التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{إِذَا جَآءَكَ ٱلۡمُنَٰفِقُونَ قَالُواْ نَشۡهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ ٱللَّهِۗ وَٱللَّهُ يَعۡلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُۥ وَٱللَّهُ يَشۡهَدُ إِنَّ ٱلۡمُنَٰفِقِينَ لَكَٰذِبُونَ} (1)

مقدمة السورة:

تفسير سورة المنافقون

بسم الله الرحمن الرحيم

مقدمة وتمهيد

1- سورة " المنافقون " من السور المدنية الخالصة ، وعدد آياتها إحدى عشرة آية ، وكان نزولها بعد سورة " الحج " ، وقبل سورة " المجادلة " ( {[1]} ) .

وقد عرفت بهذا الاسم منذ عهد النبوة ، فقد جاء في حديث زيد بن أرقم –الذي سنذكره خلال تفسيرنا لها- أنه قال : " فلما أصبحنا قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم سورة المنافقين " .

وقال الآلوسي : أخرج سعيد بن منصور ، والطبراني في الأوسط –بسند حسن- عن أبي هريرة ، قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ في صلاة الجمعة في الركعة الأولى بسورة الجمعة ، فيحرض بها المؤمنين ويقرأ في الركعة الثانية بسورة المنافقين ، فيقرع بها المنافقين .

2- والمحققون من العلماء على أن هذه السورة ، نزلت في غزوة بني المصطلق ، وقد جاء ذلك في بعض الروايات التي وردت في سبب نزول بعض آياتها ، والتي سنذكر خلال تفسيرنا لها –بإذن الله- وكانت هذه الغزوة في السنة الخامسة من الهجرة .

وذكر بعضهم أنها نزلت في غزوة " تبوك " ، ومما يشهد لضعف هذا القول ، أن المنافقين في هذا الوقت –وهو السنة التاسعة من الهجرة ، كانوا قد زالت دولتهم ، وضعف شأنهم ، وما كان لواحد منهم أن يقول : [ لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل ] .

3- وسميت هذه السورة بسورة " المنافقون " ، لأنها فضحتهم ، ووصفتهم بما هو أهله من صفات ذميمة ، ومن طباع قبيحة ، ومن مسالك سيئة . . ويكاد حديثها يكون مقصورا عليهم ، وعلى أكاذيبهم ودسائسهم .

وحديث القرآن عن النفاق والمنافقين ، قد ورد في كثير من السور المدنية ، ففي سورة البقرة نجد حديثا مستفيضا عنهم ، يبدأ بقوله –تعالى- : [ ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر ، وما هم بمؤمنين ] .

وفي سورة آل عمران نجد توبيخا من الله –تعالى- لهم ، كما في قوله –عز وجل- : [ الذين قالوا لإخوانهم وقعدوا ، لو أطاعونا ما قتلوا ، قل فادرأوا عن أنفسكم الموت إن كنتم صادقين ] .

وفي سورة النساء نجد آيات متعددة تتحدث عن قبائحهم ، ومن ذلك قوله –تعالى- : [ ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك ، وما أنزل من قبلك ، يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به ، ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالا بعيدا . وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول ، رأيت المنافقين يصدون عنك صدودا ] .

أما سورة " التوبة " فهي أكثر السور حديثا عنهم ، ولذا سميت بالفاضحة لأنها فضحتهم على رءوس الأشهاد ، كما سميت بالمنقرة ، لأنها نقرت عما في قلوبهم ، وكشفت عنه ، كما سميت بالمبعثرة لأنها بعثرت أسرارهم . . ( {[2]} ) .

والحق أنه لا تكاد تخلو سورة من السور المدنية ، من الحديث عن المنافقين وعن سوء سلوكهم وأخلاقهم . ووجوب ابتعاد المؤمنين عنهم .

4- والنفاق إنما يظهر ويفشو حيث تكون القوة ، لذا لم يكن للمنافقين أثر في العهد المكي ، لأن المؤمنين كانوا قلة مستضعفين في الأرض ، ومن كان هذا شأنه لا ينافقه الناس ، فضلا عن أن مشركي مكة كانوا بطبيعتهم جبابرة ، وكانوا يعلنون حربهم على الدعوة الإسلامية إعلانا سافرا . لا التواء معه ولا مداهنة .

