وبعد أن حرض الله - تعالى - المؤمنين على بذل أموالهم وأنفسهم في سبيله عقب ذلك ببيان حكم القتال في الأشهر الحرم فقال - تعالى - : { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشهر الحرام قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ } . . . إلخ .
وقد ذكر كثير من المفسرين ومن أصحاب السير في سبب نزول هذه الآية قصة ملخصها : أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث عبد الله بن جحش ومعه اثنا عشر رجلا كلهم من المهاجرين ، وأعطاء كتابا مختوما وأمره ألا يفتحه إلا بعد أن يسير يومين ، ثم ينظر فيه فيمضي لما أمره به ولا يستكره أحداً من أصحابه . فسار عبد الله يومين ثم فتح الكتاب فإذا فيه " إذا نظرت في كتابي هذا فامض حتى تنزل بنخلة - مكان بين مكة والطائف - فترصد بها عيراً لقريش وتعلم لنا من أخبارهم " .
فقال عبد الله : سمعا وطاعة ! ! وأخبر أصحابه بذلك وأنه لا يستكرههم فمن أحب الشهادة فيلنهض ومن كره الموت فليرجع فأما أنا فناهض ! فنهضوا جميعاً ، فلما كانوا في أثناء الطريق أضل سعد بن أبي وقاص وعتبة بن غزوان بعيراً لهما يعتقبانه . فتخلفا في طلبه ، ومضى عبد الله ببقية أصحابه حتى وصلوا نخلة فمرت عير لقريش في طريقها لمكة وكانت في حراسة عمرو بن الخصومي وعثمان بن المغيرة ، وأخويه نوفل والحكم به كيسان . فتشاور المسلمون وقالوا : نحن في آخر يوم من رجب . لئن تركتم القوم هذه الليلة ليدخلن في الحرم فليمتنعن منكم به ، ولئن قتلتموهم لتقتلنهم في الشهر الحرام ! ! فترددوا وهابوا الإِقدام عليهم ، ثم شجعوا أنفسهم عليهم ، وأجمعوا على قتل من قدروا عليه منهم ، فرمى " واقد بن عبد الله " عمرو بن الحضرمي يسهم فقتله ، وأسروا عثمان والحكم ، وأفلت منهم نوفل فأعجزهم .
وقيل : كان ذلك في أول ليلة من رجب وقد ظنوها آخر ليلة من جمادي . فإقدامهم على ما أقدموا عليه كان على سبيل الخطأ .
ثم أقبل عبد الله ومن معه بالعير والأسيرين حتى قدموا على رسول الله وقد عزلوا من ذلك الخمس فأنكر رسول الله صلى الله عليه وسلم ما فعلوه وقال لهم : " ما أمرتكم بقتال في الشهر الحرام " وعنفهم إخوانهم من المسلمين فيما صنعوا . وقالت قريش قد استحل محمد وأصحابه القتال في الشهر الحرام ، واشتد ذلك على المسلمين ، حتى أنزل الله تعالى قوله : { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشهر الحرام قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ . . . }
والمعنى : يسألونك يا محمد عن حكم القتال في الشهر الحرام ، قل لهم . القتال فيه أمر كبير مستنكر ، وذنب عظيم مستقبح ، لأن فثيه اعتداء على الشهر الحرام المقدس ، وانتهاك لمحارم الله - تعالى - .
والسائلون قيل هم المؤمنون ؛ وقد سألوا عن حكم ذلك على سبيل التعليم والتماس المخرج لما حصل منهم . وقيل هم المشركون وسؤالهم على سبيل التعبير للنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، حيث أقدم بعضهم وهو عبد الله ومن معه على القتال فيه فرد الله عليهم بأن القتال فيه كبير ولكن ما فعله هؤلاء المشركون من صد عن سبيل الله وكفر به . . . الخ أكبر من ذلك بكثير .
فالجواب تشريع إن كان السؤال من المسلمين . وتبكيت وتوبيخ إن كان من المشركين ، لأنهم توقعوا أن يجيبهم بإباحة القتال فيه فيثيروا الشبهات حول الإِسلام والمسلمين ، فلما أجابهم بأن القتال فيه كبير وأن ما فعلوه من جرائم في حق المسلمين أكبر وأعظم كبتوا وألقموا حجراً .
والمراد بالشهر الحرم جميعها وهي ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب .
