التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{ٱلَّذِينَ يُؤۡمِنُونَ بِٱلۡغَيۡبِ وَيُقِيمُونَ ٱلصَّلَوٰةَ وَمِمَّا رَزَقۡنَٰهُمۡ يُنفِقُونَ} (3)

ثم فصل القرآن بعد ذلك أوصاف المتقين ، ومدحهم بجملة من المناقب الحميدة ، فقال : { الذين يُؤْمِنُونَ بالغيب } أي : يصدقون بما غاب عن حواسهم ، كالصانع وصفاته ، وكاليوم الآخر وما فيه من بعث وحساب وثواب وعقاب .

والإيمان لغة التصديق والإذعان ، وهو إفعال من الأمن . وشرعاً التصديق بما علم بالضرورة أنه من الدين ، كالإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر . . . الخ ، وعدى { يُؤْمِنُونَ } بالباء لتضمينه معنى أقر واعترف .

والغيب : مصدر غاب يغيب ، وكثيراً ما يستعمل بمعنى الغائب ، وهو الظاهر من هذه الآية الكريمة . ومعناه : ما لا تدركه الحواس ، ولا يعلم ببداهة العقل . قال بعض العلماء : وخص بالذكر الإيمان بالغيب دون غيره من متعلقات الإيمان ، لأن الإيمان بالغيب هو الأصل في اعتقاد إمكان ما لا تخبر به الرسل عن وجود الله والعالم العلوى ، فإذا آمن به المرء وتصدى لسماع دعوة الرسول وللنظر فيما يبلغه عن الله - تعالى - فسهل عليه إدراك الأدلة ، وأما من يعتقد أنه ليس من وراء عالم الماديات عالم آخر ، فقد راض نفسه على الإعراض عن الدعوة ، كما هو حال الماديين الذين يقولون : " ما يهلكنا إلا الدهر :

والإيمان بالغيب : يستلزم التصديق به على وجه الجزم ، وهو لا يحصل إلا عن دليل .

ولا شك أن قيام البراهين على صدق من أخبر بالغيب يجعل المؤمن بهذا الغيب مصدقاً عن دليل ، فنحن لا نحتاج في الإيمان بالملائكة والكتب السماوية السابقة ، والرسل الذين أرسلوا من قبل ، والبعث وما فيه من ثواب وعقاب ، لا نحتاج في الإيمان بكل ذلك إلى دليل زائد على الأدلة التي قامت على صدق نبينا محمد صلى الله عليه وسلم .

والإيمان بالغيب دليل على اتساع العقول ، وسلامة القلوب ، إذ أن معنى الإيمان بالغيب هو أن عقولهم قد سلم إدراكها ، وتقشعت عنها غشاواتها ، وامتد نظرها في الكائنات فأدركت أن لها مبدعاً حكيماً وخالقاً قديراً ، جعلها تسير بنظام محكم ، فهذه كواكب تظهر وتغيب ، وسماء مرفوعة بغير عمد ، وأرض راسية لا تميد ولا تضطرب . . . { صُنْعَ الله الذي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ } فكان من ذلك لتلك العقول براهين قاطعة على وجود خالق مدبر ، وحكيم قدير ، ومبدع لا تأخذه سنة ولا نوم .

والإيمان بالغيب الذي أخبر به الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم يقوى ويعظم كلما قوى الإيمان في القلوب ، واستولى الصفاء على النفوس ، وقد مدح النبي صلى الله عليه وسلم المؤمنين بالغيب في أحاديث متعددة ، منها ما جاء عن خالد بن دريك ، عن ابن محيريز قال : قلت لابن جمعة : حدثنا حديثاً سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : نعم أحدثك حديثاً . تغدينا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعنا أبو عبيدة بن الجراح فقال : " يا رسول الله ، هل أحد خير منا ؟ أسلمنا معك وجاهدنا معك .

قال : نعم ، قوم من بعدكم يؤمنون بي ولم يروني " . قال ابن كثير : فقد مدحهم على ذلك وذكر أنهم أعظم أجراً من هذه الحيثية لا مطلقاً .