أما المؤمنون في العهد المدني ، فقد كانوا أقوياء خصوصا بعد أن أسسوا دولتهم ، وانتصروا على المشركين في غزوة بدر . . كما انتصروا على اليهود . . فظهرت حركة النفاق في المدينة ، لمداهنة المؤمنين ، وللحصول على نصيبهم من الغنائم التي يغنمها المؤمنون . . ولغير ذلك من الأسباب التي ذكرها العلماء والمؤرخون . . ( {[3]} ) .

وسورة " المنافقون " فضحت أحوالهم ، وكشفت عن دخائلهم وعن خسة نفوسهم . . وختمت بموعظة المؤمنين ، وبحثهم على الإنفاق في سبيل الله ، وعلى تقديم العمل الصالح ، الذي ينفعهم في دنياهم وفي آخرتهم .

وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم .

القاهرة – مدينة مصر

مساء الثلاثاء : 10 من شوال سنة 1406 ه

17/6/1986م

د . محمد سيد طنطاوي

افتتح الله - تعالى - السورة الكريمة ، بالحديث عن صفة من أبرز الصفات الذميمة للمنافقين ، ألا وهى صفة الكذب والخداع ، فقال - تعالى - { إِذَا جَآءَكَ المنافقون قَالُواْ نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ الله . . . } .

{ إِذَا } هنا ظرف للزمان الماضى ، بقرينة كون جملتيها ماضيتين ، وجواب " إذا " قوله { قَالُواْ نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ الله . . } والخطاب للرسول - صلى الله عليه وسلم - .

و { المنافقون } جمع منافق ، وهو من يظهر الإسلام ويخفى الكفر ، أو من يظهر خلاف ما يبطن من أقوال وأفعال .

أى : إذا حضر المنافقون إلى مجلسك - أيها الرسول الكريم -قالوا لك على سبيل الكذب والمخادعة والمداهنة . . . نشهد أنك رسول من عند الله - تعالى - ، وأنك صادق فيما تبلغه عن ربك .

وعبروا عن التظاهر بتصديقهم له - صلى الله عليه وسلم - بقوله { نَشْهَدُ } - المأخوذ من الشهادة التى هى إخبار عن أمر مقطوع به - وأكدوا هذه الشهادة بإن واللام ، للإيهام بأن شهادتهم صادقة ، وأنهم لا يقصدون بها إلا وجه الحق ، وأن ما على ألسنتهم يوافق ما فى قلوبهم .

قال الشوكانى : أكدوا شهادتهم بإنّ واللام ، للإشعار بأنها صادرة من صميم قلوبهم ، مع خلوص نياتهم ، والمراد بالمنافقين ، عبد الله بن أبىّ وأتباعه .

ومعنى نشهد : نحلف ، فهو يجرى مجرى القسم ، ولذا يتلقى بما يتلقى به القسم .

ومثل نشهد : نعلم ، فإنه يجرى مجرى القسم كما فى قول الشاعر :

ولقد علمت لتأتين منيتى . . . إن المنايا لا تطيش سهامها

وقوله : { والله يَشْهَدُ إِنَّ المنافقين لَكَاذِبُونَ } معطوفة على قوله : { قَالُواْ نَشْهَدُ } .

أى : إذا حضر المنافقون إليك - أيها الرسول الكريم - قالوا كذبا وخداعا : نشهد إنك لرسول الله ، والله - تعالى - { يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ } حقا سواء شهدوا بذلك أم لم يشهدوا ، فأنت لست فى حاجة إلى هذه الشهادة التى تخالف بواطنهم .

{ والله } - تعالى - { يَشْهَدُ إِنَّ المنافقين لَكَاذِبُونَ } فى قولهم : نشهد إنك لرسول الله ، لأن قولهم هذا يباين ما أخفته قلوبهم المريضة ، من كفر ونفاق وعداوة لك وللحق الذى جئت به .