وسميت بذلك لحرمة القتال فيها ، فأل في الشهر للجنس . وقيل للعهد والمراد بالشهر الحرام شهر رجب الذي حدثت فيه قصة عبد الله بن جحش وأصحابه .
وقوله " قتال فيه " بدل اشتمال من الشهر الحرام ، و { قِتَالٌ } مبتدأ و { كَبِيرٌ } خبر و { فِيهِ } ظرف صفة لقتال مخصصة له .
قال الإِمام الرازي : فإن قيل : لم نكر القتال في قوله - تعالى - : { قِتَالٌ فِيهِ } ومن حق النكرة إذا تكررت أن تجئ باللام حتى يكون المذكور الثاني هو الأول ، لأنه لو لم يكن كذلك كان المذكور غير الأول كما في قوله - تعالى - : { فَإِنَّ مَعَ العسر يُسْراً . إِنَّ مَعَ العسر يُسْراً } قلنا : نعم ما ذكرتم من أن اللفظ إذا تكرر وكانا نكرتين كان المراد بالثاني غير الأول . والقوم أرادوا بقولهم : { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشهر الحرام قِتَالٍ فِيهِ } ذلك القتال المعين الذي أقدم عليه عبد الله وأصحابه فقال - تعالى - { قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ } . وفيه تنبيه على أن القتال الذي يكون كبيراً ليس هو القتال الذي سألتم عنه ؛ بل هو قتال آخر ؛ لأن هذا القتال كان الغرض به نصرة الإِسلام وإذلال الكفر فكيف يكون هذا من الكبائر ؟ إنما القتال الكبير هو الذي يكون الغرض فيه هدم الإِسلام وتقوية الكفر ؛ فكان اختيار التنكير في اللفظين لأجل هذه الدقيقة ، ولو أنه وقع التعبير عنهما أو عن أحدهما بلفظ التعريف لبطلت هذه الفائدة . فسبحان من له تحت كل كلمة من كلمات هذا الكتاب - بل تحت كل حرف منه - سر لطيف لا يهتدي إليه إلا أولو الألباب " .
ثم أخذ القرآن يعدد على المشركين جرائمهم التي كل جريمة منها أكبر من القتال في الشهر الحرام الذي فعله المؤمنون لدفع الضرر عن أنفسهم أو لجلهلهم بالميقات فقال - تعالى - : { وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ الله وَكُفْرٌ بِهِ والمسجد الحرام وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِندَ الله } .
أي : قل يا محمد لهؤلاء المشركين نحن نوافقكم على أن القتال في الشهر الحرام كبير ، ثم قل لهم أيضاً على سبيل التوبيخ إن ما فعلتموه أنتم من صرفكم المسلمين عن طاعة الله وعن الوصول إلى حرمه ، ومن شرككم بالله في بيته ، ومن إخراجكم لأهله منه أعظم وزرا عند الله من القتال في الشهر الحرام .
فالمقصود من هذه الجملة الكريمة إدخال الطمأنينة على قلوب المؤمنين بسبب ما وقع من عبد الله بن جحش ومن معه ، وتبكيت المشركين على إجرائمهم التي أولها يتمثل في قوله تعالى - : { وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ الله } أي : منع من يريد الإِسلام من دخوله ، وابتدأ - سبحانه - ببيان صدهم عن سبيله للإِشارة إلى أنهم يعاندون الحق في ذاته .
وثانيها قوله : { وَكُفْرٌ بِهِ } أي : كفر بالله - تعالى - وهو معطوف على ما قبله .
وثالثها قوله : { والمسجد الحرام } وهو معطوف على سبيل الله أي : وصد عن سبيل الله وعن المسجد الحرام بمنعهم المؤمنين من الحج والاعتمار .
ورابعها قوله : { وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ } أي : وإخراج النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه من مستقرهم حول المسجد الحرام بمكة وهم القائمون بحقوقه ، كل ذلك " أكبر " جرما ، وأعظم إثما { عِندَ الله } من القتال في الشهر الحرام .
قال الجمل : فقوله " أكبر " خبر عن الثلاثة أعنى : صد وكفر وإخراج وفيه حينئذ احتمالان :
أحدهما : أن يكون خبراً عن المجموع .
وثانيهما : أن يكون خبرا عنهما باعتبار كل واحد كما تقول : زيد وبكر وعمرو أفضل من خالد أي : كل واحد منهم على انفراده أفضل من خالد ، وهذا هو الظاهر . والمفضل عليه محذوف أي : أكبر مما فعلته السرية " .
