التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{ٱلنَّبِيُّ أَوۡلَىٰ بِٱلۡمُؤۡمِنِينَ مِنۡ أَنفُسِهِمۡۖ وَأَزۡوَٰجُهُۥٓ أُمَّهَٰتُهُمۡۗ وَأُوْلُواْ ٱلۡأَرۡحَامِ بَعۡضُهُمۡ أَوۡلَىٰ بِبَعۡضٖ فِي كِتَٰبِ ٱللَّهِ مِنَ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ وَٱلۡمُهَٰجِرِينَ إِلَّآ أَن تَفۡعَلُوٓاْ إِلَىٰٓ أَوۡلِيَآئِكُم مَّعۡرُوفٗاۚ كَانَ ذَٰلِكَ فِي ٱلۡكِتَٰبِ مَسۡطُورٗا} (6)

ثم بين - سبحانه - ما يجب على المؤمنين نحو نبيهم صلى الله عليه وسلم ونحو أزواجه ، وما يجب للأقارب فيها بينهم ، فقال - تعالى - : { النبي أولى بالمؤمنين مِنْ أَنْفُسِهِمْ . . . } .

أى : النبى صلى الله عليه وسلم أحق بالمؤمنين بهم من أنفسهم وأولى فى المحبة والطاعة ، فإذا ما دعاهم إلى أمر ، ودعتهم أنفسهم إلى خلافه ، وجب أن يؤثروا ما دعاهم إليه ، على ما تدعوهم إليه أنفسهم ، لأنه صلى الله علي وسلم لا يدعوهم إلا إلى ما ينفعهم ، أما أنفسهم فقد تدعوهم إلى ما يضرهم .

وفى الحديث الصحيح الذى رواه الإِمام مسلم عن أبى هريرة ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إن مثلى ومثل أمتى ، كمثل رجل استوقد نارا ، فجعلت الدواب والفراش يقعن فيه - أى فى الشئ المستوقد - وأنا آخذ بِحُجزكم - أى : وأنا آخذ بما يمنعكم من السقوط كملابسكم ومعاقد الإِزار - وأنتم تقحمون فيه " أى : وأنتم تحاولون الوقوع فيما يحرقكم - . قال القرطبى : قال العلماء : الحجزة : السراويل ، والمعقد للإِزار ، فإذا أراد الرجل إمساك من يخاف سقوطه أخذ بذلك الموضع منه ، وهذا مثل لاجتهاد نبينا صلى الله عليه وسلم فى نجاتنا ، وحرصه على تخليصنا من الهلكات التى بين أيدينا ، فهو أولى بنا من أنفسنا .

وقال الإِمام ابن كثير . قد علم الله - تعالى - شفقة رسوله صلى الله عليه وسلم على أمته ، ونصحه لهم : فجعله أولى بهم من أنفسهم ، وحكمه فيهم مقدما على اختيارهم لأنفسهم .

وفى الصحيح " والذى نفسى بيده لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من نفسه وماله وولده والناس أجمعين " .

وروى البخارى عن هريرة عن النبى صلى الله عليه وسلم قال : " ما من مؤمن إلا وأنا أولى الناس به فى الدنيا والآخرة . اقرءوا إن شئتم : { النبي أولى بالمؤمنين مِنْ أَنْفُسِهِمْ } فأيما مؤمن ترك مالا فليرثه عصبته من كانوا ، فإن ترك دينا أو ضياعا فليأتنى فأنا مولاه " .

وروى الإِمام أحمد عن جابر عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول : " أنا أولى بكل مؤمن من نفسه فأيما رجل مات وترك دينا فإلى ، ومن ترك مالا فلورثته " .

وقال الآلوسى : وإذا كان صلى الله عليه وسلم بهذه المثابة فى حق المؤمنين ، يجب عليهم أن يكون أحب إليهم من أنفسهم ، وحكمه - عليه الصلاة والسلام - عليهم أنفذ من حكمها ، وحقه آثر لديهم من حقوقها ، وشفقتهم عليه أقدم من شفقتهم عليها .

وسبب نزول الآية - على ما قيل - ما روى من أنه صلى الله عليه وسلم أراد غزوة تبوك ، فأمر الناس بالخروج : فقال أناس منهم : نستأذن آباءنا وأمهاتنا فنلزت . ووجه دلالتها على السبب أنه صلى الله عليه وسلم إذا كان أولى من أنفسهم ، فهو أولى من الأبوين بالطريق الأولى .