والإيمان الحق لا يتم إلا إذا كان ما ينطق به اللسان ، يوافق ويواطىء ، ما أمضره القلب ، وهؤلاء قد قالوا بألسنتهم ما ليس فى قلوبهم ، فثبت كذبهم فى قولهم : نشهد إنك لرسول الله . .

قال صاحب الكشاف : فإن قلت : أى : فائدة فى قوله - تعالى - : { والله يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ } ؟ قلت : لو قال : قالوا نشهد إنك لرسول الله ، والله يشهد إن المنافقين لكاذبون ، لكان يوهم أن قولهم هذا كذب ، فوسط بينهما قوله : { والله يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ } ليميط هذا الإيهام .

وجىء بالفعل { يَشْهَدُ } فى الإخبار عن كذبهم فيما قالوه ، للمشاكلة ، حتى يكون إبطال خبرهم مساويا لإخبارهم ولما نطقوا به .


[1]:- سورة إبراهيم: الآية 1.
[2]:- سورة الإسراء. الآية 9.
[3]:- سورة المائدة: الآيتان 15، 16.
 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{إِذَا جَآءَكَ ٱلۡمُنَٰفِقُونَ قَالُواْ نَشۡهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ ٱللَّهِۗ وَٱللَّهُ يَعۡلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُۥ وَٱللَّهُ يَشۡهَدُ إِنَّ ٱلۡمُنَٰفِقِينَ لَكَٰذِبُونَ} (1)

مقدمة السورة:

سورة المنافقون مدنية وآياتها إحدى عشرة

هذه السورة التي تحمل هذا الاسم الخاص " المنافقون " الدال على موضوعها . . ليست هي السورة الوحيدة التي فيها ذكر النفاق والمنافقين ، ووصف أحوالهم ومكائدهم . فلا تكاد تخلو سورة مدنية من ذكر المنافقين تلميحا أو تصريحا . ولكن هذه السورة تكاد تكون مقصورة على الحديث عن المنافقين ، والإشارة إلى بعض الحوادث والأقوال التي وقعت منهم ورويت عنهم .

وهي تتضمن حملة عنيفة على أخلاق المنافقين وأكاذيبهم ودسائسهم ومناوراتهم ، وما في نفوسهم من البغض والكيد للمسلمين ، ومن اللؤم والجبن وانطماس البصائر والقلوب .

وليس في السورة عدا هذا إلا لفتة في نهايتها إلى الذين آمنوا لتحذيرهم من كل ما يلصق بهم صفة من صفات المنافقين ، ولو من بعيد . وأدنى درجات النفاق عدم التجرد لله ، والغفلة عن ذكره اشتغالا بالأموال والأولاد ، والتقاعس عن البذل في سبيل الله حتى يأتي اليوم الذي لا ينفع فيه البذل والصدقات .

وحركة النفاق التي بدأت بدخول الإسلام المدينة ، واستمرت إلى قرب وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم تنقطع في أي وقت تقريبا ، وإن تغيرت مظاهرها ووسائلها بين الحين والحين . . هذه الحركة ذات أثر واضح في سيرة هذه الفترة التاريخية وفي أحداثها ؛ وقد شغلت من جهد المسلمين ووقتهم وطاقتهم قدرا كبيرا ؛ وورد ذكرها في القرآن الكريم وفي الحديث الشريف مرات كثيرة تدل على ضخامة هذه الحركة ، وأثرها البالغ في حياة الدعوة في ذلك الحين .

وقد ورد عن هذه الحركة فصل جيد في كتاب : " سيرة الرسول : صور مقتبسة من القرآن الكريم " لمؤلفه الأستاذ " محمد عزة دروزة " نقتطف منه فقرات كاشفة :