ثم أضاف - سبحانه - إلى جرائهم السابقة جريمة خامسة فقال : { والفتنة أَكْبَرُ مِنَ القتل } أي : ما فعله المشركون من إنزال الشدائد بالمؤمنين تارة بإلقاء الشبهات وتارة بالتعذيب ليحملوهم على ترك عقيدتهم أكبر إثما من القتال في الشهر الحرام ، لأن الفتنة عن الدين تفضي إلى القتل الكثير في الدنيا وإلى استحقاق العذاب الدائم في الآخرة .
وقيل المراد بالفتنة هنا الكفر . أي : كفركم بالله أكبر من القتل في الشهر الحرام .
وأصيل الفتنة : عرض الذهب على النار ، لاستخلاصه من الغش ، ثم استعملت في الشرك وفي الامتحان بأنواع الأذى والاضطهاد .
ويعزى إلى عبد الله بن جحش أنه قال ردا على المشركين عندما قالوا : استحل محمد وأصحابه القتال في الشهر الحرام .
تعدون قتلا في الحرام عظيمة . . . وأعظم منه لو يرى الرشد راشد
صدودكم عما يقول محمد . . . وكفر به ، والله راء وشاهد
وإخراجكم من مسجد الله أهله . . . لئلا يرى لله في البيت ساجد
فإنا وإن عيَّر تُمونا بقتله . . . وأرجف بالإِسلام باغ وحاسد
سقينا من ابن الحضرمي رماحنا . . . بنخلة لما أوقد الحرب واقد
دماً ، وابن عبد الله عثمان بيننا . . . ينازعه غل من القد عاند
وقوله - تعالى - : { وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حتى يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِن اسْتَطَاعُواْ } بيان لشدة عداوة الكفار للمؤمنين ودوامها .
أي : ولا يزال المشركون يقاتلونكم أيها المؤمنون ويضمرون لكم السوء ويداومون على إيذائكم لكي يرجعوكم عن دين الإِسلام إلى الكفر إن استطاعوا ذلك وقدروا عليه . والتعبي بقوله { وَلاَ يَزَالُونَ } المفيد للدوام والاستمرار للإِشعار بأن عداوة المشركين للمسلمين لا تنقطع وأنهم لن يكفوا عن الإِعداد لقتالهم ما استطاعوا إلى ذلك سبيلا ، فعلى المؤمنين ألا يغفلوا عن الدفاع عن أنفسهم .
و { حتى } للتعليل أي : { وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ } لكي { يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِن اسْتَطَاعُواْ } أو بمعنى إلى ، أي : إلى أن يردوكم عن دينكم . والرد : الصرف عن الشيء والإِرجاع إلى ما كان عليه قبل ذلك : فغاية المشركين أن يردوا المسلمين بعد إيمانهم كافرين .
وقوله : { إِن اسْتَطَاعُواْ } يدل - كما يقول الزمخشري - على استبعاد استطاعتهم رد المسلمين عن دينهم ، وذلك كقول الرجل لعدوه : إن ظفرت بي فلا تبق على .
وهو واثق من أنه لن يظفر به . ويشهد لذلك التعبير بإن المفيدة للشك .
وفائدة التقييد بالشرط " إن " التنبيه على سخافة عقول المشركين ، وكون دوام عداوتهم للمؤمنين لن تؤدي إلى النتيجة التي يتمنونها وهي رد السملمين عن دينهم ، لأن لهذا الدين ربا يحميه ، وأتباعه يفضلون الموت على الرجوع عنه .
ثم بين - سبحانه - سوء عاقبة من يرتد عن الإِسلام فقال : { وَمَن يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فأولائك حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدنيا والآخرة وأولائك أَصْحَابُ النار هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } .
ويرتدد يفتعل من الرد وهو الرجوع عن دينه إلى الكفر .
و { حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ } أي : بطلت وفسدت وأصله من الحبط ، بفتح الباء - وهو أن تأكل الدابة أكلا كثيراً تنتفخ معه بطونها فلا تنتفع بما أكلت ويفسد حالها وربما تموت من ذلك . شبه - سبحانه - حال من يعمل الأعمال الصالحة ثم يفسدها بارتداده فتكون وبالا عليه ، بحال الدابة التي أكلت حتى أصابها الحبط ففسد حالها .
