ثم بين - سبحانه - موقف المشركين من دعوته فقال : { أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنَآ إلى رَجُلٍ مِّنْهُمْ أَنْ أَنذِرِ الناس وَبَشِّرِ الذين آمنوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِندَ رَبِّهِمْ } . .
روى الضحاك عن ابن عباس قال : لما بعث الله - تعالى - رسوله محمدا - صلى الله عليه وسلم - أنكرت العرب ذلك ، أو من أنكر منهم ، وقالوا الله أعظم من أن يكون رسوله بشرا مثل محمد ، فأنزل الله - تعالى - : { أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَباً . . . الآية } .
والهمزة في قوله " أكان " لإنكار تعجبهم ، ولتعجب السامعين منه لوقوعه في غير موضعه .
وقوله { لِلنَّاسِ } جار ومجرور حالا من قوله { عَجَباً } والمراد بهم مشركوا مكة ومن لف لفهم في إنكار ما جاء به النبي - صلى الله عليه وسلم - .
وقوله : { عَجَباً } خبر كان ، والعجب والتعجيب - استعظام أمر خفي سببه .
وقوله : { أَنْ أَوْحَيْنَآ } في تأويل مصدر أي : إيحاؤنا ، وهو اسم كان . والوحي : الإِعلام في خفاء ، والمقصود به ما أوحاه الله - تعالى - إلى نبيه - صلى الله عليه وسلم - من قرآن وغيره .
وقوله : { إلى رَجُلٍ مِّنْهُمْ } أي إلى بشر من جنسهم يعرفهم ويعرفونه .
وقوله : { أَنْ أَنذِرِ الناس } الإِنذار إخبار معه تخويف في مدة تتسع التحفظ من المخوف منه ، فإن لم تتسع له فهو إعلام وإشعار لا إنذار ، وأكثر ما يستعمل في القرآن في التخويف من عذاب الله - تعالى - :
والمراد بالناس هنا : جميع الذين يمكنه - صلى الله عليه وسلم - أن يبلغهم دعوته .
وقوله : { وَبَشِّرِ الذين آمنوا } البشارة : إخبار معه ما يسر فهو أخص من الخبر ، سمي بذلك لأن أثره يظهر على البشرة التي هي ظاهر الجلد .
وقوله : { أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِندَ رَبِّهِمْ } أي أن لهم سابقة ومنزلة رفيعة عند ربهم .
وأصل القدم العضو المخصوص . وأطلقت على السبق ، لكونها سببه وآلته ، فسمى المسبب باسم السبب من باب المجاز المرسل ، كما سميت النعمة يدا لأنها تعطي باليد .
وأصل الصدق أن يكون في الأقوال ، ويستعمل أحيانا في الأفعال فيقال : فلان صدق في القتال ، إذا وفاه حقه ، فيعبر بصفة الصدق عن كل فعل فاضل .
وإضافة القدم إلى الصدق من إضافة الموصوف إلى الصفة كقولهم : مسجد الجامع ، والأصل قدم صدق . أي محققة مقررة . وفيه مبالغة لجعلها عين الصدق . ثم جعل الصدق كأنه صاحبها .
ويجوز أن تكون إضافة القدم إلى الصدق من باب إضافة المسبب إلى السبب ، وفي ذلك تنبيه إلى أن ما نالوه من منازل رفيعة عند ربهم . إنما هو بسبب صدقهم في أقوالهم وأفعالهم ونياتهم .
قال الإِمام ابن جرير ما ملخصه : واختلف أهل التأويل في معنى قوله : { قَدَمَ صِدْقٍ } فقال بعضهم معناه : أن لهم أجرا حسنا بسبب ما قدموه من عمل صالح . .
وقال آخرون معناه : أن لهم سابق صدق في اللوح المحفوظ من السعادة .
وقال آخرون : معنى ذلك أن محمدا - صلى الله عليه وسلم - شفيع لهم .
ثم قال : وأولى هذه الأقوال عندي بالصواب قول من قال معناه : أن لهم أعمالا صالحة عند الله يستحقون بها منه الثواب ، وذلك أنه محكي عن العرب قولهم : هؤلاء أهل القدم في الإِسلام . أي هؤلاء الذين قدموا فيه خيرا ، فكان لهم فيه تقديم .
ويقال : لفلان عندي قدم صدق وقدم سوء ، وذلك بسبب ما قدم إليه من خير أو شر ، ومنه قول حسان بن ثابت - رضي الله عنه - :
لنا القدم العليا إليك وخلفنا . . . لأولنا في طاعة الله تابع
ومعنى الآية الكريمة : أبلغ الجهل وسوء التفكير بمشركي مكة ومن على شاكلتهم ، أن كان إيحاؤنا إلى رجل منهم يعرفهم ويعرفونه لكي يبلغهم الدين الحق ، أمرا عجبا ، يدعوهم إلى الدهشة والاستهزاء بالموحى إليه - صلى الله عليه وسلم - حتى لكأن النبوة في زعمهم تتنافى مع البشرية .
إن الذي يدعو إلى العجب حقا هو ما تعجبوا منه ، لأن الله - تعالى - اقتضت حكمته أن يجعل رسله إلى الناس من البشر ، لأن كل جنس يأنس لجنسه ، وينفر من غيره ، وهو - سبحانه - أعلم حيث يجعل رسالته .