وأخرج ابن أبي حاتم والطبراني وابن منده وأبو نعيم عن بديلة بنت أسلم قالت : صليت الظهر أو العصر في مسجد بني حارثة ، واستقبلنا مسجد إيلياء فصلينا سجدتين ، ثم جاء من يخبرنا بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد استقبل البيت ، فتحول الرجال مكان النساء ، والنساء مكان الرجال ، فصلينا السجدتين الباقيتين ونحن مستقبلون البيت الحرام ، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال : " أولئك قوم آمنوا بالغيب " تلك أول صفة نتيجة التقوى وهي الإيمان بالغيب ، أما الصفة الثانية التي مدح الله بها المتقين فهي قوله - تعالى - : { وَيُقِيمُونَ الصلاة } . الصلاة في اللغة الدعاء ، من صلى يصلى إذا دعا ، واستعملها الشارع في العبادة ذات الركوع والسجود لاشتمالها على الدعاء ، والإقامة في الأصل : الدوام والثبات ، من قولك : قام الحق أي : ظهر وثبت . ومعنى { وَيُقِيمُونَ الصلاة } : يؤدونها في أوقاتها المقدرة لها ، مع تعديل أركانها ، وإيقاعها مستوفية لواجباتها وسننها وآدابها وخشوعها ، فإن الصلاة المقامة بحق هي تلك التي يصحبها الإخلاص ، واستحضار جلال الله في الركوع والسجود ، وهي التي تترتب عليها الآثار العظيمة من تزكية النفس ، وعفافها ، وتركها لكل الشرور والآثام ، كما قال - تعالى - { إِنَّ الصلاة تنهى عَنِ الفحشآء والمنكر } وقدم الإيمان بالغيب على إقامة الصلاة تعظيماً لعمل القلب ، واعتداداً بشرطية الإيمان في صحة أعمال الجوارح .

وقدم إقامة الصلاة على الإنفاق ، لأنها تنهى عن الفحشاء والمنكر ، ولأنها تتكرر في اليوم خمس مرات ، ولأنها صلة بين العبد وربه ، والإنفاق صلته بالناس ، ولأن مشروعيتها كانت سابقة على مشروعية الزكاة . أما الصفة الثالثة التي مدح الله بها المتقين فهي قوله - تعالى - : { وَممَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ } . أي : ومما أعطيناهم وملكناهم يتصدقون في وجوه الخير ، ويمدون أيديهم بالإحسان إلى الفقير والمسكين .

والرزق عند جمهور العلماء ما صلح للانتفاع به حلالا كان أو حراماً ، خلافاً للمعتزلة الذين يرون أن الحرام ليس برزق . والإنفاق : إخراج المال وإنفاده وصرفه ، يقال : نفق - كفرح ونصر - نفد وفني أو قلّ . وأنفق ماله أنفده ، وأصل المادة يدل على الخروج والذهاب ، ومنه : نافق فلان ، والنافقاء ، والنفق . وقال " ينفقون " ولم يقل أنفقوا ، ليشعر بأن الإنفاق منهم يتجدد بين وقت وآخر . ولم يحدد وجوه الإنفاق بل تركها مطلقة لتشمل الفرض والواجب وغيرهما من وجوه الإحسان .

وإيراد " من " في قوله تعالى - { وَممَّا رَزَقْنَاهُمْ } للإشارة إلى أن مواظبتهم على إنفاق أموالهم بين الحين والحين ، كفيل بتوصيلهم إلى زمرة المهتدين المفلحين ، وللإشعار بأنهم ينفقون بعض أموالهم مبتعدين عن الإسراف والتبذير حتى لا يتركوا ورثتهم عالة يتكففون وجوه الناس .

هذا ، وقد عنى القرآن الكريم عناية فائقة بالحض على الإنفاق في وجوه الخير ، ومدح الذين يفعلون ذلك مدحاً عظيماً في عشرات الآيات ، وذلك لأن الأمة التي يكثر فيها المنفقون لأموالهم في وجوه الخير ، لا بد أن تعز كلمتها ، وتسلم من كوارث شتى ، كالجهل ، والفقر ، والمرض .