والمعنى : ومن يرتدد منكم عن دين الإِسلام ، فيمت وهو كافر دون أن يعود إلى الإِيمان فأولئك الذين ارتدوا وماتوا على الكفر بطلبت جميع أعمالهم الصالحة ، وصارت غير نافعة لهم لا في الدنيا بسبب انسلاخهم عن جماعة المسلمين ، ولا في الآخرة بسبب ردتهم وموتهم على الكفر ، وأولئك الذين هذا شأنهم أصحاب النار هم فيها خالدون خلوداً أبدياً كسائر الكفرة ، ولا يغني عنهم إيمانهم السابق على الردة شيئاً .
وجيء بصيغة الافتعال من الردة وهي مؤذنة بالتكلف ، للإِشارة إلى أن من باشر الدين الحق وخالطت بشاشته قلبه كان من المستبعد عليه أن يرجع عنه ، فهذا المرتد لم يكن مستقراً على هذا الدين الحق وإنما قلقاً مضطرباً غير مستقر حتى انتهى به الأمر بموته على الكفر لتكلفه الدخول في الدين الحق دون الثبات عليه .
وفي قوله : { مِنْكُمْ } إشعار بأنه لا يتصور أن تتحقق بغية المشركين وهي أن يردوا المسلمين جميعاً عن دينهم . بل أقصى ما يتصوره العقلاء أن ينالوا ضعيف الإِيمان فيردوه إلى دينهم ، فيكون الله - تعالى - قد نفى خبثه عن هذا الدين ، إذ لا خير في هؤلاء المشركين ولا فيمن عاد إليهم بعد إيمانه ، والكل مأواهم النار وبئس القرار .
قال الجمل : ومن شرطية في محل رفع بالابتداء ، يرتدد فعل الشرط ، ومنكم متعلق بمحذوف لأنه حال من الضمير المستكن في يرتدد ؛ ومن للتبعيض . والتقدير : ومن يرتدد في حال كونه كائناً منكم أي بعضكم ، وعن دينه متعلق بيرتدد ، وقوله فيمت وهو كافر عطف على الشرط والفاء مؤذنة بالتعقيب ، وقوله : { وَهُوَ كَافِرٌ } جملة حالية من ضمير بمت . وقوله : فأولئك جواب اشرط .
وقوله : وأولئك أصحاب النار مستأنف لمجرد الإِخبار بأنهم أصحاب النار أو معطوف على جواب الشرط . . " .
وفي الإِتيان باسم الإِشارة " أولئك " في الموضعين تنبيه إلى أنهم أحرياء بتلك العقوبات الأليمة بسبب ردتهم وموتهم على الكفر .
وفي التنصيص على حبوط أعمالهم في الدنيا والآخرة زيادة مذمة لهم ، فهم في الدنيا - بسبب ردتهم - تسلب عنهم آثار كلمة الشهادتين من حرمة الأنفس والأموال والأعراض والصلاة عليهم بعد الموت ، والدفن في مقابر المسلمين ، ومن طلاق زوجته المسلمة منه ومن عدم التوارث إلى غير ذلك من حقوق المسلمين ، أما في الآخرة فشأنهم شأن الكافرين في ملازمتهم للنار . هذا ، ومن الأحكام التي أخذها العلماء من هذه الآية الكريمة :
1 - حرمة القتال في الشهر الحرام ، والجمهور على أن هذا الحكم منسوخ ، وأنه لا حرج في قتال المشركين في الأشهر الحرم لقوله - تعالى - : { فَإِذَا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ } فإن المراد بالأشهر الحرم هنا : هي أشهر العهد الأربعة التي أبيح للمشركين السياحة فيها في الأرض ، لا الأشهر الحرم الأربعة المعروفة ، فالتقييد بها يفيد أن قتلهم بعد انسلاخها مأمور به في جميع الأزمنة والأمكنة . وأيضاً لأن الرسول صلى الله عليه وسلم غزا هوازن وثقيف وأرسل بعض أصحابه إلى أوطاس ليحارب من فيها من المشركين ، وكان ذلك في بعض الأشهر الحرم ، ولو كان القتال فيهن حراما لما فعله النبي صلى الله عليه وسلم .
قال الآلوسي : وخالف عطاء في ذلك ، فقد روى عنه أنه سئل عن القتال في الشهر الحرام فحلف بالله - تعالى -ما يحل للناس أن يغزوا في الحرم ولا في الشهر الحرام إلا أن يقاتلوا فيه وجعل ذلك حكما مستمراً إلى يوم القيامة ، والأمة اليوم على خلافه في سائر الأمصار " .