قال صاحب الكشاف : " فإن قلت : فما معننى اللام في قوله { أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَباً } وما الفرق بينه وبين قولك : كان عند الناس عجبا ؟
قلت : معناه أنهم جعلوه لهم أعجوبة يتعجبون منها . ونصبوه علما لهم يوجهون نحوه استهزاءهم وإنكارهم ، وليس في " عند الناس " هذا المعنى .
والذي تعجبوا منه أو يوحي إلى بشر . وأن يكون رجلا من أفناء رجالهم دون عظيم من عظمائهم ، فقد كانوا يقولون : العجب أن الله لم يجد رسولا يرسله إلى الناس إلا يتيم أبي طالب ، وأن يذكر لهم البعث . وينذر بالنار ويبشر بالجنة . وكل واحد من هذه الأمور ليس بعجب ، لأن الرسل المبعوثين إلى الأمم لم يكونوا إلا بشر مثلهم .
وقال الله - تعالى - : { قُل لَوْ كَانَ في الأرض ملائكة يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِم مِّنَ السمآء مَلَكاً رَّسُولاً } وإرسال الفقير أو اليتيم ليس بعجب - أيضاً - لأن الله - تعالى - إنما يختار من استحق الاختيار لجمعه أسباب الاستقلال لما ختير له من النبوة . والغنى والتقدم في الدنيا ليس من تلك الأسباب في شيء قال - تعالى - : { وَمَآ أَمْوَالُكُمْ وَلاَ أَوْلاَدُكُمْ بالتي تُقَرِّبُكُمْ عِندَنَا زلفى } والبعث للجزاء على الخير والشر . هو الحكمة العظمى فكيف يكون عجبا إنما العجب والمنكر في العقول ، تعطيل الجزاء .
وقدم - سبحانه - خبر كان وهو { عَجَباً } على اسمها وهو { أَنْ أَوْحَيْنَآ } . لأن المقصود بالإِنكار في الآية إنما هو تعجبهم ودهشتهم من أن يكون الرسول بشراً .
وقدم - سبحانه - الإِنذار على التبشير ، لأن التخلية مقدمة على التحلية ، وإزالة مالا ينبغي مقدم في الرتبة على فعل ما ينبغي .
ولم ذكر المنذر به ، لتهويله وتعميمه حتى يزداد خوفهم وإقبالهم على الدين الحق ، الذي يؤدي اتباعه إلى النجاة من العذاب .
وخص التبشير بالمؤمنين لأنهم وحدهم المستحقون له ، بخلاف الإِنذار فإنه يشمل المؤمن والكافر . ولذا قال - سبحانه - { أَنْ أَنذِرِ الناس } أي جميع الناس .
وذكر - سبحانه - في جانب التبشير المبشر به - وهو حصولهم على المنزلة الرفيعة عند ربهم - لكي تقوى رغبتهم في طاعته . ومحبتهم لعبادته ، وبذلك ينالون ما بشرهم به .
ثم وضح - سبحانه - ما قاله الكافرون عند مجيء الرسول - صلى الله عليه وسلم - بدعوته فقال : { قَالَ الكافرون إِنَّ هذا لَسَاحِرٌ مُّبِينٌ } .
أي : قال الكافرون المتعجبون من أن يكون - صلى الله عليه وسلم - رسولا إليهم ، إن هذا الإِنسان الذي يدعى النبوة لساحر بيِّن السحر واضحه - حيث إنه استطاع بقوة تأثيره في النفوس أن يفرق بين الابن وأبيه ، والأخ وأخيه .
وعلى هذا القراءة التي وردت عن ابن كثير والكوفيين تكون الإِشارة إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم - .
وقرأ الباقون : { إِنَّ هذا لَسَاحِرٌ مُّبِينٌ } أي : إن هذا القرآن لسحر واضح ، لأنه خارق للعادة في جذبه النفوس إلى الإِيمان بما جاء به محمد - صلى الله عليه وسلم - .
قال أبو حيان ما ملخصه : " ولما كان قولهم فيما لا يمكن أن يكون سحرا ظاهر الفساد ، لم يحتج إلى جواب ، لأنهم يعلمون نشأته معهم بمكة ، وخلطتهم له ، - وأنه لا علم له بالسحر - وقد أتاهم بعد بعثته بكتاب إلهي مشتمل على مصالح الدنيا والآخرة مع الفصاحة والبلاغة التي أعجزتهم . .
وقولهم هذا ؛ هو دين الكفرة مع أنبيائهم . فقد قال فرعون وقومه في موسى - عليه السلام - { إِنَّ هذا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ } وقال قوم عيسى فيه عندما جاءهم بالبينات { هذا لَسَاحِرٌ مُّبِينٌ } ودعوى السحر إنما هو على سبيل العناد والجحد .
وقال الآلوسى " وفي قولهم هذا اعتراف منهم بأن ما عاينوه خارج عن طوق البشر . نازل من حضرة خلاق القوى والقدر ، ولكنهم يسمونه سحرا تماديا في العناد ، كما هو شنشنة المكابر اللجوج ، وشنشنة المفحم المحجوج " .
وجاءت الجملة الكريمة بدون حرف عطف ، لكونها استئنافا مبنيا على سؤال مقدر ، فكأنه قيل : فماذا قالوا بعد هذا التعجب ؟ فكان الجواب : { قَالَ الكافرون إِنَّ هذا لَسَاحِرٌ مُّبِينٌ } .