ثم بين - سبحانه - منزلة أزواجه صلى الله عليه وسلم بالنسبة للمؤمنين فقال : { وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ } أى : وأزواجه صلى الله عليه وسلم بمنزلة أمهاتكم - أيها المؤمنون - فى الاحترام والإِكرام ، وفى حرمة الزواج بهن .

قالوا : وأما ما عدا ذلك كالنظر إليهن ، والخلوة بهن ، وإرثهن . فهن كالأجنبيات .

ثم بين - سبحانه - أن التوارث إنما يكون بين الأقارب فقال - تعالى - { وَأُوْلُو الأرحام بَعْضُهُمْ أولى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ الله مِنَ المؤمنين والمهاجرين إِلاَّ أَن تفعلوا إلى أَوْلِيَآئِكُمْ مَّعْرُوفاً كَانَ ذَلِكَ فِي الكتاب مَسْطُوراً } .

والمراد بأولى الأرحام : الأقارب الذين تربط بينهم رابطة الرحم كالآباء والأبناء والإِخوة ، والأخوات .

وقوله : { فِي كِتَابِ الله } متعلق بقوله { أولى } أو بمحذوف على أنه حال من الضمير فى { أولى } .

والمراد بالمؤمنين والمهاجرين . من لا تربط بينهم وبين غيرهم رابطة قرابة .

قال ابن كثير : وقد أورد ابن أبى حاتم عن الزبير بن العوام قال : أنزل الله - عز وجل - فينا خاصة معشر قريش والأنصار : { وَأُوْلُو الأرحام بَعْضُهُمْ أولى بِبَعْضٍ } وذلك أنا معشر قريش ، لما قدمنا المدينة قدمناه ولا أموال لنا ، فوجدنا الأنصار نعم الإِخوان ، فواخيناهم ووارثناهم . . حتى أنزل الله هذه الآية فينا معشر قريش والأنصار خاصة ، فرجعنا إلى مواريثنا .

وشبيه بهذه الآية فى وجوب أن يكون التوارث بحسب قرابة الدم ، قوله - تعالى - فى آخر آية من سورة الأنفال : { والذين آمَنُواْ مِن بَعْدُ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ مَعَكُمْ فأولئك مِنكُمْ وَأْوْلُواْ الأرحام بَعْضُهُمْ أولى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ الله إِنَّ الله بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } والاستثناء فى قوله - سبحانه - : { إِلاَّ أَن تفعلوا إلى أَوْلِيَآئِكُمْ مَّعْرُوفاً } رجح بعضهم أنه استثناء منقطع . وقوله { أَن تفعلوا } مبتدأ ، وخبره محذوف .

والمراد بالكتاب فى قوله { كَانَ ذَلِكَ فِي الكتاب مَسْطُوراً } القرآن الكريم ، أو اللوح المحفوظ .

والمعنى : وأولو الأرحام وهم الأقارب ، بعضهم أولى ببعض فى التوارث فيما بينهم ، وفى تبادل المنافع بعضهم مع بعض ، وهذه الأولية والأحقية ثابتة فى كتاب الله - تعالى - حيث بين لكم فى آيات المواريث التى بسورة النساء ، كيفية تقسيم التركة بين الأقارب ، وهم بهذا البيان أولى فى ميراث الميت من المؤمنين والمهاجرين الذين لا تربطهم بالميت صلة القرابة .

هذا هو حكم الشرع فيما يتعلق بالتوارث ، لكن إذا أردتم - أيها المؤمنون - أن تقدموا إلى غير أقاربكم من المؤمنين معروفا ، كأن توصوا له ببعض المال فلا بأس ، ولا حرج عليكم فى ذلك .

وهذا الحكم الذى بيناه لكم فيما يتعلق بالتوارث بين الأقارب ، كان مسطورا ومكتوبا فى اللوح المحفوظ ، وفى آيات القرآن التى سبق نزولها ، فاعملوا بما شرعناه لكم ، واتركوا ما نهيناكم عنه .

قال الشوكانى ما ملخصه : قوله : { إِلاَّ أَن تفعلوا إلى أَوْلِيَآئِكُمْ مَّعْرُوفاً } هذا الاستثناء إما متصل من أعم العام ، والتقدير : وأولو الأرحام بعضهم اولى ببعض فى كل شئ من الإِرث وغيره ، إلا أن تفعلوا إلى أوليائكم معروفا ، من صدقة أو وصية ، فإن ذلك جائز .

وإما منقطع . والمعنى : لكن فعل المعروف للأولياء لا بأس به .

