّ يَمْكُثُ فِي الأرْض مُدّةً ذَكَرَها اختلفت الرواية في مبلغها ، ثم يموت ، فيصلي عليه المسلمون ويدفنونه .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن محمد بن مسلم الزهري ، عن حنظلة بن عليّ الأسلميّ ، عن أبي هريرة ، قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : «لَيُهْبِطنّ اللّهُ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ حَكَما عَدْلاً وَإِمَاما مُقْسِطا ، يَكْسِرُ الصّلِيبَ ، وَيَقْتُلُ الخِنْزِيرَ ، وَيَضَعُ الجِزْيَةَ ، وَيُفِيضُ المالُ حتى لا يَجِدَ مَنْ يَأْخُذُهُ ، وَلَيُسْلَكَنّ الرّوْحَاءَ حاجّا أَوْ مُعْتَمِرا ، أَوْ يَدِينُ بِهِمَا جَمِيعا » .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن الحسن بن دينار ، عن قتادة ، عن عبد الرحمن بن آدم ، عن أبي هريرة ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «الأنْبِيَاءُ إخْوَةٌ لعَلاّتٍ ، أمّهاتُهُمْ شَتّى ، وَدِينُهُمْ وَاحِدٌ ، وَأنا أَوْلَى النّاسِ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ، لأنّهُ لَمْ يَكُنْ بَيْنِي وَبَيْنَهُ نَبِيّ ، وَإِنّهُ خَلِيفَتِي على أُمّتِي ، وإِنّهُ نَازِلٌ فَإِذَا رَأيْتُمُوهُ فَاعْرِفُوهُ ، فَإِنّهُ رَجُلٌ مَرْبُوعُ الخلْقِ إلى الحُمْرَةِ وَالبَيَاضِ سَبْطُ الشّعْرِ كأنّ شَعْرَهُ يَقْطُرُ ، وَإِنْ لَمْ يُصِبْهُ بَلَلٌ بَيْنَ مُمَصّرَتَيْنِ ، يَدُقّ الصّلِيبَ ، وَيَقْتُلُ الخِنْزِيرَ ، وَيُفِيضُ المَالُ ، وَيُقَاتِلُ النّاسَ على الإسْلاَمِ حتى يُهْلِكَ اللّهُ فِي زَمَانِهِ المِلَلَ كُلّها ، وَيُهْلِكَ اللّهُ فِي زَمَانِهِ مَسِيخَ الضّلاَلَةِ الكَذّابَ الدّجّالَ وَتَقَعُ فِي الأرْضِ الأمَنَةُ حتى تَرْتَعَ الأسُودُ مَعَ الإبِلِ ، وَالنّمْرُ مَعَ البَقَرِ ، وَالذّئابُ مَعَ الغَنَمِ ، وَتَلْعَبُ الغِلْمَانُ بالحَيّاتِ ، لاَ يَضُرّ بَعْضُهُمْ بَعْضا ، فَيَثْبُتُ فِي الأَرْضِ أرْبَعِينَ سَنَةً ، ثُمّ يُتَوَفّى وَيُصَلّي المُسْلِمُونَ عَلَيْهِ وَيَدْفِنُونَهُ » .
قال أبو جعفر : ومعلوم أنه لو كان قد أماته الله عزّ وجلّ لم يكن بالذي يميته ميتة أخرى ، فيجمع عليه ميتتين ، لأن الله عزّ وجلّ إنما أخبر عباده أنه يخلقهم ثم يميتهم ، ثم يحييهم ، كما قال جل ثناؤه¹ { اللّهُ الّذِي خَلَقَكُمْ ثُمّ رَزَقَكُمْ ثُمّ يُمِيتُكُمْ ثُمّ يُحْييكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذَلِكُمْ مِنْ شَيْء } .
