التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{ذَٰلِكَ ٱلۡكِتَٰبُ لَا رَيۡبَۛ فِيهِۛ هُدٗى لِّلۡمُتَّقِينَ} (2)

ثم قال - تعالى - : { ذَلِكَ الكتاب لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ } .

{ ذَلِكَ } اسم إشارة واللام للبعد حقيقة في الحس ، مجازاً في الرتبة ، والكاف للخطاب ، والمشار إليه - على الراجح - الكتاب الموعود به صلى الله عليه وسلم في قوله - تعالى - { إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً } قال صاحب الكشاف : فإن قلت : أخبرني عن تأليف { ذَلِكَ الكتاب } مع { الاما } قلت : إن جعلت { الاما } اسماً للسورة ففي التأليف وجوه . أن يكون { الاما } مبتدأ و { ذَلِكَ } مبتدأ ثانياً ، و { الكتاب } خبره . والجملة خبر المبتدأ الأول .

ومعناه أن ذلك الكتاب هو الكتاب الكامل ، كأن ما عداه من الكتب في مقابلته ناقص ، وأنه الذي يستأهل أن يسمى كتاباً ، كما تقول : هو الرجل ، أي : الكامل في الرجولية ، الجامع لما يكون في الرجال من مرضيات الخصال . وإن جعلت { الاما } بمنزلة الصوت ، كان " ذلك " مبتدأ خبره " الكتاب " ، أي : ذلك الكتاب المنزل هو الكتاب الكامل . . . اه ملخصاً .

وقيل : المشار إليه { الاما } على أنه اسم للسورة والمراد المسمى .

و { الكتاب } مصدر كتب كالكتب ، وأصل الكتب ضم أديم إلى أديم بالخياطة ، واستعمل عرفا في ضم الحروف بعضها إلى بعض بالخط ، وأريد به هنا المنظوم عبارة قبل أن تنظم حروفه التي يتألف منها في الخط ، تسمية للشيء باسم ما يؤول إليه .

و ( الريب ) في الأصل مصدر رابه الأمر إذا حصل عنده فيه ريبة ، وحقيقة الريبة ، قلق النفس واضطرابها ، ثم استعمل في معنى الشك مطلقاً . وقال ابن الأثير : الريب هو الشك مع التهمة .

و ( هدى ) . مصدر هداه هدى وهداية وهدية - بكسرها - فهدى ، ومعناه الدلالة الموصلة إلى البغية ، وضده الضلال .

و ( المتقون ) جمع متق ، اسم فاعل من اتقى وأصله أوتقى - بوزن افتعل - من وقى الشيء وقاية ، أي : صانه وحفظه مما يضره ويؤذيه . والمعنى : ذلك الكتاب الكامل ، وهو القرآن الكريم ، ليس محلا لأن يرتاب عاقل أو منصف في أنه منزل من عند الله ، وأنه هداية وإرشاد للمتقين الذين يجتنبون كل مكروه من قول أو فعل حتى يصونوا أنفسهم عما يضرها ويؤذيها . وكانت الإشارة بصيغة البعيد ، لأنه سامى المنزلة أينما توجهت إليه ، فإن نظرت إليه ناحية تراكيبه فهو معجز للبلغاء ، وإن نظرت إليه من ناحية معانية فهو فوق مدارك الحكماء ، وإن نظرت إليه من ناحية قصصه وتاريخه فهو أصدق محدث عن الماضين ، وأدق محدد لتاريخ السابقين ، فلا جرم أن كانت الإشارة في الآية باستعمال اسم الإشارة للبعيد لإظهار رفعة شأن هذا القرآن ، وقد شاع في كلام البلغاء تمثل الأمر الشريف بالشيء المرفوع في عزة المنال ، لأن الشيء النفيس عزيز على أهله ، فمن العادة أن يجعلوه في مكان مرتفع بعيد عن الأيدي . وصحت الإشارة إلى الكتاب وهو لم ينزل كله بعد ، لأن الإشارة إلى بعضه كالإشارة إلى الكل حيث كان بصدد الإنزال ، فهو حاضر في الأذهان ، فشبه بالحاضر في العيان . ونفى عنه الريب على سبيل الاستغراق مع وقوع الريب فيه من المشركين حيث وصفوه بأنه أساطير الأولين ، لأنه لروعة حكمته ، وسطوع حجته ، لا يرتاب ذو عقل متدبر في كونه وحياً سماوياً ، ومصدر هداية وإصلاح .

فالجملة الكريمة تنفى الريب في القرآن عمن شأنهم أن يتدبروه ، ويقبلوا على النظر فيه بروية ، ومن ارتاب في القرآن فلأنه لم يقبل عليه بأذن واعية ، أو بصيرة نافذة ، أو قلب سليم .

وقدم جملة { لاَ رَيْبَ فِيهِ } على جملة { هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ } لأنه أراد أن ينفى عن ساحة كونه كتاباً هادياً غبار الريب ، وغيوم الشكوك ، حتى يستقر في النفوس وصفه ، وتطمئن القلوب لآثاره ومقاصده وهداياته .

وفصل جملة { لاَ رَيْبَ فِيهِ } عما قبلها لكمال الاتصال ، حيث كانت جملة { ذَلِكَ الكتاب } مفيدة لكماله ، وجملة { لاَ رَيْبَ فِيهِ } مفيدة لنفي الريب عنه .