والإِشارة بقوله : { كَانَ ذَلِكَ } تعود إلى ما تقدم ذكره . أى : كان نسخ الميراث بالهجرة والمخالفة والمعاقدة ، ورده إلى ذوى الأرحام من القرايات { فِي الكتاب مَسْطُوراً } أى : فى اللوح المحفوظ ، أو فى القرآن مكتوبا .

وبذلك نرى الآية الكريمة قد وضحت ما يجب على المؤمنين نحو نبيهم ، وما يجب عليهم نحو أزواجه ، وما يجب عليهم نحو أقاربهم فيما يتعلق بالتوارث .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{ٱلنَّبِيُّ أَوۡلَىٰ بِٱلۡمُؤۡمِنِينَ مِنۡ أَنفُسِهِمۡۖ وَأَزۡوَٰجُهُۥٓ أُمَّهَٰتُهُمۡۗ وَأُوْلُواْ ٱلۡأَرۡحَامِ بَعۡضُهُمۡ أَوۡلَىٰ بِبَعۡضٖ فِي كِتَٰبِ ٱللَّهِ مِنَ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ وَٱلۡمُهَٰجِرِينَ إِلَّآ أَن تَفۡعَلُوٓاْ إِلَىٰٓ أَوۡلِيَآئِكُم مَّعۡرُوفٗاۚ كَانَ ذَٰلِكَ فِي ٱلۡكِتَٰبِ مَسۡطُورٗا} (6)

بعد ذلك يقرر إبطال نظام المؤاخاة كما أبطل نظام التبني . ونظام المؤاخاة لم يكن جاهليا ؛ إنما هو نظام استحدثه الإسلام بعد الهجرة ، لمواجهة حالة المهاجرين الذين تركوا أموالهم وأهليهم في مكة ؛ ومواجهة الحالة كذلك بين المسلمين في المدينة ممن انفصلت علاقاتهم بأسرهم نتيجة لإسلامهم . . وذلك مع تقرير الولاية العامة للنبي[ صلى الله عليه وسلم ] وتقديمها على جميع ولايات النسب ؛ وتقرير الأمومة الروحية بين أزواجه [ صلى الله عليه وسلم ] وجميع المؤمنين :

النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم ، وأزواجه أمهاتهم ؛ وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله من المؤمنين والمهاجرين . إلا أن تفعلوا إلى أوليائكم معروفا . كان ذلك في الكتاب مسطورا . .

لقد هاجر المهاجرون من مكة إلى المدينة ، تاركين وراءهم كل شيء ، فارين إلى الله بدينهم ، مؤثرين عقيدتهم على وشائج القربى ، وذخائر المال ، وأسباب الحياة ، وذكريات الطفولة والصبا ، ومودات الصحبة والرفقة ، ناجين بعقيدتهم وحدها ، متخلين عن كل ما عداها . وكانوا بهذه الهجرة على هذا النحو ، وعلى هذا الانسلاخ من كل عزيز على النفس ، بما في ذلك الأهل والزوج والولد - المثل الحي الواقع في الأرض على تحقق العقيدة في صورتها الكاملة ، واستيلائها على القلب ، بحيث لا تبقى فيه بقية لغير العقيدة . وعلى توحيد الشخصية الإنسانية لتصدق قول الله تعالى : ( ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه ) . .

كذلك وقع في المدينة شيء من هذا في صورة أخرى . فقد دخل في الإسلام أفراد من بيوت ، وظل آخرون فيها على الشرك . فانبتت العلاقة بينهم وبين قرابتهم . ووقع على أية حال تخلخل في الروابط العائلية ؛ وتخلخل أوسع منه في الارتباطات الاجتماعية .

وكان المجتمع الإسلامي لا يزال وليدا ، والدولة الإسلامية الناشئة أقرب إلى أن تكون فكرة مسيطرة على النفس ، من أن تكون نظاما مستندا إلى أوضاع مقررة .

هنا ارتفعت موجة من المد الشعوري للعقيدة الجديدة ، تغطي على كل العواطف والمشاعر ، وكل الأوضاع والتقاليد ، وكل الصلات والروابط . لتجعل العقيدة وحدها هي الوشيجة التي تربط القلوب ، وتربط - في الوقت ذاته - الوحدات التي انفصلت عن أصولها الطبيعية في الأسرة والقبيلة ؛ فتقوم بينها مقام الدم والنسب ، والمصلحة والصداقة والجنس واللغة وتمزج بين هذه الوحدات الداخلة في الإسلام ، فتجعل منها كتلة حقيقية متماسكة متجانسة متعاونة متكافلة . لا بنصوص التشريع ، ولا بأوامر الدولة ؛ ولكن بدافع داخلي ومد شعوري . يتجاوز كل ما ألفه البشر في حياتهم العادية . وقامت الجماعة الإسلامية على هذا الأساس ، حيث لم يكن مستطاعا أن تقوم على تنظيم الدولة وقوة الأوضاع .

