لقد حكى القرآن أن موقف أكثرهم منه كان موقف الكافر به الجاحد لرسالته فقال تعالى : { فَلَمَّآ أَحَسَّ . . . . } .
قوله - تعالى - { فَلَمَّآ أَحَسَّ عيسى مِنْهُمُ الكفر قَالَ مَنْ أنصاري إِلَى الله } شروع فى بيان مآل أحواله - عليه السلام - وفى بيان موقف قومه منه بعد أن بين - قبل ذلك بعض صفاته ومعجزاته وخصائص رسالته .
وأحس : بمعنى علم ووجد وعرف . والإحساس : الإدراك ببعض الحواس الخمس وهى الذوق والشم واللمس والسمع والبصر . يقال أحس الشيء ، علمه بالحس . وأحس بالشيء شعر به بحاسته والمراد أن عيسى عليه السلام ، علم من بنى إسرائيل الكفر علما لا شبهة فيه .
والأنصار جمع نصير مثل شريف وأشراف .
والمعنى أن عيسى - عليه السلام - قد جاء لقومه بالمعجزات الباهرات التى تشهد بصدقه فى دعوته ولكنه لم يجد منهم أذنا واعية ، فلما رأى تصميمهم على باطلهم ، وأحس منهم الكفر أى علمه يقينا وتحققه تحقق ما يدرك بالحواس ، قال على سبيل التبليغ وطلب النصرة : من أنصارى إلى الله ؟ أى من أعوانى في الدعوة إلى الله والتبشير بدينه حتى أبلغ ما كلفنى بتبليغه .
قال ابن كثير : وذلك كما كان النبى صلى الله عليه وسلم يقول فى مواسم الحج قبل أن يهاجر " هل من رجل يؤوينى وينصرنى حتى أبلغ كلام ربى فإن قريشا قد منعوني أن أبلغ كلام ربى " فقيض الله له الأنصار فآووه ونصروه ومنعوه من الأسود والأحمر " .
والفاء في { فَلَمَّآ } تؤذن بالتعقيب على الآيات الباهرة . أى أنهم بعد أن رأوا ما رأوا من معجزات عيسى لم يمتثلوا له ولم يتدبروا عاقبة أمرهم بل كذبوه على الفور ، وحاولوا قتله تخلصا منه واستمروا على كفرهم .
والتعبير بأحس - كما أشرنا من قبل - يشعر بأنه علم منهم الكفر علما لا شبهة فيه كعلم ما يدرك بالحواس .
والمقول لهم { مَنْ أنصاري إِلَى الله } هم الحواريون كما يشير إليه قوله - تعالى - في سورة الصف : { ياأيها الذين آمَنُواْ كونوا أَنصَارَ الله كَمَا قَالَ عِيسَى ابن مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أنصاري إِلَى الله } وقيل المقول لهم جميع أفراد قومه .
وقوله { مِنْهُمُ } متعلق بأحس . ومن لابتداء الغاية أى ابتداء الإحساس من جهتهم . أو متعلق بمحذوف على أنه حال من الكفر أى أحس الكفر حال كونه صادرا منهم . وقوله { إِلَى الله } متعلق بمحذوف على أنه حال من الياء في أنصارى . أى من أنصارى حال كونى ذاهبا إلى الله أى ملتجئا إليه وشارعا في نصرة دينه .
وفى قوله { مَنْ أنصاري إِلَى الله } حض لهم على المسارعة إلى نصرة الحق لأنهم لا ينصرونه من أجل متعة زائلة . وإنما هم ينصرونه لأنه يدافع عن دين الله ويبشر به ، ومن نصر دين الله ، نصره الله تعالى .
والآية الكريمة تشير إلى أن الكافرين كانوا هم الكثرة الكاثرة من بنى إسرائيل ، بدليل أنه - سبحانه - نسب الكفر إليهم فى قوله { فَلَمَّآ أَحَسَّ عيسى مِنْهُمُ الكفر } وذلك لا يكون إلا إذا كان الكافرون هم الكثرة الظاهرة ، والمؤمنون هم القلى غير الظاهرة حتى لكأن عيسى بقوله { مَنْ أنصاري إِلَى الله } يبحث عنهم من بين تلك الجموع الكثيرة من الكافرين . وهنا يحكى القرآن أن المؤمنين الصادقين - مع قلتهم - لم يتقاعسوا عن تلبية نداء عيسى - عليه السلام - فقال الله - تعالى - { قَالَ الحواريون نَحْنُ أَنْصَارُ الله آمَنَّا بالله واشهد بِأَنَّا مُسْلِمُونَ } والحواريون جمع حواري وهم أنصار عيسى الذين آمنوا به وصدقوه ، وأخلصوا له ولازموه وكانوا عونا له فى الدعوة إلى الحق .