فتأويل الاَية إذا : قال الله لعيسى : يا عيسى إني قابضك من الأرض ورافعك إليّ ، ومطهرك من الذين كفروا ، فجحدوا نبوتك . وهذا الخبر وإن كان مخرجه مخرج خبر ، فإن فيه من الله عز وجل احتجاجا على الذين حاجوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في عيسى من وفد نجران ، بأن عيسى لم يقتل ولم يصلب كما زعموا ، وأنهم واليهود الذين أقروا بذلك وادعوا على عيسى كَذَبةٌ في دعواهم وزعمهم . كما :
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن محمد بن جعفر بن الزبير ثم أخبرهم يعني الوفد من نجران وردّ عليهم فيما أخبروا هم واليهود بصلبه ، كيف رفعه وطهره منهم ، فقال : { إِذْ قَالَ اللّهُ يَا عِيسَى إِنّي مُتَوَفّيكَ وَرَافِعُكَ إِليّ } .
وأما مطهرك من الذين كفروا ، فإنه يعني منظّفك ، فمخلّصك ممن كفر بك وجحد ما جئتهم به من الحق من اليهود وسائر الملل غيرها . كما :
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن محمد بن جعفر بن الزبير : { وَمُطَهّرُكَ مِنَ الّذِينَ كَفَرُوا } قال : إذ همّوا منك بما همّوا .
حدثني محمد بن سنان ، قال : حدثنا أبو بكر الحنفي ، عن عباد ، عن الحسن ، في قوله : { وَمُطَهّرُكَ مِنَ الّذِينَ كَفَرُوا } قال : طهره من اليهود والنصارى والمجوس ، ومن كفار قومه .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَجاعِلُ الّذِينَ اتّبَعُوكَ فَوْقَ الّذِينَ كَفَرُوا إلى يَوْمِ القِيَامَةِ } .
( يعني بذلك جل ثناؤه : وجاعل الذين اتبعوك على منهاجك وملتك من الإسلام وفطرته فوق الذين جحدوا نبوتك ، وخالفوا بسبيلهم جميع أهل الملل ، فكذبوا بما جئت به ، وصدوا عن الإقرار به ، فمصيرهم فوقهم ظاهرين عليهم . ) كما :
حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة في قوله : { وَجَاعِلُ الّذِينَ اتّبَعُوكَ فَوْقَ الّذِينَ كَفَرُوا إلى يَوْمِ القِيَامَةِ } هم أهل الإسلام الذين اتبعوه على فطرته وملته وسنته فلا يزالون ظاهرين على من ناوأهم إلى يوم القيامة .
حدثنا المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع في قوله : { وَجَاعِلُ الّذِينَ اتّبَعُوكَ فَوْقَ الّذِينَ كَفَرُوا إلى يَوْمِ القِيَامَةِ } ثم ذكر نحوه .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج : { وَجاعِلُ الّذِينَ اتّبَعُوكَ فَوْقَ الّذِينَ كَفَرُوا إلى يَوْمِ القِيَامَةِ } ثم ذكر نحوه .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج : { وَجَاعِلُ الّذِينَ اتّبَعُوكَ فَوْقَ الّذِينَ كَفَرُوا إلى يَوْمِ القِيَامَةِ } قال : ناصر من اتبعك على الإسلام على الذين كفروا إلى يوم القيامة .
حدثنا محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : { وَجَاعِلُ الّذِينَ اتّبَعُوكَ فَوْقَ الّذِينَ كَفَرُوا إلى يَوْمِ القِيَامَةِ } أما الذين اتبعوك ، فيقال : هم المؤمنون وليس هم الروم .
حدثني محمد بن سنان ، قال : حدثنا أبو بكر الحنفيّ ، عن عباد ، عن الحسن : { وَجَاعِلُ الّذِينَ اتّبَعُوكَ فَوْقَ الّذِينَ كَفَرُوا إلى يَوْمِ القِيَامَةِ } قال : جعل الذين اتبعوه فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة ، قال : المسلمون من فوقهم ، وجعلهم أعلى ممن ترك الإسلام إلى يوم القيامة .