وقد رجح بعض العلماء ما ذهب إليه عطاء فقال : ومهما يكن فإن القتال في الأشهر الحرم حرام في حال الاختيار والابتداء فلا يصح البدء بالغزو فيه . ولقد قال جابر : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يقاتل في الشهر الحرام إلا أن يُغزَى أو يغزو حتى إذا حضر ذلك أقام حتى ينسلخ .
ولقد قال بعض العلماء : إن تحريم القتال في الشهر الحرام منسوخ بقوله - تعالى - : { وَقَاتِلُواْ المشركين كَآفَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَآفَّةً } وبقتال النبي صلى الله عليه وسلم أهل الطائف فيه . والحقيقة أنه لم يثبت ناسخ صريح في النسخ فإن قوله - تعالى - : { وَقَاتِلُواْ المشركين كَآفَّةً } العموم فيه بالنسبة للمقاتلين لا بالنسبة لزمان القتال ، وأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يبتدئ قتالا في الشهر الحرام مختاراً قط ، والتحريم في الاختيار والابتداء كما بينا لا في البقاء والاضطرار ، لذا قال - سبحانه - :
{ فَلاَ تَظْلِمُواْ فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ } ولأن الأشهر الحرم نص عليها في خطبة الوداع وكل ما جاء فيها غير منسوخ " .
2 - كذلك من الأحكام التي أخذها العلماء من الآية أن الردة تحبط العمل في الدنيا سواء أمات المرتد على كفره أم عاد إلى الإِسلام قبل موته بدليل قوله - تعالى - في آية أخرى { لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ } فقد علق الحبوط بمجرد الشرك ، والخطاب وإن كان النبي صلى الله عليه وسلم فالمراد أمته لاستحالة الشرك عليه . وعلى هذا الرأي سار المالكية والأحناف .
ويرى الشافعية أن الردة تحبط العمل في الدنيا متى مات المرتد كافراً ، لأن الآية تقول : { وَمَن يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فأولائك حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ } ويظهر أثر الخلاف فيمن حج مسلما ، ثم أرتد ثم أسلم ، فالأحناف والمالكية يوجبون عليه إعادة الحج لأن الردة أحبطت حجه . والشافعية يقولون : لا حج عليه لأن حجه قد سبق والردة لا تحبط العمل إلا إذا مات الشخص كافراً .
ومن قيادة الجماعة إلى السلم كانت الفتوى التالية في أمر القتال في الشهر الحرام :
( يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه ؟ قل : قتال فيه كبير . وصد عن سبيل الله وكفر به والمسجد الحرام ؛ وإخراج أهله منه أكبر عند الله ؛ والفتنة أكبر من القتل ، ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا ، ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر فأولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة . وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون . إن الذين آمنوا والذين هاجروا وجاهدوا في سبيل الله أولئك يرجون رحمة الله ، والله غفور رحيم ) . .
وقد جاء في روايات متعددة أنها نزلت في سرية عبد الله بن جحش - رضي الله عنه - وكان رسول الله [ ص ] قد بعثه مع ثمانية من المهاجرين ليس فيهم أحد من الأنصار ومعه كتاب مغلق وكلفه ألا يفتحه حتى يمضي ليلتين . فلما فتحه وجد به : " إذا نظرت في كتابي هذا فامض حتى تنزل بطن نخلة - بين مكة والطائف - ترصد بها قريشا وتعلم لنا من أخبارهم . . ولا تكرهن أحدا على المسير معك من أصحابك " - وكان هذا قبل غزوة بدر الكبرى . فلما نظر عبد الله بن جحش في الكتاب قال : سمعا وطاعة . ثم قال لأصحابه : قد أمرني رسول الله [ ص ] أن أمضي إلى بطن نخلة أرصد بها قريشا حتى آتيه منها بخبر . وقد نهى أن استكره أحدا منكم . فمن كان منكم يريد الشهادة ويرغب فيها فلينطلق ومن كره ذلك فليرجع ، فأنا ماض لأمر رسول الله [ ص ] فمضى ومضى معه أصحابه لم يتخلف أحد منهم . فسلك الطريق على الحجاز حتى إذا كان ببعض الطريق ضل بعير لسعد بن أبي وقاص وعتبة بن غزوان - رضي الله عنهما - فتخلفا عن رهط عبد الله بن جحش ليبحثا عن البعير ومضى الستة الباقون . حتى إذا كانت السرية ببطن نخلة مرت عير لقريش تحمل تجارة ، فيها عمرو بن الحضرمي وثلاثة آخرون ، فقتلت السرية عمرا ابن الحضرمي وأسرت اثنين وفر الرابع وغنمت العير . وكانت تحسب أنها في اليوم الأخير من جمادى الآخرة . فإذا هي في اليوم الأول من رجب - وقد دخلت الأشهر الحرم - التي تعظمها العرب . وقد عظمها الإسلام وأقر حرمتها . . فلما قدمت السرية بالعير والأسيرين على رسول الله [ ص ] قال : " ما أمرتكم بقتال في الشهر الحرام " . فوقف العير والأسيرين وأبى أن يأخذ من ذلك شيئا . فلما قال ذلك رسول الله [ ص ] سقط في أيدي القوم ، وظنوا أنهم قد هلكوا ؛ وعنفهم إخوانهم من المسلمين فيما صنعوا . وقالت قريش : قد استحل محمد وأصحابه الشهر الحرام ، وسفكوا فيه الدم ، وأخذوا فيه الأموال ، وأسروا فيه الرجال . وقالت اليهود تفاءلوا بذلك على محمد . . عمرو بن الحضرمي قتله واقد بن عبد الله . .