يقال فلان حواري فلان أى خاصه من أصحابه ومنه قول النبى صلى الله عليه وسلم فى الزبير بن العوام : " لكل نبي حواري وحواريى الزبير " .
وأصل مادة " حور " هي شدة البياض . أو الخالص من البياض ، ولذلك قالوا في خالص لباب الدقيق الحوارى . وقالوا في النساء البيض الحواريات والحوريات .
وقد سمى - تعالى - أصفياء عيسى وأنصاره بالحواريين لأنهم أخلصوا لله - تعالى نياتهم ، وطهرت سرائرهم من النفاق والغش فصاروا فى نقائهم وصفائهم كالشيء الأبيض الخالص البياض .
والمعنى أن عيسى عليه السلام - لما أحس الكفر من بنى إسرائيل قال لهم من أنصارى إلى الله ؟ فأجابه الحواريون الذين آمنوا به وصدقوه وباعوا نفوسهم لله - تعالى - : نحن أنصار الله الذين تبحث عنهم ، ونحن الذين سنقف إلى جانبك لنصرة الحق ، فقد آمنا بالله إيمانا عميقا ، ونريدك أن تشهد على إيماننا هذا ، وأن تشهد لنا يا عيسى بأنا مسلمون حين تشهد الرسل لأقوامهم وعليهم .
فأنت ترى أن الحواريين لقوة إيمانهم وصفاء نفوسهم قد لبوا دعوة عيسى - عليه السلام - فى طلب النصرة دون أن يخشوا أحدا إلا الله .
وقولهم - كما حكى القرآن عنهم { نَحْنُ أَنْصَارُ الله } إشعار بأنهم ما وقفوا بجانب عيسى إلا نصرة لدين الله ودفاعا عن الحق الذى أنزله على رسوله عيسى .
وقولهم { آمَنَّا بالله } جملة فى معنى العلة للنصرة أى نحن أنصار الله يا عيسى لأننا آمنا بأنه هو الواحد الأحد الفرد الصمد الذى لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد ، وأنه هو الخالق لكل شىء والقادر على كل شيء .
وقولهم { واشهد بِأَنَّا مُسْلِمُونَ } معطوف على آمنا والشهادة هنا بمعنى العلم المنبعث من المعاينة والمشاهدة فهم يطلبون من عيسى - عليه السلام - أن يكون شاهدا لهم يوم القيامة بأنهم أسلموا وجوههم لله وأخلصوا له العبادة .
وأقوالهم هذه التى حكاها القرآن عنهم تدل على أنهم كانوا في الدرجة العليا من قوة الإيمان وصدق اليقين ، ونقاء السريرة .
{ فَلَمّآ أَحَسّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنصَارِيَ إِلَى اللّهِ قَالَ الْحَوَارِيّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللّهِ آمَنّا بِاللّهِ وَاشْهَدْ بِأَنّا مُسْلِمُونَ }
يعني بقوله جلّ ثناؤه : { فَلَمّا أحَسّ عِيسَى مِنْهُمُ الكُفْرَ } فلما وجد عيسى منهم الكفر . والإحساس : هو الوجود ، ومنه قول الله عزّ وجلّ : { هَلْ تُحِسّ مِنْهُمْ مِنْ أحَدٍ } . فأما الحسّ بغير ألف ، فهو الإفناء والقتل ، ومنه قوله : { إذْ تَحُسّونَهُمْ بِإذْنِهِ } والحسّ أيضا : العطف والرقة . ومنه قول الكميت :
هَلْ مَنْ بَكَى الدّارَ رَاجٍ أنْ تَحِسّ لَهُ *** أوْ يُبْكِيَ الدّارَ ماءُ العَبْرَة الخَضِلُ
يعني بقوله : أن تحسّ له : أن ترق له .