وقال آخرون : ومعنى ذلك : وجاعل الذين اتبعوك من النصارى فوق اليهود . ذكر من قال ذلك :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قول الله : { وَمُطَهّرُكَ مِنَ الّذِينَ كَفَرُوا } قال : الذين كفروا من بني إسرائيل . { وَجَاعِلُ الّذِينَ اتّبَعُوكَ } قال : الذين آمنوا به من بني إسرائيل وغيرهم ، { فَوْقَ الّذِينَ كَفَرُوا } النصارى فوق اليهود إلى يوم القيامة ، قال : فليس بلد فيه أحد من النصارى إلا وهم فوق يهود في شرق ولا غرب ، هم في البلدان كلها مستذلّون .
القول في تأويل قوله تعالى : { ثُمّ إِليّ مَرْجِعُكُمْ فأحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ } .
يعني بذلك جل ثناؤه : { ثمّ إليّ } ثم إلى الله أيها المختلفون في عيسى ، { مَرْجِعُكُمْ } يعني مصيركم يوم القيامة ، { فأحْكُمْ بَيْنَكُمْ } يقول : فأقضي حينئذٍ بين جميعكم في أمر عيسى بالحق فيما كنتم فيه تختلفون من أمره . وهذا من الكلام الذي صرف من الخبر عن الغائب إلى المخاطبة ، وذلك أن قوله : { ثُمّ إِليّ مَرْجِعُكُمْ } إنما قصد به الخبر عن متبعي عيسى والكافرين به .
وتأويل الكلام : وجاعلُ الذين اتبعوك فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة ، ثم إليّ مرجع الفريقين : الذين اتبعوك ، والذين كفروا بك ، فأحكم بينهم فيما كانوا فيه يختلفون . ولكن ردّ الكلام إلى الخطاب لسَبُوقِ القول على سبيل ما ذكرنا من الكلام الذي يخرج على وجه الحكاية ، كما قال : { حتى إذَا كُنْتُمْ فِي الفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيّبَةٍ } .
قال الطبري : العامل في { إذ } قوله تعالى { ومكر الله } [ آل عمران : 54 ] وقال غيره من النحاة : العامل فعل مضمر تقديره اذكر .
قال القاضي أبو محمد : هذا هو الأصوب ، وهذا القول هو بواسطة الملك لأن عيسى ليس بمكلم ، و { عيسى } اسم أعجمي معرف فلذلك لا ينصرف وهو بالسريانية - ايسوع - عدلته العرب إلى { عيسى } واختلف المفسرون في هذا التوفي ، فقال الربيع : هي وفاة نوم ، رفعه الله في منامه ، وقال الحسن وابن جريج ومطر الوراق{[3205]} ومحمد بن جعفر بن الزبير وجماعة من العلماء : المعنى أني قابضك من الأرض ، ومحصلك فى السماء فهو توفى قبض وتحصيل ، وقال ابن عباس هى وفاة موت ، معناه أنى مميتك ، هذا لفظ ابن عباس ولم يفسر ، فقال وهب بن منبه : توفاه الله بالموت ثلاث ساعات ورفعه فيها ثم أحياه الله بعد ذلك ، عنده في السماء وفي بعض الكتب ، سبع ساعات ، وقال الفراء : هي وفاة موت ولكن المعنى ، { إني متوفيك } في آخر أمرك عند نزولك وقتلك الدجال ، ففي الكلام تقديم وتأخير ، وقال مالك في جامع العتبية : مات عيسى وهو ابن ثلاث وثلاثين سنة{[3206]} ، ووقع في كتاب مكي عن قوم : أن معنى { متوفيك } متقبل عملك ، وهذا ضعيف من جهة اللفظ .
قال القاضي أبو محمد : وأجمعت الأمة على ما تضمنه الحديث المتواتر من أن عيسى عليه السلام في السماء حي ، وأنه ينزل في آخر الزمان فيقتل الخنزير ويكسر الصليب ويقتل الدجال ويفيض العدل ويظهر هذه الملة ملة محمد ويحج البيت ويعتمر ، ويبقى في الأرض أربعاً وعشرين سنة ، وقيل أربعين سنة ، ثم يميته الله تعالى{[3207]} .