نزل المهاجرون على إخوانهم الأنصار ، الذين تبوأوا الدار والإيمان من قبلهم ؛ فاستقبلوهم في دورهم وفي قلوبهم ، وفي أموالهم . وتسابقوا إلى إيوائهم ؛ وتنافسوا فيهم حتى لم ينزل مهاجري في دار أنصاري إلا بقرعة . إذ كان عدد المهاجرين أقل من عدد الراغبين في إيوائهم من الأنصار . وشاركوهم كل شيء عن رضى نفس ، وطيب خاطر ، وفرح حقيقي مبرأ من الشح الفطري ، كما هو مبرأ من الخيلاء والمراءاة !

وآخى رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] بين رجال من المهاجرين ورجال من الأنصار . وكان هذا الإخاء صلة فريدة في تاريخ التكافل بين أصحاب العقائد . وقام هذا الإخاء مقام أخوة الدم ، فكان يشمل التوارث والالتزامات الأخرى الناشئة عن وشيجة النسب كالديات وغيرها .

وارتفع المد الشعوري في هذا إلى ذروة عالية ؛ وأخذ المسلمون هذه العلاقة الجديدة مأخذ الجد - شأنهم فيها شأنهم في كل ما جاءهم به الإسلام - وقام هذا المد في إنشاء المجتمع الإسلامي وحياطته مقام الدولة المتمكنة والتشريع المستقر والأوضاع المسلمة . بل بما هو أكثر . وكان ضروريا لحفظ هذه الجماعة الوليدة وتماسكها في مثل تلك الظروف الاستثنائية المتشابكة التي قامت فيها .

وإن مثل هذا المد الشعوري لضروري لنشأة كل جماعة تواجه مثل تلك الظروف ، حتى توجد الدولة المتمكنة والتشريع المستقر والأوضاع المسلمة ، التي توفر الضمانات الاستثنائية لحياة تلك الجماعة ونموها وحمايتها . وذلك إلى أن تنشأ الأحوال والأوضاع الطبيعية .

وإن الإسلام - مع حفاوته بذلك المد الشعوري ، واستبقاء ينابيعه في القلب مفتوحة دائما فوارة دائما ، مستعدة للفيضان . لحريص على أن يقيم بناءه على أساس الطاقة العادية ، للنفس البشرية لا على أساس الفورات الاستثنائية ، التي تؤدي دورها في الفترات الاستثنائية ؛ ثم تترك مكانها للمستوى الطبيعي ، وللنظام العادي ، متى انقضت فترة الضرورة الخاصة .

ومن ثم عاد القرآن الكريم - بمجرد استقرار الأحوال في المدينة شيئا ما بعد غزوة بدر ، واستتباب الأمر للدولة الإسلامية ، وقيام أوضاع اجتماعية مستقرة بعض الاستقرار ، ووجود أسباب معقولة للارتزاق ، وتوفر قدر من الكفاية للجميع على إثر السرايا التي جاءت بعد غزوة بدر الكبرى ، وبخاصة ما غنمه المسلمون من أموال بني قينقاع بعد إجلائهم . . عاد القرآن الكريم بمجرد توفر هذه الضمانات إلى إلغاء نظام المؤاخاة من ناحية الالتزامات الناشئة من الدم والنسب ، مستبقيا إياه من ناحية العواطف والمشاعر ، ليعود إلى العمل إذا دعت الضرورة . ورد الأمور إلى حالتها الطبيعية في الجماعة الإسلامية . فرد الإرث والتكافل في الديات إلى قرابة الدم والنسب - كما هي أصلا في كتاب الله القديم وناموسه الطبيعي : وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله من المؤمنين والمهاجرين إلا أن تفعلوا إلى أوليائكم معروفا . كان ذلك في الكتاب مسطورا . .

وقرر في الوقت ذاته الولاية العامة للنبي [ صلى الله عليه وسلم ] وهي ولاية تتقدم على قرابة الدم ، بل على قرابة النفس ! : ( النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم ) . . وقرر الأمومة الشعورية لأزواج النبي [ صلى الله عليه وسلم ] بالنسبة لجميع المؤمنين : ( وأزواجه أمهاتهم ) . .

وولاية النبي [ صلى الله عليه وسلم ] ولاية عامة تشمل رسم منهاج الحياة بحذافيرها ، وأمر المؤمنين فيها إلى الرسول - عليه صلوات الله وسلامه - ليس لهم أن يختاروا إلا ما اختاره لهم بوحي من ربه : " لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا لما جئت به " .