فتأويل الكلام : فلما وجد عيسى من بني إسرائيل الذين أرسله الله إليهم جحودا لنبوّته ، وتكذيبا لقوله ، وصدّا عما دعاهم إليه من أمر الله ، قال : { مَنْ أنْصَارِي إلى اللّهِ } يعني بذلك : قال عيسى : من أعواني على المكذّبين بحجة الله ، والمولين عن دينه ، والجاحدين نبوّة نبيه إلى الله عزّ وجلّ ، ويعني بقوله { إلى اللّه } : مع الله ، وإنما حسن أن يقال إلى الله ، بمعنى : مع الله ، لأن من شأن العرب إذا ضموا الشيء إلى غيره ، ثم أرادوا الخبر عنهما بضمّ أحدهما مع الآخر إذا ضمّ إليه جعلوا مكان مع إلى أحيانا ، وأحيانا تخبر عنهما بمع ، فتقول الذود إلى الذود إبل ، بمعنى : إذا ضممت الذود إلى الذود صارت إبلاً ، فأما إذا كان الشيء مع الشيء لم يقولوه بإلى ولم يجعلوا مكان مع إلى غير جائز أن يقال : قدم فلان وإليه مال ، بمعنى : ومعه مال .
وبمثل ما قلنا في تأويل قوله : { مَنْ أنْصَارِي إلى اللّهِ } قال جماعة من أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي قوله : { مَنْ أنْصَارِي إلى اللّهِ } يقول : مع الله .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج : { مَنْ أنْصَارِي إلى اللّهِ } يقول : مع الله .
وأما سبب استنصار عيسى عليه السلام من استنصر من الحواريين ، فإن بين أهل العلم فيه اختلافا ، فقال بعضهم : كان سبب ذلك ما :
حدثني به موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : لما بعث الله عيسى ، فأمره بالدعوة ، نفته بنو إسرائيل وأخرجوه ، فخرج هو وأمه يسيحون في الأرض ، فنزل في قرية على رجل ، فضافهم وأحسن إليهم ، وكان لتلك المدينة ملك جبار معتد ، فجاء ذلك الرجل يوما وقد وقع عليه همّ وحزن ، فدخل منزله ومريم عند امرأته ، فقالت مريم لها : ما شأن زوجك أراه حزينا ؟ قالت : لا تسألي ، قالت : أخبريني لعلّ الله يفرّج كربته ، قالت : فإن لنا ملكا يجعل على كل رجل منا يوما يطعمه هو وجنوده ، ويسقيهم من الخمر ، فإن لم يفعل عاقبه ، وإنه قد بلغت نوبته اليوم الذي يريد أن نصنع له فيه ، وليس لذلك عندنا سعة ، قالت : فقولي له : لا يهتمّ ، فإني آمر ابني فيدعو له ، فيكفى ذلك ، قالت مريم لعيسى في ذلك ، قال عيسى : يا أمه إني إن فعلت كان في ذلك شرّ ، قالت : فلا تبال ، فإنه قد أحسن إلينا وأكرمنا ، قال عيسى : فقولي له : إذا اقترب ذلك فاملأ قدورك وخوابيك ماء ثم أعلمني ، قال : فلما ملأهنّ أعلمه ، فدعا الله ، فتحوّل ما في القدور لحما ومرقا وخبزا ، وما في الخوابي خمرا لم ير الناس مثله قط وإياه طعاما¹ فلما جاء الملك أكل ، فلما شرب الخمر سأل من أين هذه الخمر ؟ قال له : هي من أرض كذا وكذا ، قال الملك : فإن خمري أوتي بها من تلك الأرض فليس هي مثل هذه ، قال : هي من أرض أخرى¹ فلما خلط على الملك اشتدّ عليه ، قال : فأنا أخبرك عندي غلام لا يسأل الله شيئا إلا أعطاه إياه ، وإنه دعا الله ، فجعل الماء خمرا ، قال الملك ، وكان له ابن يريد أن يستخلفه ، فمات قبل ذلك بأيام ، وكان أحبّ الخلق إليه ، فقال : إن رجلاً دعا الله حتى جعل الماء خمرا ، ليستجابنّ له حتى يحيي ابني ، فدعا عيسى فكلمه ، فسأله أن يدعو الله فيحيي ابنه ، فقال عيسى : لا تفعل ، فإنه إن عاش كان شرّا ، فقال الملك : لا أبالي ، أليس أراه ، فلا أبالي ما كان ، فقال عيسى عليه السلام : فإن أحييته تتركوني أنا وأمي نذهب أينما شئنا ، قال الملك : نعم ، فدعا الله ، فعاش الغلام¹ فلما رآه أهل مملكته قد عاش ، تنادوا بالسلاح ، وقالوا : أكلنا هذا حتى إذا دنا موته يريد أن يستخلف ابنه فيأكلنا كما أكلنا أبوه ، فاقتتلوا ، وذهب عيسى وأمه ، وصحبهما يهودي ، وكان مع اليهودي رغيفان ، ومع عيسى رغيف ، فقال له عيسى : شاركني ، فقال اليهودي : نعم ، فلما رأى أنه ليس مع عيسى إلا رغيف ندم¹ فلما نام جعل اليهودي يريد أن يأكل الرغيف ، فلما أكل لقمة قال له عيسى : ما تصنع ؟ فيقول : لا شيء ، فيطرحها ، حتى فرغ من الرغيف كله¹ فلما أصبحا قال له عيسى : هلم طعامك ، فجاء برغيف ، فقال له عيسى : أين الرغيف الآخر ؟ قال : ما كان معي إلا واحد ، فسكت عنه عيسى ، فانطلقوا ، فمرّوا براعي غنم ، فنادى عيسى ، يا صاحب الغنم أجزرنا شاة من غنمك ، قال : نعم ، أرسل صاحبك يأخذها ، فأرسل عيسى اليهودي ، فجاء بالشاة ، فذبحوها وشووها ، ثم قال لليهودي : كل ولا تكسرنّ عظما ! فأكلا ، فلما شبعوا قذف عيسى العظام في الجلد ، ثم ضربها بعصاه وقال : قومي بإذن الله ، فقامت الشاة تثغو ، فقال : يا صاحب الغنم خذ شاتك ، فقال له الراعي : من أنت ؟ قال : أنا عيسى ابن مريم ، قال : أنت الساحر ، وفرّ منه . قال عيسى لليهودي : بالذي أحيا هذه الشاة بعد ما أكلناها كم كان معك رغيفا ؟ فحلف ما كان معه إلا رغيف واحد ، فمرّوا بصاحب بقر ، فنادى عيسى ، فقال : يا صاحب البقر أجزرنا من بقرك هذه عجلاً ! قال : ابعث صاحبك يأخذه ، قال : انطلق يا يهودي فجىء به ، فانطلق فجاء به ، فذبحه وشواه ، وصاحب البقر ينظر ، فقال له عيسى : كل ولا تكسرنّ عظما . فلما فرغوا قذف العظام في الجلد ، ثم ضربه بعصاه ، وقال : قم بإذن الله ! فقام وله خوار ، قال : خذ عجلك ، قال : ومن أنت ؟ قال : أنا عيسى ، قال : أنت السحّار ، ثم فرّ منه . قال اليهودي : يا عيسى أحييته بعد ما أكلناه ، قال عيسى : فبالذي أحيا الشاة بعد ما أكلناها ، والعجل بعد ما أكلناه ، كم كان معك رغيفا ؟ فحلف بالله ما كان معه إلا رغيف واحد¹ فانطلقا حتى نزلا قرية ، فنزل اليهودي أعلاها ، وعيسى في أسفلها ، وأخذ اليهودي عصا مثل عصا عيسى ، وقال : أنا الآن أحيي الموتى ، وكان ملك تلك المدينة مريضا شديد المرض ، فانطلق اليهودي ينادي : من يبتغي طبيبا ؟ حتى أتى ملك تلك القرية ، فأخبر بوجعه ، فقال : أدخلوني عليه فأنا أبرئه ، وإن رأيتموه قد مات فأنا أحييه ، فقيل له : إن وجع الملك قد أعيا الأطباء قبلك ، ليس من طبيب يداويه ، ولا يُفيءُ دواؤه شيئا إلا أمر به فصلب ، قال : أدخلوني عليه فإني سأبرئه ، فأدخل عليه ، فأخذ برجل الملك فضربه بعصاه حتى مات ، فجعل يضربه بعصاه وهو ميت ، ويقول : قم بإذن الله ، فأخذ ليصلب ، فبلغ عيسى ، فأقبل إليه وقد رفع على الخشبة ، فقال : أرأيتم إن أحييت لكم صاحبكم أتتركون لي صاحبي ؟ قالوا : نعم ، فأحيا الله الملك لعيسى ، فقام وأنزل اليهودي ، فقال : يا عيسى أنت أعظم الناس عليّ منة ، والله لا أفارقك أبدا ، قال عيسى فيما حدثنا به محمد بن الحسين بن موسى ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل قال أسباط ، عن السدي لليهودي : أنشدك بالذي أحيا الشاة والعجل بعد ما أكلناهما ، وأحيا هذا بعد ما مات ، وأنزلك من الجذع بعد ما رفعت عليه لتصلب كم كان معك رغيفا ، قال : فحلف بهذا كله ما كان معه إلا رغيف واحد ، قال : لا بأس ، فانطلقا حتى مرّا على كنز قد حفرته السباع والدوابّ ، فقال اليهودي يا عيسى : لمن هذا المال ، قال عيسى : دعه ، فإن له أهلاً يهلكون عليه ، فجعلت نفس اليهودي تطلع إلى المال ، ويكره أن يعصي عيسى ، فانطلق مع عيسى ومرّ بالمال أربعة نفر¹ فلما رأوه ، اجتمعوا عليه ، فقال اثنان لصاحبيهما : انطلقا فابتاعا لنا طعاما وشرابا ودوابّ نحمل عليها هذا المال ، فانطلق الرجلان فابتاعا دوابّ وطعاما وشرابا ، وقال أحدهما لصاحبه : هل لك أن نجعل لصاحبينا في طعامهما سما ، فإذا أكلا ماتا ، فكان المال بيني وبينك ، فقال الاَخر نعم ، ففعلا ، وقال الآخران : إذا ما أتيانا بالطعام ، فليقم كل واحد إلى صاحبه فيقتله ، فيكون الطعام والدوابّ بيني وبينك ، فلما جاءا بطعامهما قاما فقتلاهما ، ثم قعدا على الطعام ، فأكلا منه فماتا ، وأُعلم ذلك عيسى ، فقال لليهودي : أخرجه حتى نقتسمه ، فأخرجه فقسمه عيسى بين ثلاثة ، فقال اليهودي : يا عيسى اتق الله ولا تظلمني ، فإنما هو أنا وأنت ، ما هذه الثلاثة ؟ قال له عيسى هذا لي ، وهذا لك ، وهذا الثلث لصاحب الرغيف ، قال اليهودي : فإن أخبرتك بصاحب الرغيف تعطيني هذا المال ؟ فقال عيسى : نعم ، قال أنا هو ، قال : عيسى : خذ حظي وحظك وحظّ صاحب الرغيف ، فهو حظك من الدنيا والآخرة¹ فلما حمله مشى به شيئا ، فخسف به ، وانطلق عيسى ابن مريم ، فمرّ بالحواريين وهم يصطادون السمك ، فقال : ما تصنعون ؟ فقالوا : نصطاد السمك ، فقال : أفلا تمشون حتى تصطاد الناس ؟ قالوا : ومن أنت ؟ قال : أنا عيسى ابن مريم ، فآمنوا به ، وانطلقوا معه ، فذلك قول الله عزّ وجلّ : { مَنْ أنْصَارِي إلى اللّهِ قَالَ الحَوَارِيّونَ نَحْنُ أنْصَارُ اللّهِ آمَنّا باللّهِ وَاشْهَدْ بِأنّا مُسْلِمُونَ } .
حدثنا محمد بن سنان ، قال : حدثنا أبو بكر الحنفي من عباد بن منصور ، عن الحسن في قوله : { فَلَمّا أحَسّ عِيسَى مِنْهُمُ الكُفْرَ قَالَ مَنْ أنْصَارِي إلى اللّهِ } . . . الاَية ، قال : استنصر فنصره الحواريون وظهر عليهم .
وقال آخرون : كان سبب استنصار عيسى من استنصر ، لأن من استنصر الحواريين عليه كانوا أرادوا قتله . ذكر من قال ذلك :
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد : { فَلَمّا أحَسّ عِيسَى مِنْهُمُ الكُفْرَ } قال : كفروا وأرادوا قتله ، فذلك حين استنصر قومه ، قال : { مَنْ أنْصَارِي إلى اللّهِ قالَ الحَوارِيّونَ نَحْنُ أنْصَارُ اللّهِ } .
والأنصار : جمع نصير ، كما الأشراف جمع شريف ، والأشهاد جمع شهيد . وأما الحواريون ، فإن أهل التأويل اختلفوا في السبب الذي من أجله سموا حواريين ، فقال بعضهم : سموا بذلك لبياض ثيابهم . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عبيد المحاربي ، قال : مما روى أبي ، قال : حدثنا قيس بن الربيع ، عن ميسرة ، عن المنهال بن عمرو ، عن سعيد بن جبير ، قال : إنما سموا الحواريين ببياض ثيابهم .
وقال آخرون : سموا بذلك لأنهم كانوا قصارين يبيضون الثياب . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن أبي أرطاة ، قال : الحواريون : الغسالون ، الذين يحوّرون الثياب يغسلونها .
وقال آخرون : هم خاصة الأنبياء وصفوتهم . ذكر من قال ذلك :
حدثنا يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا ابن علية ، عن روح بن القاسم ، أن قتادة ذكر رجلاً من أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فقال : كان من الحواريين ، فقيل له : من الحواريون ؟ قال : الذين تصلح لهم الخلافة .