ويرى الإِمام ابن جرير أن الآية فيها كلام محذوف ، فقال قال : - رحمه الله - : " وفي الكلام حذف استغنى بدلالة ما ذكر عما ترك ذكره ، وتأويل الكلام : أكان للناس عجبا أن أوحينا إلى رجل منهم أن أنذر الناس وبشر الذين آمنوا لهم أن هلم قدم صدق عند ربهم ، فلما أتاهم بوحي الله وتلاه عليهم وبشرهم وأنذرهم قال المنكرون لتوحيد الله ورسالة رسوله إن هذا الذي جاءنا به محمد - صلى الله عليه وسلم - لسحر مبين " .
وقد اشتملت جملة { إِنَّ هذا لَسَاحِرٌ مُّبِينٌ } على جملة من المؤكدات ، للإِشارة إلى رسوخهم في الكفر ، وإلى أنهم مع وضوح الأدلة على صدق الرسول - صلى الله عليه وسلم - لم يزدادوا إلا جحودا وعنادا ، وصدق الله إذ يقول : { فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ ولكن الظالمين بِآيَاتِ الله يَجْحَدُونَ }
( أكان للناس عجبا أن أوحينا إلى رجل منهم أن أنذر الناس ، وبشر الذين آمنوا أن لهم قدم صدق عند ربهم ? قال الكافرون . إن هذا لساحر مبين ) :
سؤال استنكاري . يستنكر هذا العجب الذي تلقى به الناس حقيقة الوحي منذ كانت الرسل .
لقد كان السؤال الدائم الذي قوبل به كل رسول : أبعث الله بشرا رسولا ? ومبعث هذا السؤال هو عدم إدراك قيمة " الإنسان " . عدم إدراك الناس أنفسهم لقيمة " الإنسان " الذي يتمثل فيهم . فهم يستكثرون على بشر أن يكون رسول الله ، وأن يتصل الله به - عن طريق الوحي - فيكلفه هداية الناس . إنهم ينتظرون أن يرسل الله ملكا أو خلقا آخر أعلى رتبة من الإنسان عند الله . غير ناظرين إلى تكريم الله لهذا المخلوق ؛ ومن تكريمه أن يكون أهلا لحمل رسالته ؛ وأن يختار من بين أفراده من يتصل بالله هذا الاتصال الخاص . هذه كانت شبهة الكفار المكذبين على عهد الرسول [ ص ] وشبهة أمثالهم في القرون الأولى . فأما في هذا العصر الحديث فيقيم بعض الناس من أنفسهم لأنفسهم شبهة أخرى لا تقل تهافتا عن تلك !
إنهم يسألون : كيف يتم الاتصال بين بشر ذي طبيعة مادية وبين الله المخالف لطبيعة كل شيء مما خلق . والذي ليس كمثله شيء ?
وهو سؤال لا يحق لأحد أن يسأله إلا أن يكون قد أحاط علما بحقيقة الله سبحانه وطبيعة ذاته الإلهية ، كما أحاط علما بكل خصائص الإنسان التي أودعها الله إياه . وهو ما لا يدعيه أحد يحترم عقله ، ويعرف حدود هذا العقل . بل يعرف أن خصائص الإنسان القابلة للكشف ما يزال يكشف منها جديد بعد جديد ، ولم يقف العلم بعد حتى يقال : إنه أدرك كل الخصائص الإنسانية القابلة للإدراك . فضلا على أنه ستبقى وراء إدراك العلم والعقل دائما آفاق من المجهول بعد آفاق !
ففي الإنسان اذن طاقات مجهولة لا يعلمها إلا الله . والله أعلم حيث يجعل رسالته في الإنسان ذي الطاقة التي تحمل هذه الرسالة . وقد تكون هذه الطاقة مجهولة للناس ، ومجهولة لصاحبها نفسه قبل الرسالة . ولكن الله الذي نفخ في هذا الإنسان من روحه عليم بما تنطوي عليه كل خلية ، وكل بنية ، وكل مخلوق ؛ وقادر على أن يطوع الإنسان هذا الاتصال الخاص بكيفية لا يدركها إلا من ذاقها وأوتيها .
ولقد جهد ناس من المفسرين المحدثين في إثبات الوحي عن طريق العلم للتقريب . ونحن لا نقر هذا المنهج من أساسه . فللعلم ميدان . هو الميدان الذي يملك أدواته . وللعلم آفاق هي الآفاق التي يملك أدوات كشفها ومراقبتها . والعلم لم يدع أنه يعرف شيئا حقيقا عن الروح . فهي ليست داخلة في نطاق عمله لأنها ليست شيئا قابلا للاختبار المادي الذي يملك العلم وسائله . لذلك تجنب العلم الملتزم للأصول العلمية أن يدخل في ميدان الروح . أما ما يسمى " بالعلوم الروحانية " فهي محاولات وراءها الريب والشكوك في حقيقتها وفي أهدافها كذلك ! ولا سبيل إلى معرفة شيء يقيني في هذا الميدان إلا ما جاءنا من مصدر يقيني كالقرآن والحديث وفي الحدود التي جاء فيها بلا زيادة ولا تصرف ولا قياس . إذ أن الزيادة والتصرف والقياس عمليات عقلية .
والعقل هنا في غير ميدانه ، وليس معه أدواته . لأنه لم يزود بأدوات العمل في هذا الميدان .
( أكان للناس عجبا أن أوحينا إلى رجل منهم أن أنذر الناس وبشر الذين آمنوا أن لهم قدم صدق عند ربهم ? ) .
فهذه خلاصة الوحي : إنذار الناس بعاقبة المخالفة ، وتبشير المؤمنين بعقبى الطاعة . وهذا يتضمن بيان التكاليف الواجبة الاتباع وبيان النواهي الواجبة الاجتناب . فهذا هو الإنذار والتبشير ومقتضياتهما على وجه الإجمال .