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه : فقول ابن عباس رضي الله عنه : هي وفاة موت لا بد أن يتمم ، إما على قول وهب بن منبه ، وإما على قول الفراء ، وقوله تعالى : { ورافعك إليّ } عبارة عن نقله إلى علو من سفل وقوله { إلى } إضافة تشريف لما كانت سماءه والجهة المكرمة المعظمة المرجوة ، وإلا فمعلوم أن الله تعالى غير متحيز في جهة ، وقوله تعالى : { ومطهرك } حقيقة التطهير إنما هي من دنس ونحوه ، واستعمل ذلك في السب والدعاوى والآثام وخلطة الشرار ومعاشرتهم ، تشبيهاً لذلك كله بالأدناس ، فطهر الله العظيم عيسى من دعاوى الكفرة ومعاشرتهم القبيحة له ، وقوله تعالى : { وجاعل } اسم فاعل للاستقبال ، وحذف تنوينه تخفيفاً ، وهو متعد إلى مفعولين ، لأنه بمعنى مصيَّر فأحدهما { الذين } والآخرة في قوله : { فوق الذين كفروا } وقال ابن زيد : الذين اتبعوه هم النصارى والذين كفروا هم اليهود ، والآية مخبرة عن إذلال اليهود وعقوبتهم بأن النصارى فوقهم في جميع أقطار الأرض إلى يوم القيامة .
قال القاضي أبو محمد : فخصص ابن زيد المتبعين والكافرين وجعله حكماً دنيوياً لا فضيلة فيه للمتبعين الكفار منهم بل كونهم فوق اليهود عقوبة لليهود فقط ، وقال جمهور المفسرين بعموم اللفظ في المتبعين فيدخل في ذلك أمة محمد لأنها متبعة لعيسى ، نص على ذلك قتادة وغيره ، وكذلك قالوا بعموم اللفظ في الكافرين ، فمقتضى الآية إعلام عيسى عليه السلام أن أهل الإيمان به كما يجب هم فوق الذين كفروا بالحجة والبرهان وبالعزة والغلبة ، ويظهر من قول ابن جريج وغيره أن المراد المتبعون له في وقت استنصاره وهم الحواريون جعلهم الله فوق الكافرين لأنه شرفهم وأبقى لهم في الصالحين ذكراً ، فهم فوقهم بالحجة والبرهان ، وما ظهر عليهم من أمارات رضوان الله ، وقوله تعالى { ثم إليّ مرجعكم } الخطاب لعيسى ، والمراد الإخبار بالقيامة والحشر فلذلك جاء اللفظ عاماً من حيث الأمر في نفسه لا يخص عيسى وحده فكأنه قال له : { ثم إلي } ، أي إلى حكمي وعدلي ، يرجع الناس ، فخاطبه كما تخاطب الجماعة إذ هو أحدها ، وإذ هي مرادة في المعنى ، وفي قوله تعالى : { فأحكم } إلى آخر الآية ، وعد لعيسى والمؤمنين ووعيد للكافرين .
استئناف ؛ و ( إذ ) ظرف غير متعلق بشيء ، أو متعلق بمحذوف ، أي اذكُر إذ قال الله : كما تقدم في قوله : { وإذْ قال ربك للملائكة إنّي جاعل في الأرض } [ البقرة : 30 ] وهذا حكاية لأمرِ رفع المسيح وإخفائه عن أنظار أعدائه . وقدّم الله في خطابه إعلامه بذلك استئناساً له ، إذ لم يتم ما يرغبه من هداية قومه . مع العلم بأنه يحب لقاء الله ، وتبشيراً له بأنّ الله مظهر دينَه ؛ لأنّ غاية هم الرسول هو الهدى ، وإبلاغ الشريعة ، فلذلك قال له : { وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا } والنداء فيه للاستئناس ، وفي الحديث أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " لا يقبض نبيء حتى يُخَيَّر " .