" وعلة ظهور تلك الحركة في المدينة واضحة ، فالنبي [ صلى الله عليه وسلم ] والمسلمون الأولون في مكة لم يكونوا من القوة والنفوذ في حالة تستدعي وجود فئة من الناس ترهبهم أو ترجو خيرهم ، فتتملقهم وتتزلف إليهم في الظاهر ، وتتآمر عليهم وتكيد لهم وتمكر بهم في الخفاء ، كما كان شأن المنافقين بوجه عام . ولقد كان أهل مكة وزعماؤها خاصة يناوئون النبي جهارا ، ويتناولون من استطاعوا من المسلمين بالأذى الشديد ، ويقاومون الدعوة بكل وسيلة دون ما تحرز أو تحفظ ؛ وكانت القوة لهم حتى اضطر المسلمون إلى الهجرة فرارا بدينهم ودمهم إلى الحبشة أولا ، ثم إلى يثرب ؛ وحتى فتن بعضهم عن دينه بالعنف والإكراه ، أو بالإغراء والتهويش ؛ وحتى تزلزل بعضهم وتبرم ونافق المشركين ، وحتى مات بعض من ناله الأذى ممن ثبت على دينه نتيجة للتعذيب . . .

" أما في المدينة فقد كان الأمر مختلفا جدا . فالنبي [ صلى الله عليه وسلم ] استطاع قبل أن يهاجر إليها أن يكسب أنصارا أقوياء من الأوس والخزرج ؛ ولم يهاجر إلا بعد أن استوثق من موقفه ، ولم يبق تقريبا بيت عربي فيها لم يدخله الإسلام . ففي هذه الحالة لم يكن من الهين أن يقف الذين لم يؤمنوا به - إما عن جهالة وغباء ، وإما عن غيظ وحقد وعناد ، لأنهم رأوا في قدوم النبي حدا لنفوذهم وسلطانهم - موقف الجحود والعداء العلني للنبي والمسلمين من المهاجرين والأنصار ؛ وكان للعصبية في الوقت نفسه أثر غير قليل في عدم الوقوف هذا الموقف ، لأن سواد الأوس والخزرج أصبحوا أنصار النبي ، ومرتبطين به بمواثيق الدفاع والنصر ، إلى أن جلهم قد حسن إسلامهم ، وغدوا يرون في النبي رسول الله ، وقائدهم الأعلى الواجب الطاعة ، ومرشدهم الأعظم الواجب الاتباع ، فلم يكن يسع الذين ظلت تغلبهم نزعة الشرك ، ويتحكم فيهم مرض القلب والمكابرة والحقد ، ويحملهم ذلك على مناوأة النبي [ صلى الله عليه وسلم ] ودعوته ونفوذه - أن يظهروا علنا في نزعتهم وعدائهم ، ولم يكن أمامهم إلا التظاهر بالإسلام ، والقيام بأركانه ، والتضامن مع قبائلهم . وجعل مكرهم وكيدهم ودسهم ومؤامراتهم بأسلوب المراوغة والخداع والتمويه ، وإذا كانوا وقفوا أحيانا مواقف علنية فيها كيد ودس ، وعليها طابع من النفاق بارز ، فإنما كان هذا منهم في بعض الظروف والأزمات الحادة التي كانت تحدق بالنبي والمسلمين ، والتي كانوا يتخذونها حجة لتلك المواقف بداعي المصلحة والمنطق والاحتياط ؛ ولم يكونوا على كل حال يعترفون بالكفر أو النفاق ، غير أن نفاقهم وكفرهم ومواقفهم في الكيد والدس والتآمر لم تكن لتخفى على النبي [ صلى الله عليه وسلم ] والمخلصين من أصحابه من المهاجرين والأنصار ، كما أن المواقف العلنية التي كانوا يقفونها في فرص الأزمات كانت مما تزيد كفرهم ونفاقهم فضيحة ومقتا . وقد كانت الآيات القرآنية توجه إليهم كذلك الفضائح المرة بعد المرة ، وتدل عليهم بما يفعلون أو يمكرون ، وتدمغهم بشرورهم وخبثهم ومكايدهم ، وتحذر النبي [ صلى الله عليه وسلم ] والمسلمين منهم في كل ظرف ومناسبة .

