التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{وَمَثَلُ ٱلَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمۡوَٰلَهُمُ ٱبۡتِغَآءَ مَرۡضَاتِ ٱللَّهِ وَتَثۡبِيتٗا مِّنۡ أَنفُسِهِمۡ كَمَثَلِ جَنَّةِۭ بِرَبۡوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٞ فَـَٔاتَتۡ أُكُلَهَا ضِعۡفَيۡنِ فَإِن لَّمۡ يُصِبۡهَا وَابِلٞ فَطَلّٞۗ وَٱللَّهُ بِمَا تَعۡمَلُونَ بَصِيرٌ} (265)

وبعد أن بين القرآن سوء عاقبة الذين يراءون في صدقتهم ، ويفسدون ثمارها بالمن والأذى ، أتبع ذلك ببيان حسن عاقبة الذين ينفقون أموالهم ابتغاء رضا الله ، فقال - تعالى :

{ وَمَثَلُ الذين يُنْفِقُونَ . . . }

وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآَتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ( 265 )

التثبيت : تحقيق الشيء وترسيخه ،

والجنة - كما يقول الراغب - كل بستان ذي شجر يستر بأشجاره الأرض . وأصل الجن ستر الشيء على الحاسة ، يقال : جنة الليل وأجنه أي ستره . وسميت الجنة بذلك لأنها تظلل ما تحتها وتستره . ( الربوة ) - بضم الراء - وفتحها - المكان المرتفع من الأرض . وأصلها من قولهم : ربا الشيء يربو إذا ازداد وارتفع ومنه الربا للزيادة المأخوذة على أصل الشيء .

والمعنى : ومثل الذين ينفقون أموالهم طلبا لرضي الله - تعالى - { وَتَثْبِيتاً مِّنْ أَنْفُسِهِمْ } أي : وتوطينا لأنفسهم أي : وتوطينا لأنفسهم على حفظ هذه الطاعة وعلى ترك ما يفسدها كمثل جنة بموضع مرتفع من الأرض نزل بها مطر كثير فأخرجت ثمرها ( ضعفين ) أي ضعفا بعد ضعف فتكون التثنية للتكثير ، أو فأعطت صابحها أو الناس مثلى ما كانت تثمر في سائر الأوقات بسبب ما أصابها من المطر الغزير . أو فأخرجت ثمرها ضعفين بالنسبة إلى غيرها من الجنان .

والمقصود تشبيه نفقة هؤلاء المؤمنين المخلصين في زكائها ونمائها عند الله بتلك الحديقة اليانعة المرتفعة التي تنزل عليها المطر الغزير فأتت أكلها مضاعفاً وأخرجت للناس من كل زوج بهيج .

وقوله : { ابتغآء } مفعول لأجله أي يبذلون نفقتهم من أجل رضا الله - عز وجل - أو حال من فاعل ينفقون . أي ينفقون أموالهم طالبين رضا الله .

وقوله : { وَتَثْبِيتاً مِّنْ أَنْفُسِهِمْ } معطوف على سابقه ، وقد ذكر صاحب الكشاف أوجها في معنى هذه الجملة الكريمة فقال : قوله : { وَتَثْبِيتاً مِّنْ أَنْفُسِهِمْ } أي وليثبتوا منها ببذل المال الذي هو شقيق الروح على سائر العبادات الشاقة وعلى الإِيمان ، لأن النفس إذا رضيت بالتحامل عليها وتكليفها ، ما يصعب عليها ذلت خاضعة لصاحبها وقل طمعها في اتباعه لشهواتها وبالعكس ، فكان إنفاق المال تثبيتا لها على الإِيمان واليقين . و { مِّنْ } على هذا الوجه للتبعيض ، مثلها في قولهم : هز من عطفه وحرك من نشاطه . ويجوز أن يراد من قوله - تعالى - : { وَتَثْبِيتاً مِّنْ أَنْفُسِهِمْ } أي : وتصديقا للإِسلام وتحقيقا للجزاء من أصل أنفسهم لأنه إذا أنفق السملم ماله في سبيل الله ، علم أن تصديقه وإيمانه بالثواب من أصل نفسه ومن إخلاص قلبه . و { مِّنْ } على هذا الوجه لابتداء الغاية ، كقوله - تعالى - ( حَسَداً مِّنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ ) ويحتمل أن يكون المعنى : وتثبيتا من أنفسهم عند المؤمنين أنها صادقة الإِيمان مخلصة فيه ، وتعضد هذا المعنى قراءة مجاهد : وتثبيتا من أنفسهم : فإن قلت : فما معنى التبعيض ؟ قلت : معناه أن من يذل ماله لوجه الله فقد ثبت بعض نفسه ، ومن بذل ماله وروحه معاً فهو الذي ثبتها كله كما في قوله - تعالى - : { وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ الله بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ }

وخصص الجنة بأنها بربوة لأن الأشجار في المكان المرتفع من الأرض تكون عادة أحسن منظرا ، وأزكى ثمرا ، للطاقة هوائها ، فكان من فوائده هذا القيد إعطاء وجه الشبه - وهو تضعيف المنفعة وجمالها قوة ووضوحاً ، كما أن من فوائده تحسين المشبه به تحسينا يعود أثره إلى المشبه عند السامع .