حدثت عن المنجاب ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثنا بشر ، عن عمارة ، عن أبي روق ، عن الضحاك في قوله : { إِذْ قَالَ الحَوَارِيّونَ } قال : أصفياء الأنبياء .
وأشبه الأقوال التي ذكرنا في معنى الحواريين قول من قال : سموا بذلك لبياض ثيابهم ، ولأنهم كانوا غسالين ، وذلك أن الحور عند العرب : شدة البياض ، ولذلك سمي الحُوّارَى من الطعام حُوّارَى لشدة بياضه ، ومنه قيل للرجل الشديد البياض مقلة العينين أحور ، وللمرأة حوراء ، وقد يجوز أن يكون حواريو عيسى كانوا سموا بالذي ذكرنا من تبييضهم الثياب ، وأنهم كانوا قصارين ، فعرفوا بصحبة عيسى واختياره إياهم لنفسه أصحابا وأنصارا ، فجرى ذلك الاسم لهم واستعمل ، حتى صار كل خاصة للرجل من أصحابه وأنصاره حواريه¹ ولذلك قال النبيّ صلى الله عليه وسلم : «لِكُلّ نَبِيّ حَوَارِيّ ، وَحَوَارِيّ الزّبَيْرُ » يعني خاصته . وقد تسمي العرب النساء اللواتي مساكنهن القرى والأمصار حواريات ، وإنما سمين بذلك لغلبة البياض عليهن ، ومن ذلك قول أبي جَلْدَةَ اليشكُرِي :
فَقُلْ للْحَوَارِيّاتِ يَبْكِينَ غَيْرَنا *** وَلاَ تَبْكِنَا إِلاّ الكِلابُ النَوَابِحُ
ويعني بقوله : { قالَ الحَوَارِيّونَ } قال : هؤلاء الذين صفتهم ما ذكرنا من تبييضهم الثياب : آمنا بالله ، صدّقنا بالله ، واشهد أنت يا عيسى بأننا مسلمون . وهذا خبر من الله عزّ وجلّ أن الإسلام دينه الذي ابتعث به عيسى والأنبياء قبله ، لا النصرانية ولا اليهودية ، وتبرئة من الله لعيسى ممن انتحل النصرانية ودان بها ، كما برأ إبراهيم من سائر الأديان غير الإسلام ، وذلك احتجاج من الله تعالى ذكره لنبيه صلى الله عليه وسلم على وفد نجران . كما :
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن محمد بن إسحاق ، عن محمد بن جعفر بن الزبير { فَلَمّا أحَسّ عِيسَى مِنْهُمُ الكُفْرَ } والعدوان ، { قَالَ مَنْ أنْصَارِي إلى اللّهِ قالَ الحَوَارِيّونَ نَحْنُ أنْصَارُ اللّهِ آمَنّا بِاللّهِ } وهذا قولهم الذي أصابوا به الفضل من ربهم ، واشهد بأنا مسلمون ، لا كما يقول هؤلاء الذين يحاجونك فيه ، يعني وفد نصارى نجران .
قبل هذه الآية متروك به يتم اتساق الآيات ، تقديره ، فجاء عيسى عليه السلام كما بشر الله به فقال جميع ما ذكر لبني إسرائيل ، { فلما أحس } ومعنى أحس ، علم من جهة الحواس بما سمع من أقوالهم في تكذيبه ورأى من قرائن الأحوال وشدة العداوة والإعراض ، يقال أحسست بالشيء وحسيت به ، أصله ، حسست فأبدلت إحدى السينين ياء{[3193]} ، و{ الكفر } هو التكذيب به ، وروي أنه رأى منهم إرادة قتله ، فحينئذ طلب النصر ، والضمير في { منهم } لبني إسرائيل ، وقوله تعالى : { قال من أنصاري إلى الله } عبارة عن حال عيسى في طلبه من يقوم بالدين ويؤمن بالشرع ويحميه ، كما كان محمد عليه السلام يعرض نفسه على القبائل ويتعرض للأحياء في المواسم ، وهذه الأفعال كلها وما فيها من أقوال يعبر عنها ب{ *** قال من أنصاري إلى الله } ، ولا شك أن هذه الألفاظ كانت في جملة أقواله للناس ، والأنصار جمع نصير ، كشهيد وأشهاد وغير ذلك ، وقيل جمع ناصر ، كصاحب وأصحاب وقوله : { إلى الله } يحتمل معنيين ، أحدهما : من ينصرني في السبيل إلى الله ؟ فتكون