" ولقد كانت مواقف المنافقين ومكايدهم بعيدة المدى والأثر على ما تلهم الآيات المدنية ، حتى لكأنه نضال قوي ، يذكر بما كان من نضال بين النبي [ صلى الله عليه وسلم ] وزعماء مكة ، وإن اختلفت الأدوار والنتائج ؛ إذ أن النبي لم يلبث أن أخذ مركزه يتوطد وقوته تزداد ، ودائرة الإسلام تتسع ، وصار صاحب سلطان وأمر نافذ وجانب عزيز ؛ وإذ لم يكن المنافقون كتلة متضامنة ذات شخصية خاصة بارزة ، وكان ضعفهم وضآلة عددهم وشأنهم يسيران سيرا متناسبا عكسيا مع ما كان من تزايد قوة النبي [ صلى الله عليه وسلم ] واتساع دائرة الإسلام ، وتوطد عزته وسلطانه " .

[ ويكفيك لأجل أن تشعر بخطورة الدور الذي قام به المنافقون ، وخاصة في أوائل العهد ، أن تلاحظ أن المنافقين كانوا أقوياء نسبيا بعصبياتهم التي كانت ما تزال قوية الأثر في نفوس سواد قبائلهم ، كما أنهم لم يكونوا مفضوحين فضيحة تامة ، ولم يكن الإسلام قد رسخ في هذا السواد رسوخا كافيا ؛ وأن النبي [ صلى الله عليه وسلم ] كان محوطا بالمشركين الجاحدين من كل جانب ، وأهل مكة خصومه الألداء ، وهم قبلة الجزيرة يتربصون به الدوائر ، ويتحينون كل فرصة ووسيلة للقضاء عليه ؛ واليهود في المدينة وحولها قد تنكروا له منذ عهد مبكر وتطيروا به ، ثم جاهروه بالكفر والعداء والمكر ؛ ولم يلبث أن انعقد بينهم وبين المنافقين حلف طبيعي على توحيد المسعى ، والتضامن في موقف المعارضة والكيد ، حتى ليمكن القول : إن المنافقين لم يقووا ويثبتوا ويكن منهم ذلك الأذى الشديد والاستمرار في الكيد والدس إلا بسبب ما لقوه من اليهود من تعضيد ، وما انعقد بينهم من تضامن وتواثق ، ولم يضعف شأنهم ويخف خطرهم إلا بعد أن مكن الله للنبي من هؤلاء وأظهره عليهم ، وكفاه شرهم ] .

وهذه السورة تبدأ بوصف طريقتهم في مداراة ما في قلوبهم من الكفر ، وإعلانهم الإسلام والشهادة بأن النبي [ صلى الله عليه وسلم ] هو رسول الله . وحلفهم كذبا ليصدقهم المسلمون ، واتخاذهم هذه الأيمان وقاية وجنة يخفون وراءها حقيقة أمرهم ، ويخدعون المسلمين فيهم :

( إذا جاءك المنافقون قالوا : نشهد إنك لرسول الله - والله يعلم إنك لرسوله - والله يشهد إن المنافقين لكاذبون . اتخذوا أيمانهم جنة فصدوا عن سبيل الله ، إنهم ساء ما كانوا يعملون ) . .

فهم كانوا يجيئون إلى رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] فيشهدون بين يديه برسالته شهادة باللسان ، لا يقصدون بها وجه الحق ، إنما يقولونها للتقية ، وليخفوا أمرهم وحقيقتهم على المسلمين . فهم كاذبون في أنهم جاءوا ليشهدوا هذه الشهادة ، فقد جاءوا ليخدعوا المسلمين بها ، ويداروا أنفسهم بقولها . ومن ثم يكذبهم الله في شهادتهم بعد التحفظ الذي يثبت حقيقة الرسالة : ( والله يعلم إنك لرسوله ) . . ( والله يشهد إن المنافقين لكاذبون ) .

والتعبير من الدقة والاحتياط بصورة تثير الانتباه . فهو يبادر بتثبيت الرسالة قبل تكذيب مقالة المنافقين . ولولا هذا التحفظ لأوهم ظاهر العبارة تكذيب المنافقين في موضوع شهادتهم وهو الرسالة . وليس هذا هو المقصود . إنما المقصود تكذيب إقرارهم فهم لا يقرون الرسالة حقا ولا يشهدون بها خالصي الضمير !