وتشمل مشاعرهم فيكون شخصه [ صلى الله عليه وسلم ] أحب إليهم من أنفسهم . فلا يرغبون بأنفسهم عنه ؛ ولا يكون في قلوبهم شخص أو شيء مقدم على ذاته ! جاء في الصحيح : " والذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من نفسه وماله وولده والناس أجمعين " . وفي الصحيح أيضا أن عمر - رضي الله عنه - قال : يا رسول الله ، والله لأنت أحب إلي من كل شيء إلا من نفسي . فقال [ صلى الله عليه وسلم ] : " لا يا عمر حتى أكون أحب إليك من نفسك " . فقال : يا رسول الله والله لأنت أحب إلي من كل شيء حتى من نفسي . فقال [ صلى الله عليه وسلم ] : " الآن يا عمر " .

وليست هذه كلمة تقال ، ولكنها مرتقى عال ، لا يصل إليه القلب إلا بلمسة لدنية مباشرة تفتحه على هذا الأفق السامي الوضيء ؛ الذي يخلص فيه من جاذبية الذات وحبها المتوشج بالحنايا والشعاب . فإن الإنسان ليحب ذاته ويحب كل ما يتعلق بها حبا فوق ما يتصور ، وفوق ما يدرك ! وإنه ليخيل إليه أحيانا أنه طوع مشاعره ، وراض نفسه ، وخفض من غلوائه في حب ذاته ، ثم ما يكاد يمس في شخصيته بما يخدش اعتزازه بها ، حتى ينتفض فجأة كما لو كانت قد لدغته أفعى ! ويحس لهذه المسة لذعا لا يملك انفعاله معه ، فإن ملكه كمن في مشاعره ، وغار في أعماقه ! ولقد يروض نفسه على التضحية بحياته كلها ؛ ولكنه يصعبعليه أن يروضها على تقبل المساس بشخصيته فيما يعده تصغيرا لها ، أو عيبا لشيء من خصائصها ، أو نقدا لسمة من سماتها ، أو تنقصا لصفة من صفاتها . وذلك رغم ما يزعمه صاحبها من عدم احتفاله أو تأثره ! والتغلب على هذا الحب العميق للذات ليس كلمة تقال باللسان ، إنما هو كما قلنا مرتقى عال لا يصل إليه القلب إلا بلمسة لدنية ؛ أو بمحاولة طويلة ومرانة دائمة ، ويقظة مستمرة ورغبة مخلصة تستنزل عون الله ومساعدته . وهي الجهاد الأكبر كما سماه رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] ويكفي أن عمر - وهو من هو - قد احتاج فيها إلى لفتة من النبي [ صلى الله عليه وسلم ] كانت هي اللمسة التي فتحت هذا القلب الصافي .

وتشمل الولاية العامة كذلك التزاماتهم . جاء في الصحيح . . " ما من مؤمن إلا وأنا أولى الناس به في الدنيا والآخرة . اقرأوا إن شئتم ( النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم )فأيما مؤمن ترك مالا فليرثه عصبته من كانوا . وإن ترك دينا أو ضياعا فليأتني فأنا مولاه " . والمعنى أنه يؤدي عنه دينه إن مات وليس له مال يفي بدينه ؛ ويعول عياله من بعده إن كانوا صغارا .

وفيما عدا هذا فإن الحياة تقوم على أصولها الطبيعية التي لا تحتاج إلى مد شعوري عال ، ولا إلى فورة شعورية استثنائية . مع الإبقاء على صلات المودة بين الأولياء بعد إلغاء نظام الإخاء . فلا يمتنع أن يوصي الولي لوليه بعد مماته ؛ أو أن يهبه في حياته . . ( إلا أن تفعلوا إلى أوليائكم معروفا ) . .

ويشد هذه الإجراءات كلها إلى العروة الأولى ، ويقرر أن هذه إرادة الله التي سبق بها كتابه الأزلي : ( كان ذلك في الكتاب مسطورا ) . . فتقر القلوب وتطمئن ؛ وتستمسك بالأصل الكبير الذي يرجع إليه كل تشريع وكل تنظيم .

بذلك تستوي الحياة على أصولها الطبيعية ؛ وتسير في يسر وهوادة ؛ ولا تظل معلقة مشدودة إلى آفاق لا تبلغها عادة إلا في فترات استثنائية محدودة في حياة الجماعات والأفراد .