{ إلى } دالة على الغاية دلالة ظاهرة على بابها ، والمعنى الثاني ، أن يكون التقدير من يضيف نصرته إلى نصرة الله لي ؟ فيكون بمنزلة قوله { ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم }{[3194]} فإذا تأملتها وجدت فيها معنى الغاية لأنها تضمنت إضافة شيء إلى شيء ، وقد عبر عنها ابن جريج والسدي بأنها بمعنى مع ونعم{[3195]} ، إن - مع - تسد في هذه المعاني مسد «إلى » لكن ليس يباح من هذا أن يقال إن { إلى } بمعنى { مع } حتى غلط في ذلك بعض الفقهاء في تأويل قوله تعالى : { وأيديكم إلى المرافق }{[3196]} فقال { إلى } بمعنى مع وهذه عجمة بل { إلى } في هذه الآية ، غاية مجردة ، وينظر هل يدخل ما بعد إلى فيما قبلها من طريق آخر ، و{ الحواريون } ، قوم مر بهم عيسى عليه السلام ، فدعاهم إلى نصرة ، واتباع ملته ، فأجابوه وقاموا بذلك خير قيام ، وصبروا في ذات الله ، وروي أنه مر بهم وهم يصطادون السمك ، واختلف الناس لم قيل لهم { الحواريون } ؟ فقال سعيد بن جبير ، سموا بذلك لبياض ثيابهم ونقائها ، وقال أبو أرطأة{[3197]} ، سموا بذلك لأنهم كانوا قصارين{[3198]} يحورون الثياب ، أي يبيضونها ، وقال قتادة ، الحواريون أصفياء الأنبياء ، الذين تصلح لهم الخلافة ، وقال الضحاك نحوه .
قال الفقيه الإمام أبو أحمد : وهذا تقرير حال القوم ، وليس بتفسير اللفظة ، وعلى هذا الحد شبه النبي عليه السلام ، ابن عمته بهم في قوله : وحواريَّ الزبير{[3199]} ، والأقوال الأولى هي تفسير اللفظ ، إذ هي من الحور ، وهو البياض ، حورت الثوب بيضته ومنه الحواري ، قد تسمي العرب النساء الساكنات في الأمصار ، الحواريات ، لغلبة البياض عليهن ، ومنه قول أبي جلدة اليشكري{[3200]} :
فقل للحواريات يبكين غيرنا . . . ولا تبكنا إلا الكلاب النوابح
وحكى مكي : أن مريم دفعت عيسى عليه السلام في صغره في أعمال شتى ، وكان آخر ما دفعته إلى الحواريين وهم الذين يقصرون الثياب ثم يصبغونها فأراهم آيات وصبغ لهم ألواناً شتى من ماء واحد ، وقرأ جمهور الناس «الحواريّون » بتشديد الياء ، واحدهم - حواريّ - وليست بياء نسب وإنما هي كياء كرسي ، وقرأ إبراهيم النخعي وأبو بكر الثقفي : «الحواريون » مخففة الياء في جميع القرآن ، قال أبو الفتح{[3201]} : العرب تعاف ضمة الياء الخفيفة المكسور ما قبلها وتمتنع منها ، ومتى جاءت في نحو قولهم ، العاديون القاضيون والساعيون أعلت بأن تستثقل الضمة فتسكن الياء وتنقل حركتها ثم تحذف لسكونها وسكون الواو بعدها فيجيء العادون ونحوه ، فكان يجب على هذا أن يقال ، الحوارون ، لكن وجه القراءة على ضعفها أن الياء خففت استثقالاً لتضعيفها وحملت الضمة دلالة على أن التشديد مراد ، إذ التشديد محتمل للضمة ، وهذا كما ذهب أبو الحسن في تخفيف يستهزئون إلى أن أخلص الهمزة ياء البتة وحملها الضمة تذكرا لحال الهمزة المرادة فيها .
وقول الحواريين : { واشهد } يحتمل أن يكون خطاباً لعيسى عليه السلام ، أي اشهد لنا عند الله ، ويحتمل أن يكون خطاباً لله تعالى كما تقول : أنا أشهد الله على كذا ، إذا عزمت وبالغت في الالتزام ، ومنه قول النبي عليه السلام في حجة الوداع : { اللهم اشهد }{[3202]} ، قال الطبري : وفي هذه الآية توبيخ لنصارى نجران ، أي هذه مقالة الأسلاف المؤمنين بعيسى ، لا ما تقولونه أنتم ، يا من يدعي له الألوهية .