وقوله : { إني متوفيك } ظاهر معناه : إنّي مميتك ، هذا هو معنى هذا الفعل في مواقع استعماله لأنّ أصل فعل توفَّى الشيءَ أنه قَبَضه تاماً واستوفاه . فيقال : توفاه اللَّه أي قدّر موته ، ويقال : توفاه ملك الموت أي أنفذ إرادة الله بموته ، ويطلق التوفّي على النوم مجازاً بعلاقة المشابهة في نحو قوله تعالى : { وهو الذي يَتَوَفَّاكم بالليل } [ الأنعام : 60 ] وقوله { الله يتوفَّى الأنفسَ حينَ موتها والتي لم تَمُتْ في منامها فيُمْسِك التي قضى عليها الموتَ ويرسل الأخرى إلى أجل مسمّى } [ الزمر : 42 ] . أي وأما التي لم تمت الموت المعروف فيميتها في منامها موتاً شبيهاً بالموت التام كقوله : { هو الذي يتوفاكم بالليل } ثم قال { حتى إذا جاء أحدكم الموت توفته رسلنا } فالكل إماتة في التحقيق ، وإنما فَصَل بينهما العرف والاستعمال ، ولذلك فرّع بالبيان بقوله : فيمسك التي قضى عليها الموت ويرسل الأخرى إلى أجل مسمّى ، فالكلام منتظم غاية الانتظام ، وقد اشتبه نظمه على بعض الأفهام . وأصرح من هذه الآية آية المائدة : فلمَا توفيتَني كنت أنتَ الرقيب عليهم لأنه دل على أنه قد توفّى الوفاة المعروفة التي تحول بين المرء وبين علم ما يقع في الأرض ، وحملُها على النوم بالنسبة لِعيسى لا معنى له ؛ لأنهُ إذا أراد رفعَه لم يلزم أن ينام ؛ ولأنّ النوم حينئذ وسيلة للرفع فلا ينبغي الاهتمام بذكره وترك ذكر المقصد ، فالقول بأنها بمعنى الرفع عن هذا العالم إيجاد معنى جديد للوفاة في اللغة بدون حجة ، ولذلك قال ابن عباس ، ووهب بن منبه : إنها وفاة موت وهو ظاهر قول مالك في جامع العتبية قال مالك : مات عيسى وهو ابن إحدى وثلاثين سنة قال ابن رشد في البيان والتحصيل : « يحتمل أنّ قوله : مات وهو ابن ثلاث وثلاثين على الحقيقة لا على المجاز » .
وقال الربيع : هي وفاة نوم رفعه الله في منامه ، وقال الحسن وجماعة : معناه إنّي قابضك من الأرض ، ومخلصك في السماء ، وقيل : متوفيك متقبل عملك .
والذي دعاهم إلى تأويل معنى الوفاة ما ورد في الأحاديث الصحيحة : أنّ عيسى ينزل في آخر مدّة الدنيا ، فأفهم أنّ له حياة خاصة أخصّ من حياة أرواح بقية الأنبياء ، التي هي حياة أخصّ من حياة بقية الأرواح ؛ فإنّ حياة الأرواح متفاوتة كما دلّ عليه حديث " أرواح الشهداء في حواصل طيور خضْرٍ " ورووا أنّ تأويل المعنى في هذه الآية أولى من تأويل الحديث في معنى حياته وفي نزوله ، فمنهم من تأوّل معنى الوفاة فجعله حيا بحياته الأولى ، ومنهم من أبقى الوفاة على ظاهرها ، وجعل حياته بحياة ثانية ، فقال وهب بن منبه : توفاه الله ثلاثَ ساعات ورفعه فيها ، ثم أحياه عنده في السماء . وقال بعضهم : توفّي سبع ساعات . وسكت ابن عباس ومالكٌ عن تعيين كيفية ذلك ، ولقد وُفِّقا وسُدِّدا . ويجوز أن تكون حياته كحياة سائر الأنبياء ، وأن يكون نزوله إن حمل على ظاهره بعثاً له قبل إبان البعث على وجه الخصوصية ، وقد جاء التعبير عن نزوله بلفظ « يبعث الله عيسى فيقتل الدجال » رواه مسلم عن عبد الله بن عمر ، ولا يموت بعد ذلك بل يخلص من هنالك إلى الآخرة .