ثم يستبقي الإسلام ذلك الينبوع الفياض على استعداد للتفجر والفيضان ، كلما اقتضت ذلك ضرورة طارئة في حياة الجماعة المسلمة .

 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{ٱلنَّبِيُّ أَوۡلَىٰ بِٱلۡمُؤۡمِنِينَ مِنۡ أَنفُسِهِمۡۖ وَأَزۡوَٰجُهُۥٓ أُمَّهَٰتُهُمۡۗ وَأُوْلُواْ ٱلۡأَرۡحَامِ بَعۡضُهُمۡ أَوۡلَىٰ بِبَعۡضٖ فِي كِتَٰبِ ٱللَّهِ مِنَ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ وَٱلۡمُهَٰجِرِينَ إِلَّآ أَن تَفۡعَلُوٓاْ إِلَىٰٓ أَوۡلِيَآئِكُم مَّعۡرُوفٗاۚ كَانَ ذَٰلِكَ فِي ٱلۡكِتَٰبِ مَسۡطُورٗا} (6)

القول في تأويل قوله تعالى : { النّبِيّ أَوْلَىَ بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمّهَاتُهُمْ وَأُوْلُو الأرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَىَ بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ إِلاّ أَن تَفْعَلُوَاْ إِلَىَ أَوْلِيَآئِكُمْ مّعْرُوفاً كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُوراً } .

يقول تعالى ذكره : النبيّ محمد أولى بالمؤمنين ، يقول : أحقّ بالمؤمنين به من أنفسهم ، أن يحكم فيهم بما يشاء من حكم ، فيجوز ذلك عليهم . كما :

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد النّبِيّ أوْلَى بالمُؤْمِنِينَ مِنْ أنْفُسِهِمْ كما أنت أولى بعبدك ما قضى فيهم من أمر جاز ، كما كلما قضيت على عبدك جاز .

حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد النّبِيّ أولى بالمُؤْمِنينَ مِنْ أنْفُسِهِمْ قال : هو أب لهم .

حدثنا محمد بن المثنى ، قال : حدثنا عثمان بن عمر ، قال : حدثنا فليح ، عن هلال بن عليّ ، عن عبد الرحمن بن أبي عمرة ، عن أبي هريرة ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : «ما مِنْ مُؤْمِنٍ إلاّ وأنا أوْلَى النّاسِ بِهِ فِي الدّنْيا والاَخِرَةِ ، اقْرَءُوا إنْ شِئْتُمْ النّبِيّ أوْلَى بالمُؤْمِنِينَ مِنْ أنْفُسِهِمْ وأيّمَا مُؤْمِنٍ تَرَكَ مالاً فَلِوَرَثَتِهِ وَعَصَبَتِهِ مَنْ كانُوا ، وَإنْ تَرَكَ دَيْنا أوْ ضِياعا فَلْيأْتِني وأنا مَوْلاهُ » .

حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا حسن بن عليّ ، عن أبي موسى إسرائيل بن موسى ، قال : قرأ الحسن هذه الاَية النّبِيّ أوْلَى بالمُؤْمِنِينَ مِنْ أنْفُسِهمْ ، وأزْوَاجُهُ أمّهاتُهُمْ قال : قال الحسن : قال النبيّ صلى الله عليه وسلم : «أنا أوْلَى بكُلّ مُؤْمِنٍ مِنْ نَفْسِه » قال الحسن : وفي القراءة الأولى : «أوْلَى بالمُؤْمنينَ مِنْ أنْفُسِهِمْ ، وَهُوَ أبٌ لَهُمْ » .

حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قال في بعض القراءة : «النّبِيّ أوْلَى بالمُؤْمِنِينَ مِنْ أنْفُسِهمْ وَهُوَ أبٌ لَهُمْ » وذُكر لنا أن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم قال : «أيّمَا رَجُلٍ تَرَكَ ضِياعا فَأنا أوْلَى بِهِ ، وَإنْ تَرَكَ مالاً فَهُوَ لِوَرَثَتِهِ » .

وقوله : وأزْوَاجُهُ أمّهاتُهُمْ يقول : وحرمة أزواجه حرمة أمهاتهم عليهم ، في أنهن يحرم عليهن نكاحهن من بعد وفاته ، كما يحرمُ عليهم نكاح أمهاتهم . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :

حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة النّبِيّ أولَى بالمُؤْمِنينَ مِنْ أنْفُسِهِمْ ، وأزْوَاجُهُ أُمّهاتُهُمْ يعظّم بذلك حقهنّ ، وفي بعض القراءة : «وَهُوَ أبٌ لَهُمْ » .