ثم قال - تعالى - : { فَإِن لَّمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ } .

والطل : هو المطر القليل وجمعه طلال ، وهو مبتدأ محذوف الخبر أي فطل قليل يصبها يكفيها .

والمراد أن هذه الجنة لطيبها وكرم منبتها تزكو وتثرم كثر المطر النازل عليها أو قل فكذلك نفقة المؤمنين المخلصين تزكو عند الله وتطيب كثرة أو قلت ، لأن إخلاصهم فيها جعلها عند الله - تعالى - مضاعفة نامية .

ثم ختم - سبحانه - الآية بقوله : { والله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِير } .

أي أنه - سبحانه - عليم بأحوال عباده لا تخفى عليه خافية ، وسيجازي المخلصين بما يرضيهم كما سيجازي المنانين والمرائين بما يستحقون . ففي الجملة الكريمة ترغيب وترهيب ووعيد .

وبذلك نرى القرآن الكريم قد ساق في هذه الآية وسابقتها حالتين متقابلتين : حالة الذي يبطل صدقته بالمن والأذى والرياء ، وكيف تكون عاقبته ونهايته . وحالة الذي ينفق ماله طلباً لرضا الله وتعويداً لنفسه على فعل الطيبات وكيف يكون جزاؤه عند العليم الخبير ولقد صور القرآن هاتين الحالتين تصويراً مؤثراً بديعاً ، من شأنه أن يهدي العقلاء إلى فعل الخيرات ، وإخلاص النيات ، واجتناب السيئات

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{وَمَثَلُ ٱلَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمۡوَٰلَهُمُ ٱبۡتِغَآءَ مَرۡضَاتِ ٱللَّهِ وَتَثۡبِيتٗا مِّنۡ أَنفُسِهِمۡ كَمَثَلِ جَنَّةِۭ بِرَبۡوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٞ فَـَٔاتَتۡ أُكُلَهَا ضِعۡفَيۡنِ فَإِن لَّمۡ يُصِبۡهَا وَابِلٞ فَطَلّٞۗ وَٱللَّهُ بِمَا تَعۡمَلُونَ بَصِيرٌ} (265)

261

أما المنظر الثاني المقابل له في المشهد . . فقلب عامر بالإيمان ، ندي ببشاشته . ينفق ماله ( ابتغاء مرضاة الله ) . . وينفقه عن ثقة ثابتة في الخير ، نابعة من الإيمان ، عميقة الجذور في الضمير . . وإذا كان القلب الصلد وعليه ستار من الرياء يمثله صفوان صلد عليه غشاء من التراب ، فالقلب المؤمن تمثله جنة . جنة خصبة عميقة التربة في مقابل حفنة التراب على الصفوان . جنة تقوم على ربوة في مقابل الحجر الذي تقوم عليه حفنة التراب ! ليكون المنظر متناسق الأشكال ! فإذا جاء الوابل لم يذهب بالتربة الخصبة هنا كما ذهب بغشاء التراب هناك . بل أحياها وأخصبها ونماها . .

( أصابها وابل فآتت أكلها ضعفين ) . .

أحياها كما تحيي الصدقة قلب المؤمن فيزكو ويزداد صلة بالله ، ويزكو ماله كذلك ويضاعف له الله ما يشاء . وكما تزكو حياة الجماعة المسلمة بالإنفاق وتصلح وتنمو :

( فإن لم يصبها وابل ) . . غزير . . ( فطل ) من الرذاذ يكفي في التربة الخصبة ويكفي منه القليل !

إنه المشهد الكامل ، المتقابل المناظر ، المنسق الجزئيات ، المعروض بطريقة معجزة التناسق والأداء ، الممثل بمناظره الشاخصة لكل خالجة في القلب وكل خاطرة ، المصور للمشاعر والوجدانات بما يقابلها من الحالات والمحسوسات ، الموحي للقلب باختيار الطريق في يسر عجيب . .

ولما كان المشهد مجالا للبصر والبصيرة من جانب ، ومرد الأمر فيه كذلك إلى رؤية الله ومعرفته بما وراء الظواهر ، جاء التعقيب لمسة للقلوب :

والله بما تعملون بصير . .

/خ274