والإنذار للناس جميعا . فكل الناس في حاجة إلى التبليغ والبيان والتحذير : والبشرى للذين آمنوا وحدهم . وهو يبشرهم هنا بالطمأنينة والثبات والاستقرار . . تلك المعاني التي توحي بها كلمة [ صدق ] مضافة إلى القدم . في جو الإنذار والتخويف . . " قدم صدق " . . قدم ثابتة راسخة موقنة لا تتزعزع ولا تضطرب ولا تتزلزل ولا تتردد ، في جو الإنذار وفي ظلال الخوف ، وفي ساعات الحرج . . ( قدم صدق عند ربهم ) . . في الحضرة التي تطمئن فيها النفوس المؤمنة . حينما تتزلزل القلوب والأقدام .
وحكمة الله واضحة في الإيحاء إلى رجل منهم . رجل يعرفهم ويعرفونه ، يطمئنون إليه ويأخذون منه ويعطونه ، بلا تكلف ولا جفوة ولا تحرج . أما حكمته في إرسال الرسل فهي أوضح ، والإنسان مهيأ بطبعه للخير والشر ، وعقله هو أداته للتمييز . ولكن هذا العقل في حاجة إلى ميزان مضبوط يعود إليه دائما كلما غم عليه الأمر ، وأحاطت به الشبهات ، وجذبته التيارات والشهوات ، وأثرت فيه المؤثرات العارضة التي تصيب البدن والأعصاب والمزاج ، فتتغير وتتبدل تقديرات العقل أحيانا من النقيض إلى النقيض . هو في حاجةإلى ميزان مضبوط لا يتأثر بهذه المؤثرات ليعود إليه ، وينزل على إرشاده ، ويرجع إلى الصواب على هداه .
وهذا الميزان الثابت العادل هو هدى الله وشريعة الله .
وهذا يقتضي أن تكون لدين الله حقيقة ثابتة يرجع إليها العقل البشري بمفهوماته كلها ؛ فيعرضها على هذا الميزان الثابت ، وهناك يعرف صحيحها من خاطئها . . والقول بأن دين الله هو دائما " مفهوم البشر لدين الله " وأنه من ثم " متطور في أصوله " يعرض هذه القاعدة الأساسية في دين الله - وهي ثبات حقيقته وميزانه - لخطر التميع والتأرجح والدوران المستمر مع المفهومات البشرية . بحيث لا يبقي هنالك ميزان ثابت تعرض عليه المفهومات البشرية . .
والمسافة قصيرة بين هذا القول ، والقول بأن الدين من صنع البشر . . فالنتيجة النهائية واحدة ، والمزلق خطر وخطير للغاية ، والمنهج بجملته يستوجب الحذر الشديد . . منه ومن نتائجه القريبة والبعيدة . .
ومع وضوح قضية الوحي على هذا النحو ، فإن الكافرين يستقبلونها كما لو كانت أمرا عجيبا :
( قال الكافرون : إن هذا لساحر مبين ) . .
ساحر لأن ما ينطق به معجز . وأولى لهم - لو كانوا يتدبرون - أن يقولوا : نبي يوحى إليه لأن ما ينطق به معجز . فالسحر لا يتضمن من الحقائق الكونية الكبرى ومن منهج الحياة والحركة ، ومن التوجيه والتشريع ما يقوم به مجتمع راق ، وما يرتكز عليه نظام متفرد . .
ولقد كان يختلط عندهم الوحي بالسحر ، لاختلاط الدين بالسحر في الوثنيات كلها ؛ ولم يكن قد وضح لهم ما يتضح للمسلم حين يدرك حقيقة دين الله ؛ فينجو من هذه الوثنيات وأوهامها وأساطيرها .
القول في تأويل قوله تعالى : { أَكَانَ لِلنّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنَآ إِلَىَ رَجُلٍ مّنْهُمْ أَنْ أَنذِرِ النّاسَ وَبَشّرِ الّذِينَ آمَنُوَاْ أَنّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِندَ رَبّهِمْ قَالَ الْكَافِرُونَ إِنّ هََذَا لَسَاحِرٌ مّبِينٌ } .
يقول تعالى ذكره : أكان عجبا للناس إيحاؤنا القرآن على رجل منهم بإنذارهم عقاب الله على معاصيه ، كأنهم لم يعلموا أن الله قد أوحى من قبله إلى مثله من البشر ، فتعجبوا من وحينا إليه .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا عثمان بن سعيد ، قال : حدثنا بشر بن عمارة ، عن أبي روق ، عن الضحاك عن ابن عباس ، قال : لما بعث الله محمدا رسولاً أنكرت العرب ذلك ، أو من أنكر منهم ، فقالوا : الله أعظم من أن يكون رسوله بشرا مثل محمد فأنزل الله تعالى : أكانَ للنّاسِ عَجَبا أنْ أوْحَيْنا إلى رَجُلٍ مِنْهُمْ . . . وقال : وَما أرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إلاّ رِجالاً .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : عجبت قريش أن بُعث رجل منهم . قال : ومثل ذلك : وَإلى عاد أخاهُمْ هُودا وإلى ثَمُودَ أخاهُمْ صَالِحا قال الله : أوَ عَجِبْتُمْ أنْ جاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبّكُمْ على رَجُل مِنْكُمْ .
القول في تأويل قوله تعالى : وَبَشّرِ الّذِينَ آمَنُوا أنّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبّهِمْ .
يقول جلّ ثناؤه : أكان عجبا للناس أن أوحينا إلى رجل منهم أن أنذر الناس ، وأن بشر الذين آمنوا بالله ورسوله أن لهم قدم صدق عطف على «أنذر » .
واختلف أهل التأويل في معنى قوله : قَدَمَ صِدْق فقال بعضهم : معناه : أن لهم أجرا حسنا بما قدّموا من صالح الأعمال . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا المحاربي ، عن جويبر ، عن الضحاك : أنّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبّهِمْ قال : ثواب صدق .
قال : حدثنا عبد الله بن رجاء ، عن ابن جريج ، عن عبد الله بن كثير ، عن مجاهد : أنّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبّهِمْ قال : الأعمال الصالحة .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله : وَبَشّرِ الّذِينَ آمَنُوا أنّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبّهِمْ يقول : أجرا حسنا بما قدّموا من أعمالهم .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا يزيد بن حبان ، عن إبراهيم بن يزيد ، عن الوليد بن عبد الله بن أبي مغيث عن مجاهد : أنّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبّهِمْ قال : صلاتهم ، وصومهم ، وصدقتهم ، وتسبيحهم .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : قَدَمَ صِدْقٍ قال : خير .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : قَدَمَ صِدْق مثله .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، مثله .
قال : ثني حجاج ، عن أبي جعفر ، عن الربيع بن أنس ، قال : قَدَمَ صِدْق ثواب صدق عند ربهم .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع ، مثله .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : وَبَشّرِ الّذِينَ آمَنُوا أنّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ قال : القدم الصدق : الثواب الصدق بما قدموا من الأعمال .
وقال آخرون : معناه : أن لهم سابق صدق في اللوح المحفوظ من السعادة . ذكر من قال ذلك :
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية بن صالح ، عن عليّ ، عن ابن عباس قوله : وَبَشّرِ الّذِينَ آمَنُوا أنّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبّهِمْ يقول : سبقت لهم السعادة في الذكر الأوّل .
وقال آخرون : معنى ذلك أن محمدا صلى الله عليه وآله وسلم شفيع لهم ، قَدَمَ صدق . ذكر من قال ذلك :
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا يحيى بن آدم ، عن فضيل بن عمرو بن الجون ، عن قتادة أو الحسن : أنّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبّهِمْ قال : محمد شفيع لهم .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : وَبَشّرِ الّذِينَ آمَنُوا أنّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبّهِمْ : أي سلف صدق عند ربهم .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا عبد الله بن الزبير ، عن ابن عيينة ، عن زيد بن أسلم ، في قوله : أنّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبّهِمْ قال : محمد صلى الله عليه وسلم .
قال أبو جعفر : وأولى هذه الأقوال عندي بالصواب ، قول من قال : معناه أن لهم أعمالاً صالحة عند الله يستوجبون بها منه الثواب وذلك أنه محكيّ عن العرب : هؤلاء أهل القدم في الإسلام أي هؤلاء الذين قدموا فيه خيرا ، فكان لهم فيه تقديم ، ويقال : له عندي قدم صدق وقدم سوء ، وذلك ما قدم إليه من خير أو شرّ ، ومنه قول حسان بن ثابت رضي الله عنه :
لَنا القَدَمُ الأُولى إلَيْكَ وخَلْفُنا *** لأوّلِنا في طاعَةِ اللّهِ تابِعُ
لَكُمْ قَدَمٌ لا يُنْكِرُ النّاسُ أنّها *** مَعَ الحَسَبِ العادِيّ طَمّتْ على البَحْرِ
فتأويل الكلام إذا : وبشر الذين آمنوا أن لهم تقدمة خير من الأعمال الصالحة عند ربهم .
القول في تأويل قوله تعالى : قال الكافِرُونَ إنّ هَذَا لَسِحْرٌ مُبِينٌ .
اختلفت القرّاء في قراءة ذلك ، فقرأته عامّة قرّاء أهل المدينة والبصرة : إنّ هَذَا لَسِحْرٌ مُبِينٌ بمعنى : إن هذا الذي جئتنا به ، يعنون القرآن «لَسِحْرٌ مُبِينٌ » . وقرأ ذلك مسروق وسعيد بن جبير وجماعة من قرّاء الكوفيين : إنّ هَذَا لَسِحْرٌ مُبِينٌ وقد بينت فيما مضى من نظائر ذلك أن كل موصوف بصفة نزل الموصوف على صفته ، وصفته عليه ، فالقارىء مخير في القراءة في ذلك وذلك نظير هذا الحرف : قال الكافِرُونَ إنّ هَذَا لَسِحْرٌ مُبِينٌ » ولساحر مبين وذلك أنهم إنما وصفوه بأنه ساحر ، ووصفهم ما جاءهم به أنه سحر يدلّ على أنهم قد وصفوه بالسحر . وإذا كان ذلك كذلك فسواء بأيّ ذلك قرأ القارىء لاتفاق معنى القراءتين . وفي الكلام محذوف استغنى بدلالة ما ذكر عما ترك ذكره وهو : فلما بشرهم وأنذرهم وتلا عليهم الوحي ، قال الكافرون إن هذا الذي جاءنا به لسحر مبين .
فتأويل الكلام إذا : أكان للناس عجبا أن أوحينا إلى رجل منهم ، أن أنذر الناس ، وبشر الذين آمنوا أن لهم قدم صدق عند ربهم ، فلما أتاهم بوحي الله وتلاه عليهم ، قال المنكرون توحيد الله ورسالة رسوله : إن هذا الذي جاءنا به محمد لسحر مبين أي يبين لكم عنه أنه مبطل فيما يدعيه .