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله وأزْوَاجُهُ أُمّهاتُهُمْ محرّمات عليهم .

وقوله : وأُولُوا الأرْحامِ بَعْضُهُمْ أوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللّهِ مِنَ المُؤْمِنِينَ وَالمُهاجِرِينَ يقول تعالى ذكره : وأولوا الأرحام الذين وَرّثْتُ بعضهم من بعض ، هم أولى بميراث بعض من المؤمنين والمهاجرين أن يرث بعضهم بعضا ، بالهجرة والإيمان دون الرحم . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :

حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة وأُولُوا الأرْحامِ بَعْضُهُمْ أوْلَى ببَعْضٍ فِي كِتابِ اللّهِ مِنَ المُؤْمِنِينَ والمُهاجرِينَ لبث المسلمون زمانا يتوارثون بالهجرة ، والأعرابيّ المسلم لا يرث من المهاجرين شيئا ، فأنزل الله هذه الاَية ، فخلط المؤمنين بعضهم ببعض ، فصارت المواريث بالملل .

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله وأُولُوا الأرْحامِ بَعْضُهُمْ أوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللّهِ مِنَ المُؤْمِنينَ والمُهاجِرِينَ إلاّ أنْ تَفْعَلُوا إلى أوْلِيائِكُمْ مَعْرُوفا قال : كان النبيّ صلى الله عليه وسلم قد آخَى بين المهاجرين والأنصار أوّل ما كانت الهجرة ، وكانوا يتوارثون على ذلك ، وقال الله وَلِكُلّ جَعَلْنا مَوَالِيَ ممّا تَرَكَ الوَالِدَانِ والأقْربُونَ والّذِينَ عَقَدَتْ أيمَانُكُمْ ، فآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ قال : إذا لم يأت رحم لهذا يحول دونهم ، قال : فكان هذا أوّلاً ، فقال الله : إلاّ أنْ تَفْعَلُوا إلى أوْلِيائكُمْ مَعْرُوفا يقول : إلاّ أن تُوصُوا لهم كانَ ذلكَ فِي الكِتابِ مَسْطُورا أنّ أولي الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله ، قال : وكان المؤمنون والمهاجرون لا يتوارثون إن كانوا أولي رحم ، حتى يهاجروا إلى المدينة ، وقرأ قال الله : وَالّذِينَ آمَنُوا ولَمْ يُهاجِرُوا ما لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهمْ مِنْ شَيْءٍ حتى يُهاجِرُوا . . . إلى قوله وَفَسادٌ كَبِيرٌ ، فكانوا لا يتوارثون ، حتى إذا كان عام الفتح ، انقطعت الهجرة ، وكثر الإسلام ، وكان لا يُقْبل من أحد أن يكون على الذي كان عليه النبيّ ومن معه إلاّ أن يهاجر قال : وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لمن بَعَث : «اغْدُوا عَلى اسْمِ اللّهِ لا تَغُلّوا وَلا تُوَلّوا ، ادْعُوهُمْ إلى الإسْلامِ ، فإنْ أجابُوكُمْ فاقْبَلُوا وَادْعُوهُمْ إلى الهِجْرَةِ ، فإنْ هاجَرُوا مَعَكُمْ ، فَلَهُمْ ما لَكُمْ ، وَعَلَيْهِمْ ما عَلَيْكُمْ ، فإنْ أبَوْا ولَمْ يُهاجِرُوا وَاخْتارُوا دَارَهُمْ فَأقِرّوهُمْ فِيها ، فَهُمْ كالأعْرابِ تَجْرِي عَلَيْهمْ أحْكامُ الإسْلامِ ، ولَيْسَ لَهُمْ فِي هَذَا الفَيْءِ نَصِيبٌ » . قال : فلما جاء الفتح ، وانقطعت الهجرة ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «لا هِجْرَةَ بَعْدَ الفَتْحِ » وكثر الإسلام ، وتوارث الناس على الأرحام حيث كانوا ، ونسخ ذلك الذي كان بين المؤمنين والمهاجرين ، وكان لهم في الفيء نصيب ، وإن أقاموا وأبَوا ، وكان حقهم في الإسلام واحد ، المهاجر وغير المهاجر والبدوي وكلّ أحد ، حين جاء الفتح .

فمعنى الكلام على هذا التأويل : وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض من المؤمنين والمهاجرين ببعضهم أن يرثوهم بالهِجرة ، وقد يحتمل ظاهر هذا الكلام أن يكون من صلة الأرحام من المؤمنين والمهاجرين ، أوْلى بالميراث ، ممن لم يؤمن ، ولم يهاجر .