فببذل المال تسد حاجات البؤساء ، وتشاد معاهد التعليم ، وتقام وسائل حفظ الصحة ، وتنمو المحبة والمودة بين الأغنياء والفقراء . قال تعالى : { مَّثَلُ الذين يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ الله كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّئَةُ حَبَّةٍ والله يُضَاعِفُ لِمَن يَشَآءُ والله وَاسِعٌ عَلِيمٌ }

 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{ٱلَّذِينَ يُؤۡمِنُونَ بِٱلۡغَيۡبِ وَيُقِيمُونَ ٱلصَّلَوٰةَ وَمِمَّا رَزَقۡنَٰهُمۡ يُنفِقُونَ} (3)

القول في تأويل قوله تعالى :

{ الّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصّلاةَ وَممّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ }

حدثنا محمد بن حميد الرازي ، قال : حدثنا سلمة بن الفضل ، عن محمد بن إسحاق ، عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت ، عن عكرمة ، أو عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : ( الّذينَ يُؤْمنُونَ ) قال : يصدقون .

حدثني يحيى بن عثمان بن صالح السهمي ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : حدثني معاوية بن صالح عن عليّ بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : يُؤْمِنُونَ يصدّقون .

حدثني المثنى بن إبراهيم ، قال : حدثنا إسحاق بن الحجاج ، قال : حدثنا عبد الله بن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع : يُؤْمِنُونَ يخشون .

حدثنا محمد بن عبد الأعلى الصنعاني ، قال : حدثنا محمد بن ثور عن معمر ، قال : قال الزهري : الإيمان : العمل .

وحدثت عن عمار بن الحسن ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر عن أبيه عن العلاء ابن المسيب بن رافع ، عن أبي إسحاق ، عن أبي الأحوص عن عبد الله ، قال : الإيمان : التصديق .

ومعنى الإيمان عند العرب : التصديق ، فيُدْعَى المصدّق بالشيء قولاً مؤمنا به ، ويُدْعَى المصدّق قوله بفعله مؤمنا . ومن ذلك قول الله جل ثناؤه : ( وَما أنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا ولَوْ كُنّا صَادِقِينَ ) يعني : وما أنت بمصدق لنا في قولنا . وقد تدخل الخشية لله في معنى الإيمان الذي هو تصديق القول بالعمل . والإيمان كلمة جامعة للإقرار بالله وكتبه ورسله ، وتصديق الإقرار بالفعل . وإذا كان ذلك كذلك ، فالذي هو أولى بتأويل الآية وأشبه بصفة القوم : أن يكونوا موصوفين بالتصديق بالغيب ، قولاً ، واعتقادا ، وعملاً ، إذ كان جل ثناؤه لم يحصرهم من معنى الإيمان على معنى دون معنى ، بل أجمل وصفهم به من غير خصوص شيء من معانيه أخرجه من صفتهم بخبر ولا عقل .

القول في تأويل قوله تعالى : بالغَيْبِ .

حدثنا محمد بن حميد الرازي ، قال : حدثنا سلمة بن الفضل ، عن محمد بن إسحاق ، عن محمد بن أبي محمد ، مولى زيد بن ثابت ، عن عكرمة ، أو عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : بالغيب قال : بما جاء منه ، يعني من الله جل ثناؤه .

حدثني موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو بن حماد ، قال : حدثنا أسباط عن السدي في خبر ذكره عن أبي مالك ، وعن أبي صالح ، عن ابن عباس ، وعن مرة الهمداني ، عن ابن مسعود ، وعن ناس من أصحاب النبي : بالغيب أما الغيب : فما غاب عن العباد من أمر الجنة وأمر النار ، وما ذكر الله تبارك وتعالى في القرآن . لم يكن تصديقهم بذلك يعني المؤمنين من العرب من قِبَلِ أصل كتاب أو علم كان عندهم .

حدثنا أحمد بن إسحاق الأهوازي ، قال : حدثنا أبو أحمد الزبيري ، قال : حدثنا سفيان عن عاصم ، عن زر ، قال : الغيب : القرآن .

حدثنا بشر بن معاذ العقدي ، قال : حدثنا يزيد بن زريع ، عن سعيد بن أبي عروة ، عن قتادة في قوله : ( الّذِينَ يُؤْمِنُونَ بالغَيْب ) قال : آمنوا بالجنة والنار والبعث بعد الموت وبيوم القيامة ، وكل هذا غيب .