عمرو : عمرت الحرب . والحضرمي : حضرت الحرب . وواقد بن عبد الله : وقدت الحرب !
وانطلقت الدعاية المضللة على هذا النحو بشتى الأساليب الماكرة التي تروج في البيئة العربية ، وتظهر محمدا وأصحابه بمظهر المعتدي الذي يدوس مقدسات العرب ، وينكر مقدساته هو كذلك عند بروز المصلحة ! حتى نزلت هذه النصوص القرآنية . فقطعت كل قول . وفصلت في الموقف بالحق . فقبض الرسول [ ص ] الأسيرين والغنيمة .
( يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه ؟ قل قتال فيه كبير ) . .
نزلت تقرر حرمة الشهر الحرام ، وتقرر أن القتال فيه كبيرة ، نعم ! ولكن
( وصد عن سبيل الله وكفر به والمسجد الحرام وإخراج أهله منه أكبر عند الله . والفتنة أكبر من القتل ) . . إن المسلمين لم يبدأوا القتال ، ولم يبدأوا العدوان . إنما هم المشركون . هم الذين وقع منهم الصد عن سبيل الله ، والكفر به وبالمسجد الحرام . لقد صنعوا كل كبيرة لصد الناس عن سبيل الله . ولقد كفروا بالله وجعلوا الناس يكفرون . ولقد كفروا بالمسجد الحرام . انتهكوا حرمته ؛ فآذوا المسلمين فيه ، وفتنوهم عن دينهم طوال ثلاثة عشر عاما قبل الهجرة . وأخرجوا أهله منه ، وهو الحرم الذي جعله الله آمنا ، فلم يأخذوا بحرمته ولم يحترموا قدسيته . .
وإخراج أهله منه أكبر عند الله من القتال في الشهر الحرام . . وفتنة الناس عن دينهم أكبر عند الله من القتل . وقد ارتكب المشركون هاتين الكبيرتين فسقطت حجتهم في التحرز بحرمة البيت الحرام وحرمة الشهر الحرام . ووضح موقف المسلمين في دفع هؤلاء المعتدين على الحرمات ؛ الذي يتخذون منها ستارا حين يريدون ، وينتهكون قداستها حين يريدون ! وكان على المسلمين أن يقاتلوهم أنى وجدوهم ، لأنهم عادون باغون أشرار ، لا يرقبون حرمة ، ولا يتحرجون أمام قداسة . وكان على المسلمين ألا يدعوهم يحتمون بستار زائف من الحرمات التي لا احترام لها في نفوسهم ولا قداسة !
لقد كانت كلمة حق يراد بها باطل . وكان التلويح بحرمة الشهر الحرام مجرد ستار يحتمون خلفه ، لتشويه موقف الجماعة المسلمة ، وإظهارها بمظهر المعتدي . . وهم المعتدون ابتداء . وهم الذين انتهكوا حرمة البيت ابتداء .