وقوله : إلاّ أنْ تَفْعَلُوا إلى أوْلِيائِكُمْ مَعْرُوفا اختلف أهل التأويل في تأويله ، فقال بعضهم : معنى ذلك : إلاّ أن توصوا لذوي قرابتكم من غير أهل الإيمان والهجرة . ذكر من قال ذلك :

حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبو معاوية ، عن حجّاج ، عن سالم ، عن ابن الحنفية إلاّ أنْ تَفْعَلُوا إلى أوْلِيائِكُمْ مَعْرُوفا قالوا : يوصي لقرابته من أهل الشرك .

قال : ثنا عبدة ، قال : قرأت على ابن أبي عروبة ، عن قتادة إلاّ أنْ تَفْعَلُوا إلى أوْلِيائِكُمْ مَعْرُوفا قال : للقرابة من أهل الشرك وصية ، ولا ميراث لهم .

حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله إلاّ أنْ تَفْعَلُوا إلى أوْلِيائِكُمْ مَعْرُوفا قال : إلى أوليائكم من أهل الشرك وصية ، ولا ميراث لهم .

حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبو أحمد الزبيري ويحيى بن آدم ، عن ابن المبارك ، عن معمر ، عن يحيى بن أبي كثير ، عن عكرِمة إلى أوْلِيائِكُمْ مَعْرُوفا قال : وصية .

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : أخبرني محمد بن عمرو ، عن ابن جريج ، قال : قلت لعطاء : ما قوله إلاّ أنْ تَفْعَلُوا إلى أوْلِيائِكُمْ مَعْرُوفا فقال : العطاء ، فقلت له : المؤمن للكافر بينهما قرابة ؟ قال : نعم عطاؤه إياه حباء ووصية له .

وقال آخرون : بل معنى ذلك : إلاّ أن تمسكوا بالمعروف بينكم بحقّ الإيمان والهجرة والحلف ، فتؤتونهم حقهم من النصرة والعقل عنهم . ذكر من قال ذلك :

حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : إلاّ أنْ تَفْعَلُوا إلى أوْلِيائِكُمْ مَعْرُوفا قال : حلفاؤكم الذين والى بينهم النبيّ صلى الله عليه وسلم من المهاجرين والأنصار ، إمساك بالمعروف والعقل والنصر بينهم .

وقال آخرون : بل معنى ذلك : أن توصوا إلى أوليائكم من المهاجرين وصية . ذكر من قال ذلك :

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد إلاّ أنْ تَفْعَلُوا إلى أوْلِيائِكُمْ مَعْرُوفا يقول : إلاّ أن توصوا لهم .

وأولى الأقوال في ذلك عندي بالصواب أن يقال : معنى ذلك إلاّ أن تفعلوا إلى أوليائكم الذين كان رسول الله صلى الله عليه وسلم آخَى بينهم وبينكم من المهاجرين والأنصار ، معروفا من الوصية لهم ، والنصرة والعقل عنهم ، وما أشبه ذلك ، لأن كلّ ذلك من المعروف الذي قد حثّ الله عليه عباده .

وإنما اخترت هذا القول ، وقلت : هو أولى بالصواب من قيل من قال : عنى بذلك الوصية للقرابة من أهل الشرك ، لأن القريب من المشرك ، وإن كان ذا نسب فليس بالمولى ، وذلك أن الشرك يقطع ولاية ما بين المؤمن والمشرك ، وقد نهى الله المؤمنين أن يتخذوا منهم وليا بقوله : لا تَتّخِذُوا عَدُوّي وَعَدُوّكُمْ أوْلِياءَ وغير جائز أن ينهاهم عن اتخاذهم أولياء ، ثم يصفهم جلّ ثناؤه بأنهم لهم أولياء . وموضع «أن » من قوله إلاّ أنْ تَفْعَلُوا نصب على الاستثناء . ومعنى الكلام : وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله من المؤمنين والمهاجرين ، إلاّ أن تفعلوا إلى أوليائكم الذين ليسوا بأولِي أرحام منكم معروفا .

وقوله : كانَ ذلكَ فِي الكِتابِ مَسْطُورا يقول : كان أولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله : أي في اللوح المحفوظ مسطورا أي مكتوبا ، كما قال الراجز :

*** في الصّحُفِ الأُولى التي كانَ سَطَرْ ***

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله كانَ ذلكَ فِي الكِتابِ مَسْطُورا : أي أن أولي الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله .

وقال آخرون : معنى ذلك : كان ذلك في الكتاب مسطورا : لا يرث المشرك المؤمن .