حدثت عن عمار بن الحسن ، قال : حدثنا عبد الله بن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع بن أنس : ( الّذِينَ يُؤْمِنُونَ بالغَيْبِ ) : آمنوا بالله وملائكته ورسله واليوم الاَخر وجنته وناره ولقائه ، وآمنوا بالحياة بعد الموت ، فهذا كله غيب . وأصل الغيب : كل ما غاب عنك من شيء ، وهو من قولك : غاب فلان يغيب غيبا .

وقد اختلف أهل التأويل في أعيان القوم الذين أنزل الله جل ثناؤه هاتين الاَيتين من أول هذه السورة فيهم ، وفي نعتهم وصفتهم التي وصفهم بها من إيمانهم بالغيب ، وسائر المعاني التي حوتها الاَيتان من صفاتهم غيره . فقال بعضهم : هم مؤمنو العرب خاصة ، دون غيرهم من مؤمني أهل الكتاب . واستدلوا على صحة قولهم ذلك وحقيقة تأويلهم بالآية التي تتلو هاتين الاَيتين ، وهو قول الله عز وجل : { وَالّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ } . قالوا : فلم يكن للعرب كتاب قبل الكتاب الذي أنزله الله عز وجل على محمد صلى الله عليه وسلم تدين بتصديقه والإقرار والعمل به ، وإنما كان الكتاب لأهل الكتابين غيرها . قالوا : فلما قص الله عز وجل نبأ الذين يؤمنون بما أنزل إلى محمد وما أنزل من قبله بعد اقتصاصه نبأ المؤمنين بالغيب ، علمنا أن كل صنف منهم غير الصنف الاَخر ، وأن المؤْمنين بالغيب نوع غير النوع المصدّق بالكتابين اللذين أحدهما منزل على محمد صلى الله عليه وسلم ، والاَخر منهما على من قبله من رسل الله تعالى ذكره . قالوا : وإذا كان ذلك كذلك صح ما قلنا من أن تأويل قول الله تعالى : { الّذِينَ يُؤْمِنُونَ بالغَيْبِ } إنما هم الذين يؤمنون بما غاب عنهم من الجنة والنار والثواب والعقاب والبعث ، والتصديق بالله وملائكته وكتبه ورسله وجميع ما كانت العرب لا تدين به في جاهليتها ، بما أوجب الله جل ثناؤه على عباده الدينونة به دون غيرهم . ذكر من قال ذلك :

حدثني موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو بن حماد ، قال : حدثنا أسباط عن السدي في خبر ذكره عن أبي مالك ، وعن أبي صالح ، عن ابن عباس وعن مرة الهمداني ، عن ابن مسعود ، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم : أما الذين يؤمنون بالغيب فهم المؤمنون من العرب ، { وَيقِيمُونَ الصلاةَ وَمِمّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ } أما الغيب : فما غاب عن العباد من أمر الجنة والنار ، وما ذكر الله في القرآن . لم يكن تصديقهم بذلك من قِبَلِ أصلِ كتابٍ أو علم كان عندهم . { وَالّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالاَخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ } هؤلاء المؤمنون من أهل الكتاب .

وقال بعضهم : بل نزلت هذه الاَيات الأربع في مؤمني أهل الكتاب خاصة ، لإيمانهم بالقرآن عند إخبار الله جل ثناؤه إياهم فيه عن الغيوب التي كانوا يخفونها بينهم ويسرّونها ، فعلموا عند إظهار الله جل ثناؤه نبيه صلى الله عليه وسلم على ذلك منهم في تنزيله أنه من عند الله جل وعز ، فآمنوا بالنبي صلى الله عليه وسلم وصدقوا بالقرآن وما فيه من الإخبار عن الغيوب التي لا علم لهم بها لما استقرّ عندهم بالحجة التي احتجّ الله تبارك وتعالى بها عليهم في كتابه ، من الإخبار فيه عما كانوا يكتمونه من ضمائرهم أن جميع ذلك من عند الله .