آذَنَ شرطُ لَما بجمل محذوفة ، تقديرها : فوُلِد عيسى ، وكَلم الناس في المهد بما أخبرت به الملائكة مريم ، وكلم الناس بالرسالة . وأراهم الآيات الموعودَ بها ، ودعاهم إلى التصديق به وطاعته ، فكفروا به ، فلما أحسّ منهم الكفر قال إلى آخره . أي أحسّ الكفر من جماعة من الذين خاطبهم بدعوته في قوله : { وأطيعون } [ آل عمران : 50 ] أي سمع تكذيبهم إياه وأُخبر بتمالئهم عليه . « ومنهم » متعلق بأحسّ . وضمير منهم عائد إلى معلوم من المقام يفسره وصف الكفر .
وطَلَبُ النصرِ لإظهار الدعوة لله ، موقفٌ من مواقف الرسل ، فقد أخبر الله عن نوح { فدعا رَبه أنّي مغلوب فانتصر } وقال موسى : { واجعل لي وزيراً من أهلي } [ طه : 29 ] وقد عرض النبي صلى الله عليه وسلم نفسه على قبائل العرب لينصروه حتى يُبلغ دعوة ربّه .
وقوله : { قال من أنصاري إلى الله } لعله قاله في ملإ بني إسرائيل إبْلاغاً للدعوة ، وقطعاً للمعذرة . والنصر يشمل إعلان الدين والدعوة إليه . ووصل وصْفَ { أنصاري } بإلى إما على تضمين صفة أنصار معنى الضم أي مَن ضامون نصرهم إياي إلى نصر الله إياي ، الذي وعدني به ؛ إذ لا بدّ لحصول النصر من تحصيل سببه كما هي سنّة الله : قال تعالى : { إن تنصروا الله ينصركم } [ محمد : 7 ] على نحو قوله تعالى : { ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم } [ النساء : 2 ] أي ضامِّينها فهو ظرف لغو ، وإما على جعله حالاً من ياء المتكلم والمعنَى في حال ذهابي إلى الله ، أي إلى تبليغ شريعته ، فيكون المجرور ظرفاً مستقراً . وعلى كلا الوجهين فالكون الذي اقتضاه المجرور هو كون من أحوال عيسى عليه السلام ولذلك لم يأت الحواريون بمثله في قولهم نحن أنصار الله .
والحواريون : لقب لأصحاب عيسى ، عليه السلام : الذين آمنوا به ولازموه ، وهو اسم معرَّب من النبطية ومفرده حواري قاله في الإتقان عن ابن حاتم عن الضحّاك ولكنه ادّعى أنّ معناه الغسال أى غسّال الثياب .
وفسّره علماء العربية بأنه من يكون من خاصّة من يضاف هو إليه ومن قرابته .
وغلب على أصحاب عيسى وفي الحديث قول النبي صلى الله عليه وسلم " لكل نبيِّء حَوَارِيٌّ وحَوارِيّ الزُّبَيْر بنُ العوام " .
وقد أكثر المفسرون وأهل اللغة في احتمالات اشتقاقه واختلاف معناه وكلّ ذلك إلصاق بالكلمات التي فيها حروف الحاء والواو والراء لا يصحّ منه شيء .
والحواريون اثنا عشر رجلا وهم : سَمْعَان بطرس ، وأخوه أندراوس ، ويوحنا بن زبْدي ، وأخوه يعقوب وهؤلاء كلّهم صيادو سَمك ومتَّى العشَّار وتوما وفيليبس ، وبرثو لماوس ، ويعقوب بن حلفي ، ولباوس ، وسمعان القانوى ، ويهوذا الأسخريوطي .
وكان جواب الحواريين دالاّ على أنهم علموا أنّ نصر عيسى ليس لذاته بل هو نصر لدين الله ، وليس في قولهم : { نحن أنصار الله } ما يفيد حصراً لأنّ الإضافة اللفظية لا تفيد تعريفاً ، فلم يحصل تعريف الجزأين ، ولكنّ الحواريين بادروا إلى هذا الانتداب .
وقد آمن مع الحواريّين أفراد متفرّقون من اليهود ، مثل الذين شفى المسيح مرضاهم ، وآمن به من النساء أمّه عليها السلام ، ومريم المجدلية ، وأم يوحنا ، وحماة سمعان ، ويوثا امرأة حوزي وكيل هيرودس ، وسوسة ، ونساء أخر ولكنّ النساء لا تطلب منهنّ نصره .