{ أكان للناس عجبا } استفهام إنكار للتعجب و{ عجبا } خبر كان واسمه : { أن أوحينا } وقرئ بالرفع على أن الأمر بالعكس أو على " أن كان " تامة و{ أن أوحينا } بدل من عجب ، واللام للدلالة على أنهم جعلوه أعجوبة لهم يوجهون نحوه إنكارهم واستهزاءهم . { إلى رجل منهم } من أفناء رجالهم دون عظيم من عظمائهم . قيل كانوا يقولون العجب أن الله تعالى لم يجد رسولا يرسله إلى الناس إلا يتيم أبي طالب ، وهو من فرط حماقتهم وقصور نظرهم على الأمور العاجلة وجهلهم بحقيقة الوحي والنبوة . هذا وأنه عليه الصلاة والسلام لم يكن يقصر عن عظمائهم فيما يعتبرونه إلا في المال وخفة الحال أعون شيء في هذا الباب ، ولذلك كان أكثر الأنبياء عليهم الصلاة والسلام قبله كذلك . وقيل تعجبوا من أنه بعث بشرا رسولا كما سبق ذكره في سورة " الأنعام " . { أن أنذر الناس } أن هي المفسرة أو المخففة من الثقيلة فتكون في موقع مفعول أوحينا . { وبشّر الذين آمنوا } عمم الإنذار إذ قلما من أحد ليس فيه ما ينبغي أن ينذر منه ، وخصص البشارة بالمؤمنين إذ ليس للكفار ما يصح أن يبشروا به حقيقة { أن لهم } بأن لهم { قدم صدق عند ربهم } سابقة منزلة رفيعة سميت قدما لأن السبق بها كما سميت النعمة يدا لأنها تعطى باليد ، وإضافتها إلى الصدق لتحققها والتنبيه على أنهم إنما ينالونها بصدق القول والنية . { قال الكافرون إن هذا } يعنون الكتاب وما جاء به الرسول عليه الصلاة والسلام . { لسحرٌ مبين } وقرأ ابن كثير والكوفيون " لساحر " على أن الإشارة إلى الرسول صلى الله عليه وسلم ، وفيه اعتراف بأنهم صادفوا من الرسول صلى الله عليه وسلم أمورا خارقة للعادة معجزة إياهم عن المعارضة . وقرئ " ما هذا إلا سحر مبين " .
وقوله : { أكان للناس عجباً } الآية ، قال ابن عباس وابن جريج وغيرهما : نسبت هذه الآية أن قريشاً استبعدوا أن يبعث الله رسولاً من البشر ، وقال الزجاج : إنما عجبوا من إخباره أنهم يبعثون من القبور إذ النذارة والبشارة تتضمنان ذلك ، وكثر كلامهم في ذلك حتى قال بعضهم : أما وجد الله من يبعث إلا يتيم أبي طالب ، ونحو هذا من الأقاويل التي اختصرتها لشهرتها فنزلت الآية ، وقوله : { أكان } تقرير{[6000]} والمراد ب «الناس » قائلوا هذه المقالة ، و { عجباً } خبر كان واسمها { أن أوحينا } ، وفي مصحف ابن مسعود «أكان للناس عجب » وجعل الخبر في قوله { أن أوحينا } والأول أصوب لأن الاسم معرفة والخبر نكرة وهذا القلب لا يصح ولا يجيء إلا شاذاً{[6001]} ومنه قول حسان : [ الوافر ]
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . *** يكون مزاجها عسلٌ وماء{[6002]}
ولفظة العجب هنا ليست بمعنى التعجب فقط بل معناه أَوَصَل إنكارهم وتعجبهم إلى التكذيب ؟ وقرأت فرقة «إلى رجل » بسكون الجيم ، ثم فسر الوحي وقسمه عل النذارة للكافرين والبشارة للمؤمنين ، و «القدم » هنا : ما قدم ، واختلف في المراد بها ها هنا فقال ابن عباس ومجاهد والضحاك والربيع بن أنس وابن زيد : هي الأعمال الصالحة من العبادات ، وقال الحسن بن أبي الحسن وقتادة : هي شفاعة محمد صلى الله عليه وسلم ، وقال زيد بن أسلم وغيره : هي المصيبة بمحمد صلى الله عليه وسلم في موته ، وقال ابن عباس أيضاً وغيره : هي السعادة السابقة لهم في اللوح المحفوظ ، وهذا أليق الأقوال بالآية ، ومن هذه اللفظة قول حسان : [ الطويل ]
لنا القدم العليا إليك وخلْفَنا *** لأوّلنا في طاعةِ اللهِ تابعُ{[6003]}
لكم قدم لا ينكر الناس أنها*** مع الحسب العادي طمت على البحر{[6004]}
ومن هذه اللفظة قول النبي صلى الله عليه وسلم في صفة جهنم : «حتى يضع الجبار فيها قدمه فتقول قط قط »{[6005]} ، أي ما قدم لها من خلقه ، هذا على أن الجبار اسم الله تعالى ، ومن جعله اسم جنس كأنه أراد الجبارين من بني آدم ، ف «القدم » على التأويل الجارحة{[6006]} والصدق في هذه الآية بمعنى الصلاح ، كما تقول رجل صدق ورجل سوء{[6007]} ، وقوله { قال الكافرون } يحتمل أن يكون تفسيراً لقوله أكان وحينا إلى بشر عجباً قال الكافرون عنه كذا وكذا ، وذهب الطبري إلى أن في الكلام حذفاً يدل الظاهر عليه تقديره فلما أنذر وبشر قال الكافرون كذا وكذا ، وقرأ جمهور الناس وهي قراءة نافع وأبي عمرو وابن عامر «إن هذا لسحر مبين » ، وقرأ مسروق بن الأجدع وابن جبير والباقون من السبعة وابن مسعود وأبو رزين ومجاهد وابن وثاب وطلحة والأعمش وعيسى بن عمر بخلاف ، وابن محيصن وابن كثير بخلاف عنه «إنه لساحر » والمعنى متقارب ، وفي مصحف أبي «قال الكافرون ما هذا إلا سحر مبين » ، وقولهم في الإنذار والبشارة سحر إنما هو بسبب أنه فرق بذلك كلمتهم وحال بين القريب وقريبه فأشبه ذلك ما يفعله الساحر فظنوه من ذلك الباب .