إن الإسلام منهج واقعي للحياة ، لا يقوم على مثاليات خيالية جامدة في قوالب نظرية . إنه يواجه الحياة البشرية - كما هي - بعوائقها وجواذبها وملابساتها الواقعية . يواجهها ليقودها قيادة واقعية إلى السير وإلى الارتقاء في آن واحد . يواجهها بحلول عملية تكافىء واقعياتها ، ولا ترفرف في خيال حالم ، ورؤى مجنحة : لا تجدي على واقع الحياة شيئا
هؤلاء قوم طغاة بغاة معتدون . لا يقيمون للمقدسات وزنا ، ولا يتحرجون أمام الحرمات ، ويدوسون كل ما تواضع المجتمع على احترامه من خلق ودين وعقيدة . يقفون دون الحق فيصدون الناس عنه ، ويفتنون المؤمنين ويؤذونهم أشد الإيذاء ، ويخرجونهم من البلد الحرام الذي يأمن فيه كل حي حتى الهوام ! . . ثم بعد ذلك كله يتسترون وراء الشهر الحرام ، ويقيمون الدنيا ويقعدونها باسم الحرمات والمقدسات ، ويرفعون أصواتهم : انظروا ها هو ذا محمد ومن معه ينتهكون حرمة الشهر الحرام !
فكيف يواجههم الإسلام ؟ يواجههم بحلول مثالية نظرية طائرة ؟ إنه إن يفعل يجرد المسلمين الأخيار منالسلاح ، بينما خصومهم البغاة الأشرار يستخدمون كل سلاح ، ولا يتورعون عن سلاح . . ! كلا إن الإسلام لا يصنع هذا ، لأنه يريد مواجهة الواقع ، لدفعه ورفعه . يريد أن يزيل البغي والشر ، وأن يقلم أظافر الباطل والضلال . ويريد أن يسلم الأرض للقوة الخيرة ، ويسلم القيادة للجماعة الطيبة . ومن ثم لا يجعل الحرمات متاريس يقف خلفها المفسدون البغاة الطغاة ليرموا الطيبين الصالحين البناة ، وهم في مأمن من رد الهجمات ومن نبل الرماة !
إن الإسلام يرعى حرمات من يرعون الحرمات ، ويشدد في هذا المبدأ ويصونه . ولكنه لا يسمح بأن تتخذ الحرمات متاريس لمن ينتهكون الحرمات ، ويؤذون الطيبين ، ويقتلون الصالحين ، ويفتنون المؤمنين ، ويرتكبون كل منكر وهم في منجاة من القصاص تحت ستار الحرمات التي يجب أن تصان !
وهو يمضي في هذا المبدأ على اطراد . . إنه يحرم الغيبة . . ولكن لا غيبة لفاسق . . فالفاسق الذي يشتهر بفسقه لا حرمة له يعف عنها الذين يكتوون بفسقه . وهو يحرم الجهر بالسوء من القول . ولكنه يستثني ( إلا من ظلم ) . . فله أن يجهر في حق ظالمه بالسوء من القول ، لأنه حق . ولأن السكوت عن الجهر به يطمع الظالم في الاحتماء بالمبدأ الكريم الذي لا يستحقه !
ومع هذا يبقى الإسلام في مستواه الرفيع لا يتدنى إلا مستوى الأشرار البغاة . ولا إلى أسلحتهم الخبيثة ووسائلهم الخسيسة . . إنه فقط يدفع الجماعة المسلمة إلى الضرب على أيديهم ، وإلى قتالهم وقتلهم ، وإلى تطهير جو الحياة منهم . . هكذا جهرة وفي وضح النهار . .
وحين تكون القيادة في الأيدي النظيفة الطيبة المؤمنة المستقيمة ، وحين يتطهر وجه الأرض ممن ينتهكون الحرمات ويدوسون المقدسات . . حينئذ تصان للمقدسات حرمتها كاملة كما أرادها الله .
هذا هو الإسلام . . صريحا واضحا قويا دامغا ، لا يلف ولا يدور ؛ ولا يدع الفرصة كذلك لمن يريد أن يلف من حوله وأن يدور .
وهذا هو القرآن يقف المسلمين على أرض صلبة ، لا تتأرجح فيها أقدامهم ، وهم يمضون في سبيل الله ، لتطهير الأرض من الشر والفساد ، ولا يدع ضمائرهم قلقة متحرجة تأكلها الهواجس وتؤذيها الوساوس . . هذا شر وفساد وبغي وباطل . . فلا حرمة له إذن ، ولا يجوز أن يتترس بالحرمات ، ليضرب من ورائها الحرمات ! وعلى المسلمين أن يمضوا في طريقهم في يقين وثقة ؛ في سلام مع ضمائرهم ، وفي سلام من الله . .