وقال بعضهم : بل الاَيات الأربع من أول هذه السورة أنزلت على محمد صلى الله عليه وسلم بوصف جميع المؤمنين الذين ذلك صفتهم من العرب والعجم وأهل الكتابين و سواهم ، وإنما هذه صفة صنف من الناس ، والمؤمن بما أنزل الله على محمد صلى الله عليه وسلم وما أنزل من قبله هو المؤمن بالغيب . قالوا : وإنما وصفهم الله بالإيمان بما أنزل إلى محمد وبما أنزل إلى من قبله بعد تَقَضّي وصفه إياهم بالإيمان بالغيب لأن وصفه إياهم بما وصفهم به من الإيمان بالغيب كان معنيا به أنهم يؤمنون بالجنة والنار والبعث ، وسائر الأمور التي كلفهم الله جل ثناؤه بالإيمان بها مما لم يروه ولم يأت بَعْدُ مما هو آت ، دون الإخبار عنهم أنهم يؤمنون بما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم ومن قبله من الرسل والكتب . قالوا : فلما كان معنى قوله : { وَالّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ } غير موجود في قوله : ( الّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالغَيْبِ ) كانت الحاجة من العباد إلى معرفة صفتهم بذلك ليعرفوهم نظير حاجتهم إلى معرفتهم بالصفة التي وصفوا بها من إيمانهم بالغيب ليعلموا ما يرضي الله من أفعال عباده ، ويحبه من صفاتهم ، فيكونوا به إن وفقهم له ربهم . مؤمنين . ذكر من قال ذلك :

حدثني محمد بن عمرو بن العباس الباهلي ، قال : حدثنا أبو عاصم الضحاك ابن مخلد ، قال : حدثنا عيسى بن ميمون المكي ، قال : حدثنا عبد الله بن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قال : أربع آيات من سورة البقرة في نعت المؤمنين وآيتان في نعت الكافرين وثلاث عشرة في المنافقين .

حدثنا سفيان بن وكيع ، قال : حدثنا أبي عن سفيان ، عن رجل ، عن مجاهد بمثله .

وحدثني المثنى بن إبراهيم ، قال حدثنا موسى بن مسعود ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد مثله .

وحدثت عن عمار بن الحسن ، قال : حدثنا عبد الله بن أبي جعفر ، عن أبيه عن الربيع بن أنس ، قال : أربع آيات من فاتحة هذه السورة يعني سورة البقرة في الذين آمنوا ، وآيتان في قادة الأحزاب .

وأولى القولين عندي بالصواب وأشبههما بتأويل الكتاب ، القول الأول ، وهو : أن الذين وصفهم الله تعالى ذكره بالإيمان بالغيب ، وما وصفهم به جل ثناؤه في الاَيتين الأوّلَتين غير الذين وصفهم بالإيمان بالذي أنزل على محمد والذي أنزل إلى من قبله من الرسل لما ذكرت من العلل قبل لمن قال ذلك ، ومما يدل أيضا مع ذلك على صحة هذا القول إنه جَنّسَ بعد وصف المؤمنين بالصفتين اللتين وصف ، وبعد تصنيفه كل صنف منهما على ما صنف الكفار جِنْسَين ، فجعل أحدهما مطبوعا على قلبه مختوما عليه مأيوسا من إيمانه ، والاَخر منافقا يرائي بإظهار الإيمان في الظاهر ، ويستسرّ النفاق في الباطن ، فصير الكفار جنسين كما صير المؤمنين في أول السورة جنسين . ثم عرّف عباده نعت كل صنف منهم وصفتهم وما أعدّ لكل فريق منهم من ثواب أو عقاب ، وذمّ أهل الذمّ منهم ، وشكر سعي أهل الطاعة منهم . القول في تأويل قوله تعالى : { ويُقِيمُونَ } .

إقامتها : أداؤها بحدودها وفروضها والواجب فيها على ما فُرضت عليه ، كما يقال : أقام القوم سوقهم ، إذا لم يعطلوها من البيع والشراء فيها ، وكما قال الشاعر :

أقَمْنا لأِهْلِ العِرَاقَيْنِ سُوقَ الضِْ *** رابِ فخَاموا ووَلّوْا جَمِيعَا

وكما حدثنا محمد بن حميد ، قال : حدثنا سلمة بن الفضل ، عن محمد بن إسحاق ، عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت ، عن عكرمة ، أو عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : ( وَيُقِيمُونَ الصّلاةَ ) قال : الذين يقيمون الصلاة بفروضها .

حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا عثمان بن سعيد عن بشر بن عمار ، عن أبي روق ، عن الضحاك ، عن ابن عباس : ( وَيُقِيمُونَ الصّلاةَ ) قال : إقامة الصلاة : تمام الركوع والسجود والتلاوة والخشوع والإقبال عليها فيها .

القول في تأويل قوله تعالى : { الصّلاةَ } .

حدثني يحيى بن أبي طالب ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا جويبر عن الضحاك في قوله : ( الّذِينَ يُقِيمُونَ الصّلاةَ ) يعني الصلاة المفروضة .

وأما الصلاة في كلام العرب فإنها الدعاء كما قال الأعشى :

لَهَا حَارِسٌ لا يَبْرَحُ الدّهْرَ بَيْتَهَا *** وَإنْ ذُبِحَتْ صَلّى عَلَيْهَا وَزَمْزَما

يعني بذلك : دعا لها ، وكقول الاَخر أيضا :

وَقابَلَها الرّيحَ في دَنّها *** وَصَلّى على دَنّها وَارْتَسَمَ

وأرى أن الصلاة المفروضة سميت صلاة لأن المصلي متعرّض لاستنجاح طلبته من ثواب الله بعمله مع ما يسأل ربه فيها من حاجاته تعرض الداعي بدعائه ربه استنجاح حاجاته وسؤله .

القول في تأويل قوله تعالى : { ومِمّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ } .

اختلف المفسرون في تأويل ذلك ، فقال بعضهم بما :

حدثنا به ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن محمد بن إسحاق ، عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت ، عن عكرمة ، أو عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : ( ومِمّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ ) قال : يؤتون الزكاة احتسابا بها .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، عن معاوية ، عن عليّ بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : ( وممّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقوُنَ ) قال : زكاة أموالهم .

حدثني يحيى بن أبي طالب ، قال : حدثنا يزيد ، قال : أخبرنا جويبر عن الضحاك : ( وَمِمّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ ) قال : كانت النفقات قربات يتقرّبون بها إلى الله على قدر ميسورهم وجهدهم ، حتى نزلت فرائض الصدقات سبع آيات في سورة براءة ، مما يذكر فيهن الصدقات ، هن المثبتات الناسخات .

وقال بعضهم بما :

حدثني موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو بن حماد ، قال : حدثنا أسباط عن السدي في خبر ذكره عن أبي مالك ، وعن أبي صالح ، عن ابن عباس ، وعن مرة الهمداني ، عن ابن مسعود ، وعن ناس من أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم : ( وممّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ ) هي نفقة الرجل على أهله ، وهذا قبل أن تنزل الزكاة .

وأولى التأويلات بالآية وأحقها بصفة القوم أن يكونوا كانوا لجميع اللازم لهم في أموالهم ، مؤدين زكاة كان ذلك أو نفقة من لزمته نفقته من أهل وعيال وغيرهم ، ممن تجب عليهم نفقته بالقرابة والملك وغير ذلك لأن الله جل ثناؤه عمّ وصفهم ، إذ وصفهم بالإنفاق مما رزقهم ، فمدحهم بذلك من صفتهم ، فكان معلوما أنه إذ لم يخصص مدحهم ووصفهم بنوع من النفقات المحمود عليها صاحبها دون نوع بخبر ولا غيره أنهم موصوفون بجميع معاني النفقات المحمود عليها صاحبها من طيب ما رزقهم ربهم من أموالهم وأملاكهم ، وذلك الحلال منه الذي لم يشبه حرام .

 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{ٱلَّذِينَ يُؤۡمِنُونَ بِٱلۡغَيۡبِ وَيُقِيمُونَ ٱلصَّلَوٰةَ وَمِمَّا رَزَقۡنَٰهُمۡ يُنفِقُونَ} (3)