{ أكان للناس عجبا أن أوحينا إلى رجل منهم أن أنذر الناس وبشر الذين ءامنوا أن لهم قد صدق عند ربهم } .
الجملة مستأنفة استئنافاً بيانياً لأن جملة { تلك آيات الكتاب الحكيم } [ يونس : 1 ] بما فيها من إبهام الداعي إلى التوقف على آيات الكتاب الحكيم تثير سؤالاً عن ذلك الداعي فجاءت هذه الجملة تبيّن أن وجه ذلك هو استبعاد الناس الوحي إلى رجل من الناس استبعادَ إحالة . وجاءت على هذا النظم الجامع بين بيان الداعي وبين إنكار السبب الذي دَعا إليه وتجهيل المتسببين فيه ، ولك أن تجعله استئنافاً ابتدائياً ، لأنه مبدأ الغرض الذي جاءت له السورة ، وهو الاستدلال على صدق الرسول وإثبات البعث .
فالهمزة للاستفهام المستعمل في الإنكار ، أي كيف يتعجبون من ذلك تعجب إحالة .
وفائدة إدخال الاستفهام الإنكاري على ( كان ) دون أن يقال : أعجِبَ الناسُ ، هي الدلالة على التعجيب من تَعَجُّبهم المراد به إحالة الوحي إلى بَشر .
والمعنى : أحدث وتقرر فيهم التعجب من وحينا ، لأن فعل الكون يشعر بالاستقرار والتمكن فإذا عبر به أشعَرَ بأن هذا غير متوقَّع حصوله .
و { للناس } متعلق ب { كَان } لزيادة الدلالة على استقرار هذا التعجب فيهم ، لأن أصل اللام أن تفيد الملك ، ويستعار ذلك للتمكن ، أي لتمكن الكون عجباً من نفوسهم .
و { عَجباً } خبر { كان } مقدم على اسمها للاهتمام به لأنه محل الإنكار .
و { أنْ وأحينا } اسم كان ، وجيء فيه ب ( أنْ ) والفعل دون المصدر الصريح وهو وَحْينا ليتوسل إلى ما يفيده الفعل من التجدد وصيغة المضي من الاستقرار تحقيقاً لوقوع الوحي المتعجب منه وتجدده وذلك ما يزيدهم كمداً .
والعجب : مصدر عَجِب ، إذا عَدَّ الشيءَ خارجاً عن المألوف نادر الحصول . ولما كان التعجب مبدأ للتكذيب وهم قد كذبوا بالوحي إليه ولم يقتصروا على كونه عجيباً جاء الإنكار عليهم بإنكار تعجبهم من الإيحاء إلى رجل من البشر لأن إنكار التعجب من ذلك يؤول إلى إنكار التكذيب بالأوْلى ويَقلع التكذيب من عروقه .
ويجوز أن يكون العجب كناية عن إحالة الوقوع ، كما في قوله تعالى : { قالت يا ويْلتي أألِدُ وأنا عجوز وهذا بعلي شيخاً إن هذا لشيء عجيب قالوا أتعجبين من أمر الله } في سورة [ هود : 72 ، 73 ] وقوله : { أوعجبتم أن جاءكم ذكر من ربكم على رجل منكم لينذركم } في سورة [ الأعراف : 63 ] . وكانت حكاية تعجبهم بإدماج ما يفيد الرد عليهم بأن الوحي كانَ إلى رجل من الناس وذلك شأن الرسالات كلها كما قال تعالى : { وما أرسلنا من قبلك إلا رجالاً يُوحى إليهم } [ النحل : 43 ] وقال : { ولو جعلناه ملكاً لجعلناه رجلاً } [ الأنعام : 9 ] وقال : { قل لو كان في الأرض ملائكة يمشون مطمئنين لنزلنا عليهم من السماء ملكاً رسولاً } [ الإسراء : 95 ] .
وأطلق { الناس } على طائفة من البشر ، والمراد المشركون من أهل مكة لأنهم المقصود من هذا الكلام .
وهذا الإطلاق مثل ما في قوله : { إن الناس قد جمعوا لكم } [ آل عمران : 173 ] . وعن ابن عباس أنكرت طائفة من العرب رسالة محمد صلى الله عليه وسلم فقالوا : الله أعظم من أن يكون له رسول بشراً ، فأنزل الله تعالى : { أكان للناس عجباً أن أوحينا إلى رجل منهم أن أنذر الناس } .
و { أن } في قوله : { أن أنذر الناس } تفسيرية لفعل { أوحينا } لأن الوحي فيه معنى القول .