وقد قيل في تأويله : إنّ عطف { ورافعك إلي } على التقديم والتأخير ؛ إذ الواو لا تفيد ترتيب الزمان أي إنّي رافعك إليّ ثم متوفيك بعد ذلك ، وليس في الكلام دلالة على أنه يموت في آخر الدهر سوى أنّ في حديث أبي هريرة في كتاب أبي داود : " ويمكث ( أي عيسى ) أربعين سنة ثم يُتوفى فيصلّي عليه المسلمون " والوجه أن يحمل قوله تعالى : { إني متوفيك } على حقيقته ، وهو الظاهر ، وأن تؤوّل الأخبار التي يفيد ظاهرها أنه حيّ على معنى حياة كرامة عند الله ، كحياة الشهداء وأقوى ، وأنه إذا حمل نزوله على ظاهره دون تأويل ، أنّ ذلك يقوم مقام البعض ، وأنّ قوله في حديث أبي هريرة ثم يتوفّى فيصلي عليه المسلمون مدرج من أبي هريرة لأنّه لم يروه غيره ممن رووا حديث نزول عيسى ، وهم جَمْع من الصحابة ، والروايات مختلفة وغير صريحة . ولم يتعرض القرآن في عدّ مزاياه إلى أنه ينزل في آخر الزمان .
والتطهير في قوله : { ومطهرك } مجازي بمعنى العصمة والتنزيه ؛ لأنّ طهارة عيسى هي هي ، ولكن لو سُلط عليه أعداؤُه لكان ذلك إهانة له .
وحذف متعلق « كفروا » لظهوره أي الذين كفروا بك وهم اليهود ، لأنّ اليهود ما كفروا بالله بل كفروا برسالة عيسى ، ولأنّ عيسى لم يبعث لغيرهم فتطهيرُه لا يظنّ أنّه تطهيرٌ من المشركين بقرينة السياق .
والفوقية في قوله : { فوق الذين كفروا } بمعنى الظهور والانتصار ، وهي فوقية دنيوية بدليل قوله : { إلى يوم القيامة } .
والمراد بالذين اتبعوه : الحواريون ومن اتبعه بعد ذلك ، إلى أن نُسخت شريعته بمجيء محمد صلى الله عليه وسلم .
وجملة { ثم إليّ مرجعكم } عطف على جملة { وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا } إذ مضمون كلتا الجملتين من شأن جزاءِ اللَّهِ متّبِعي عيسى والكافرين به .
وثم للتراخي الرتبي ؛ لأنّ الجزاء الحاصل عند مرجع الناس إلى الله يوم القيامة ، مع ما يقارنه من الحكم بين الفريقين فيما اختلفوا فيه ، أعظمُ درجةً وأهم من جعل متبعي عيسى فوق الذين كفروا في الدنيا .
والظاهر أنّ هذه الجملة مما خاطب الله به عيسى ، وأنّ ضمير مرجعكم ، وما معه من ضمائر المخاطبين ، عائد إلى عيسى والذين اتبعوه والذين كفروا به .
ويجوز أن يكون خطاباً للنبيء صلى الله عليه وسلم والمسلمين ، فتكون ثم للانتقال من غرض إلى غرض ، زيادة على التراخي الرتبي والتراخي الزمني .
والمَرْجعِ مصدر ميمي معناه الرجوع . وحقيقة الرجوع غير مستقيمة هنا فتعيّن أنّه رجوع مجازي ، فيجوز أن يكون المرادُ به البعثَ للحساب بعد الموت ، وإطلاقه على هذا المعنى كثير في القرآن بلفظه وبمرادفه نحو المصير ، ويجوز أن يكون مراداً به انتهاء إمهال الله إياهم في أجلٍ أراده فينفذ فيهم مراده في الدنيا .
ويجوز الجمع بين المعنيين باستعمال اللفظ في مجازيه ، وهو المناسب لجمع العذابين في قوله : { فأعذبهم عذاباً شديداً في الدنيا والآخرة } وعلى الوجهين يجري تفسير حكم الله بينهم فيما هم فيه يختلفون .