{ الذين يؤمنون بالغيب } إما موصول بالمتقين على أنه صفة مجرورة مقيدة له إن فسر التقوى بترك مالا ينبغي مترتبة عليه ترتيب التحلية على التخلية ، والتصوير على التصقيل أو موضحة إن فسر بما يعم فعل الحسنات وترك السيئات لاشتماله على ما هو أصل الأعمال وأساس الحسنات من الإيمان والصلاة والصدقة ، فإنها أمهات الأعمال النفسانية والعبادات البدنية والمالية المستتبعة لسائر الطاعات والتجنب عن المعاصي غالبا ، ألا ترى إلى قوله تعالى : { إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر } . وقوله عليه الصلاة والسلام : " الصلاة عماد الدين ، والزكاة قنطرة الإسلام " . أو مسوقة للمدح بما تضمنه المتقين . وتخصيص الإيمان بالغيب وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة بالذكر إظهار لفضلها على سائر ما يدخل تحت اسم التقوى . أو على أنه مدح منصوب ، أو مرفوع بتقدير أعني أو هم الذين . وإما مفصول عنه مرفوع بالابتداء وخبره أولئك على هدى ، فيكون الوقف على المتقين تاما . والإيمان في اللغة عبارة عن التصديق مأخوذ من الأمن ، كأن المصدق أمن من المصدق التكذيب والمخالفة ، وتعديته بالباء لتضمنه معنى الاعتراف وقد يطلق بمعنى الوثوق من حيث إن الواثق بالشيء صار ذا أمن منه ، ومنه ما أمنت أن أجد صحابة وكلا الوجهين حسن في يؤمنون بالغيب .

وأما في الشرع : فالتصديق بما علم بالضرورة أنه من دين محمد صلى الله عليه وسلم كالتوحيد والنبوة والبعث والجزاء ، ومجموع ثلاثة أمور : اعتقاد الحق ، والإقرار به ، والعمل بمقتضاه عند جمهور المحدثين والمعتزلة والخوارج . فمن أخل بالاعتقاد وحده فهو منافق ، ومن أخل بالإقرار فكافر ، ومن أخل بالعمل ففاسق وفاقا ، وكافر عند الخوارج ، وخارج عن الإيمان غير داخل في الكفر عند المعتزلة ، والذي يدل على أنه التصديق وحده أنه سبحانه وتعالى أضاف الإيمان إلى القلب فقال : { أولئك كتب في قلوبهم الإيمان } ، { وقلبه مطمئن بالإيمان } ، { ولم تؤمن قلوبهم } ، { ولما يدخل الإيمان في قلوبكم } ، وعطف عليه العمل الصالح في مواضع لا تحصى وقرنه بالمعاصي فقال تعالى : { وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا } ، { يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى } ، { الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم } مع ما فيه من قلة التغيير فإنه أقرب إلى الأصل وهو متعين الإرادة في الآية ، إذ المعدى بالباء هو التصديق وفاقا . ثم اختلف في أن مجرد التصديق بالقلب هل هو كاف لأنه المقصود أم لا بد من انضمام الإقرار به للمتمكن منه ، ولعل الحق هو الثاني لأنه تعالى ذم المعاند أكثر من ذم الجاهل المقصر ، وللمانع أن يجعل الذم للإنكار لا لعدم الإقرار للمتمكن منه . والغيب مصدر ، وصف به للمبالغة كالشهادة في قوله تعالى : { عالم الغيب والشهادة } والعرب تسمي المطمئن من الأرض والخمصة التي تلي الكلية غيبا ، أو فيعل خفف كقيل ، والمراد به الخفي الذي لا يدركه الحس ولا تقتضيه بديهة العقل ، وهو قسمان : قسم لا دليل عليه وهو المعني بقوله تعالى : { وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو } وقسم نصب موقع عليه دليل : كالصانع وصفاته واليوم الآخر وأحواله وهو المراد به في هذه الآية ، هذا إذا جعلته صلة للإيمان وأوقعته موقع المفعول به . وإن جعلته حالا على تقدير ملتبسين بالغيب كان بمعنى الغيبة والخفاء . والمعنى أنهم يؤمنون غائبين عنكم لا كالمنافقين الذين إذا { لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا ، وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم إنما نحن مستهزئون } . أو عن المؤمن به لما روي أن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه قال : والذي لا إله غيره ما آمن أحد أفضل من إيمان بغيب ، ثم قرأ هذه الآية . وقيل المراد بالغيب : القلب لأنه مستور ، والمعنى يؤمنون بقلوبهم لا كمن يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم . فالباء عل الأول للتعدية وعلى الثاني للمصاحبة . وعلى الثالث للآلة . { ويقيمون الصلاة } أي يعدلون أركانها ويحفظونها من أن يقع زيغ في أفعالها ، من أقام العود إذا قومه أو يواظبون عليها ، من قامت السوق إذا نفقت وأقمتها إذا جعلتها نافقة قال :