ويمضي السياق بعد بيان هذه الحقيقة ، وتمكين هذه القاعدة ، وإقرار قلوب المسلمين وأقدامهم . . يمضي فيكشف لهم عن عمق الشر في نفوس أعدائهم ، وأصالة العدوان في نيتهم وخطتهم :
( ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا ) . .
وهذا التقرير الصادق من العليم الخبير يكشف عن الإصرار الخبيث على الشر ؛ وعلى فتنة المسلمين عن دينهم ؛ بوصفها الهدف الثابت المستقر لأعدائهم . وهو الهدف الذي لا يتغير لأعداء الجماعة المسلمة في كل أرض وفي كل جيل . . إن وجود الإسلام في الأرض هو بذاته غيظ ورعب لأعداء هذا الدين ؛ ولأعداء الجماعة المسلمة في كل حين إن الإسلام بذاته يؤذيهم ويغيظهم ويخيفهم . فهو من القوة ومن المتانة بحيث يخشاه كل مبطل ، ويرهبه كل باغ ، ويكرهه كل مفسد . إنه حرب بذاته وبما فيه من حق أبلج ، ومن منهج قويم ، ومن نظام سليم . . إنه بهذا كله حرب على الباطل والبغي والفساد . ومن ثم لا يطيقه المبطلون البغاة المفسدون . ومن ثم يرصدون لأهله ليفتنوهم عنه ، ويردوهم كفارا في صورة من صور الكفر الكثيرة . ذلك أنهم لا يأمنون على باطلهم وبغيهم وفسادهم ، وفي الأرض جماعة مسلمة تؤمن بهذا الدين ، وتتبع هذا المنهج ، وتعيش بهذا النظام .
وتتنوع وسائل قتال هؤلاء الأعداء للمسلمين وأدواته ، ولكن الهدف يظل ثابتا . . أن يردوا المسلمين الصادقين عن دينهم إن استطاعوا . وكلما انكسر في يدهم سلاح انتضوا سلاحا غيره ، وكلما كلت في أيديهم أداة شحذوا أداة غيرها . . والخبر الصادق من العليم الخبير قائم يحذر الجماعة المسلمة من الاستسلام ، وينبهها إلى الخطر ؛ ويدعوها إلى الصبر على الكيد ، والصبر على الحرب ، وإلا فهي خسارة الدنيا والآخرة ؛ والعذاب الذي لا يدفعه عذر ولا مبرر :
ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر ، فأولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون . .
والحبوط مأخوذ من حبطت الناقة إذا رعت مرعى خبيثا فانتفخت ثم نفقت . . والقرآن يعبر بهذا عن حبوط العمل ، فيتطابق المدلول الحسي والمدلول المعنوي . . يتطابق تضخم العمل الباطل وانتفاخ مظهره ، وهلاكه في النهاية وبواره . . مع تضخم حجم الناقة وانتفاخها ثم هلاكها في النهاية بهذا الانتفاخ ّ !
ومن يرتدد عن الإسلام وقد ذاقه وعرفه ؛ تحت مطارق الأذى والفتنة - مهما بلغت - هذا مصيره الذي قرره الله له . . حبوط العمل في الدنيا والآخرة . ثم ملازمة العذاب في النار خلودا .
إن القلب الذي يذوق الإسلام ويعرفه ، لا يمكن أن يرتد عنه ارتدادا حقيقيا أبدا . إلا إذا فسد فسادا لا صلاح له . وهذا أمر غير التقية من الأذى البالغ الذي يتجاوز الطاقة . فالله رحيم . رخص للمسلم - حين يتجاوز العذاب طاقته - أن يقي نفسه بالتظاهر ، مع بقاء قلبه ثابتا على الإسلام مطمئنا بالإيمان . ولكنه لم يرخص له في الكفر الحقيقي ، وفي الارتداد الحقيقي ، بحيث يموت وهو كافر . . والعياذ بالله . .
وهذا التحذير من الله قائم إلى آخر الزمان . . ليس لمسلم عذر في أن يخنع للعذاب والفتنة فيترك دينه ويقينه ، ويرتد عن إيمانه وإسلامه ، ويرجع عن الحق الذي ذاقه وعرفه . . وهناك المجاهدة والمجالدة والصبر والثبات حتى يأذن الله . والله لا يترك عباده الذين يؤمنون به ، ويصبرون على الأذى في سبيله . فهو معوضهم خيرا : إحدى الحسنيين : النصر أو الشهادة .