و { الناس } الثاني يعم جميع البشر الذين يمكن إنذارهم ، فهو عموم عرفي . ولكون المراد ب { الناس } ثانياً غير المراد به أولَ ذُكر بلفظه الظاهر دون أن يقال : أن أنذرهم .
ولما عطف على الأمر بالإنذار الأمرُ بالتبشير للذين آمنوا بقي { الناس } المتعلق بهم الإنذار مخصوصاً بغير المؤمنين .
وحذف المنذر به للتهويل ، ولأنه يُعلم حاصله من مقابلته بقوله : { وبشر الذين آمنوا أن لهم قَدَم صدق } ، وفعل التبشير يتعدى بالباء ، فالتقدير : وبشر الذين آمنوا بأن لهم قدم صدق ، فحذف حرف الجر مع ( أنَّ ) جرياً على الغالب .
والقَدم : اسم لما تَقدم وسلَف ، فيكون في الخير والفضل وفي ضده . قال ذو الرمة :
لكم قَدم لا ينكِر الناس ألها *** مع الحَسَب العادِيّ طَمَّت على البحر
وذكر المازري في « المُعْلم » عن ابن الأعرابي : أن القدم لا يعبر به إلا عن معنى المقدم لكن في الشرف والجلالة . وهو فَعَل بمعنى فاعل مثل سلَف وثَقَل . قال ابن عطية : ومن هذه اللفظة قول النبي صلى الله عليه وسلم في صفة جهنم : " حتى يضع رب العزة فيها قَدَمه فتقول قط قط " يشير إلى حديث أنس بن مالك قال نبيء الله صلى الله عليه وسلم ما تزال جهنم تقول هل من مزيد حتى يضع رب العزة ( وفي رواية الجبار ) فيها قدمه فتقول قط قط ، وعزتك . ويُزوَى بعضُها إلى بعض . وهذا أحد تأويلين لمعنى « قَدمه » . وأصل ذلك في « المُعلم على صحيح مسلم » للمازري وعزاه إلى النضر بن شميل .
والمراد ب { قدم صدق } في الآية قدم خَير ، وإضافة { قدم } إلى { صِدق } من إضافة الموصوف إلى الصفة . وأصله قدمٌ صِدقٌ ، أي صادق وهو وصف بالمصدر : فعلى قول الجمهور يكون وصف { صدق } ل { قدم } وصفاً مقيِّداً . وعلى قول ابن الأعرابي يكون وصفاً كاشفاً .
والصدق : موافقة الشيء لاعتقاد المعتقد ، واشتهر في مطابقة الخَبر . ويضاف شيء إلى ( صدق ) بمعنى مصادفته للمأمول منه المرضي وأنه لا يخيب ظن آمل كقوله : { ولقد بوأنا بني إسرائيل مبوأ صدق } [ يونس : 90 ] وقوله : { في مقعد صدق عند مليك مقتدر } [ القمر : 55 ] .
وقوله : { أن أنذر الناس } تفسير لفعل { أوحينا } . وإنما اقتصر على ذكر هذا الموحى به لأن ذلك هو الذي حملهم على التكذيب إذ صادف صرفهم عن ضلاله دينهم وسمعوا منه تفضيل المؤمنين عليهم . وإيضاً في ذكر المفسِّر إدماج لبشارة المؤمنين بهذه المزية .
{ قَالَ الكافرون إِنَّ هذا لساحر مُّبِينٌ }
هذه الجملة بدل اشتمال من جملة : { أكان للناس عجباً } الخ . ووجه هذا الإبدال أن قولهم هذا ينبىء عن بلوغ التعجب من دعوى الوحي والرسالة من نفوسهم مزيد الإحالة والتكذيب حتى صاروا إلى القول : { إن هذا لسحر مبين } [ يونس : 76 ] أو { إن هذا لساحِر مبين } فاسم الإشارة راجع إلى ما تضمنته جملة { أن أنذر الناس وبشر الذين آمنوا } .
وقرأه الجمهور « لسِحْر » بكسر السين وسكون الحاء على أن المراد به الحاصل بالمصدر ، أي أن هذا الكلام كلام السحرِ ، أي أنه كلام يُسحر به . فقد كان من طرق السحر في أوهامهم أن يقول الساحر كلاماً غير مفهوم للناس يوهمهم أن فيه خصائص وأسماء غير معروفة لغير السحرة ، فالإشارة إلى الوحي .
وقرأه ابن كثير وعاصم وحمزة والكسائي { لسَاحر } فالإشارة إلى رجل من قوله : { إلى رجل منهم } وهو النبي صلى الله عليه وسلم وإن وصفهم إياه بالسحر ينبىء بأنهم كذبوا بكونه من عند الله ولم يستطيعوا أن يدعوه هذياناً وباطلاً فهرعوا إلى ادعائه سِحراً ، وقد كان من عقائدهم الضالة أن من طرائق السحر أن يقول الساحر أقوالاً تستنزل عقول المسحورين . وهذا من عجزهم من الطعن في القرآن بمطاعن في لفظه ومعانيه .
والسحر : تخييل ما ليس بكائن كائناً . وقد تقدم عند قوله تعالى : { يعلمون الناس السحر } في سورة [ البقرة : 102 ] .
والمبين : اسم فاعل من أبان الذي هو بمعنى بان ، أي ظهر ، أي سحر واضح ظاهر . وهذا الوصف تلفيق منهم وبهتان لأنه ليس بواضح في ذلك بل هو الحق المبين .