أقامت غزالة سوق الضراب *** لأهل العراقين حولا قميطا

فإنه إذا حوفظ عليها كانت كالنافق الذي يرغب فيه ، وإذا ضيعت كانت كالكاسد المرغوب عنه ، أو يتشمرون لأدائها من غير فتور ولا توان ، من قولهم قام بالأمر وأقامه إذا جد فيه وتجلد ، وضده قعد عن الأمر ، وتقاعد . أو يؤدونها .

عبر عن الأداء بالإقامة لاشتمالها على القيام ، كما عبر عنها بالقنوت والركوع والسجود والتسبيح . والأول أظهر لأنه أشهر وإلى الحقيقة أقرب وأفيد ، لتضمنه التنبيه على أن الحقيق بالمدح من راعى حدودها الظاهرة من الفرائض والسنن ، وحقوقها الباطنة من الخشوع والإقبال بقلبه على الله تعالى ، لا { المصلون الذين هم عن صلاتهم ساهون } ، ولذلك ذكر في سياق المدح والمقيمين الصلاة ، وفي معرض الذم فويل للمصلين ، والصلاة فعلة من صلى إذا دعا كالزكاة من زكى ، كتبتا بالواو على لفظ المفخم ، وإنما سمي الفعل المخصوص بها لاشتماله على الدعاء .

وقيل : أصل صلى حرك الصلوين لأن المصلي يفعله في ركوعه وسجوده ، واشتهار هذا اللفظ في المعنى الثاني مع عدم اشتهاره في الأول لا يقدح في نقله عنه ، وإنما سمي الداعي مصليا تشبيها له في تخشعه بالراكع الساجد . { ومما رزقناهم ينفقون } الرزق في اللغة : الحظ قال تعالى : { وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون } . والعرف خصصه بتخصيص الشيء بالحيوان للانتفاع به وتمكينه منه .

وأما المعتزلة لما استحالوا على الله تعالى أن يمكن من الحرام لأنه منع من الانتفاع به وأمر بالزجر عنه ، قالوا الحرام ليس برزق ، ألا ترى أنه تعالى أسند الرزق ههنا إلى نفسه إيذانا بأنهم ينفقون الحلال المطلق . فإن إنفاق الحرام لا يوجب المدح ، وذم المشركين على تحريم بعض ما رزقهم الله تعالى بقوله : { قل أرأيتم ما أنزل الله لكم من رزق فجعلتم منه حراما وحلالا } وأصحابنا جعلوا الإسناد للتعظيم والتحريض على الإنفاق ، والذم لتحريم ما لم يحرم . واختصاص ما رزقناهم بالحلال للقرينة . وتمسكوا لشمول الرزق له بقوله صلى الله عليه وسلم في حديث عمرو بن قرة : " لقد رزقك الله طيبا فاخترت ما حرم الله عليك من رزقه مكان ما أحل الله لك من حلاله " . وبأنه لو لم يكن رزقا لم يكن المتغذي به طول عمره مرزوقا ، وليس كذلك لقوله تعالى : { وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها } .

وأنفق الشيء وأنفده أخوان ، ولو استقريت الألفاظ وجدت كل ما فاؤه نون وعينه فاء دالا على معنى الذهاب والخروج ، والظاهر من هذا الإنفاق صرف المال في سبيل الخير من الفرض والنفل . ومن فسره بالزكاة ذكر أفضل أنواعه والأصل فيه ، أو خصصه بها لاقترانه بما هو شقيقها . وتقديم المفعول للاهتمام به وللمحافظة على رؤوس الآي ، وإدخال من التبعيضية عليه لمنع المكلف عن الإسراف المنهي عنه . ويحتمل أن يراد به الإنفاق من جميع المعاون التي أتاهم الله من النعم الظاهرة والباطنة ، ويؤيده قوله عليه الصلاة والسلام : " إن علما لا يقال به ، ككنز لا ينفق منه " . وإليه ذهب من قال ومما خصصناهم به من أنوار المعرفة يفيضون .