والمراد بكونه { هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ } مع أنه هداية لهم ولغيرهم ، لأنهم هم المنتفعون به دون سواهم . قال تعالى : { قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُواْ هُدًى وَشِفَآءٌ والذين لاَ يُؤْمِنُونَ في آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أولئك يُنَادَوْنَ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ } ومعنى كونه هدى لهم أنه يزيدهم هدى على ما لديهم من الهدى كما قال - تعالى - : { والذين اهتدوا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ } ويصح أن يكون المعنى : هدى للناس الذين صاروا متقين بهذه الهداية ، كما أقول : هديت مهتديا ، أو كتبت مكتوبا ، على معنى أني هديت شخصاً صار مهدياً بهذه الهداية ، وكتبت خطاباً صار مكتوباً بهذه الكتابة ، وهو أسلوب عربي صحيح . كما ورد في حديث " من قتل قتيلا فله سلبه " . قال صاحب الكشاف : ومحل { هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ } الرفع ، لأنه خبر مبتدأ محذوف ، أو خبر مع { لاَ رَيْبَ فِيهِ } ل " ذلك " . . . والذي هو أرسخ عرقاً في البلاعة أن يضرب عن هذه المحال صفحاً ، وأن يقال : إن قوله { الاما } جملة برأسها أو طائفة من حروف المعجم مستقلة برأسها . و { ذَلِكَ الكتاب } جملة ثانية . و { لاَ رَيْبَ فِيهِ } ثالثة . { هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ } رابعة . وقد أصيب بترتيبها مفصل البلاغة وموجب حسن النظم ، حيث جيء بها متناسقة هكذا من غير نسق ، وذلك لمجيئها متآخية آخذاً بعضها بعنق بعض . فالثانية متحدة بالأولى معتنقة لها ، وهلم جراً إلى الثالثة والرابعة : بيان ذلك أنه نبه أولا على أنه الكلام المتحدى به ، ثم أشير إليه بأنه الكتاب المنعوت بغاية الكمال . فكان تقريراً لجهة التحدى ، وشدا من أعضاده ثم نفى عنه أن يتشبث به من طرف الريب ، فكان شهادة وتسجيلا بكماله . لأنه لا كمال أكمل من الحق واليقين . ولا نقص أنقص ما للباطل والشبه .

وقيل لبعض العلماء : فيم لذتك ؟ فقال : في حجة تتبختر اتضاحاً ، وفي شبهة تتضاءل افتضاحاً . ثم أخبر عنه بأنه هدى للمتقين ، فقرر بذلك كونه يقيناً لا يحوم الشك حوله ، وحقاً لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ثم لم تخل كل واحدة من الأربع - بعد أن رتبت هذا الترتيب الأنيق - من نكتة ذات جزالة . ففي الأولى الحذف والرمز إلى الغرض بألطف وجه وأرشقه . وفي الثانية ما في التعريف من الفخامة ، وفي الثالثة ما في تقديم الريب على الظرف ، وفي الرابعة الحذف .

 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{ذَٰلِكَ ٱلۡكِتَٰبُ لَا رَيۡبَۛ فِيهِۛ هُدٗى لِّلۡمُتَّقِينَ} (2)

القول في تأويل قوله تعالى :

{ ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لّلْمُتّقِينَ }

قال عامة المفسرين : تأويل قول الله تعالى : ذَلِكَ الكِتَابُ : هذا الكتاب . ذكر من قال ذلك :

حدثني هارون بن إدريس الأصم الكوفي ، قال : حدثنا عبد الرحمن بن محمد المحاربي ، عن ابن جريج ، عن مجاهد : ( ذلك الكتاب ) ، قال : هو هذا الكتاب .

حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا ابن علية ، قال : أخبرنا خالد الحذاء ، عن عكرمة ، قال : ( ذلك الكتاب ) : هذا الكتاب .

حدثنا أحمد بن إسحاق الأهوازي ، قال : حدثنا أبو أحمد الزبيري ، قال : حدثنا الحكم ابن ظهير ، عن السدّي في قوله : ( ذَلِكَ الكِتابُ ) قال : هذا الكتاب .

حدثنا القاسم بن الحسن ، قال : حدثنا الحسين بن داود ، قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج قوله : ( ذَلِكَ الكِتابُ ) : هذا الكتاب . قال : قال ابن عباس : ( ذِلِكَ الكِتابُ ) : هذا الكتاب .

فإن قال قائل : وكيف يجوز أن يكون «ذلك » بمعنى «هذا » ؟ و«هذا » لا شك إشارة إلى حاضر معاين ، و«ذلك » إشارة إلى غائب غير حاضر ولا معاين ؟ قيل : جاز ذلك لأن كل ما تقضّى وقَرُب تقضيه من الأخبار فهو وإن صار بمعنى غير الحاضر ، فكالحاضر عند المخاطب وذلك كالرجل يحدّث الرجل الحديث ، فيقول السامع : إن ذلك والله لكما قلت ، وهذا والله كما قلت ، وهو والله كما ذكرت . فيخبر عنه مرة بمعنى الغائب إذ كان قد تقضّى ومضى ، ومرة بمعنى الحاضر لقرب جوابه من كلام مخبره كأنه غير منقضٍ ، فكذلك ذلك في قوله : ( ذَلِكَ الكِتابُ ) لأنه جل ذكره لما قدم قبل ( ذلك الكتاب ) ( الم ) التي ذكرنا تصرّفها في وجوهها من المعاني على ما وصفنا ، قال لنبيه صلى الله عليه وسلم : يا محمد هذا الذي ذكرته وبينته لك الكتابُ . ولذلك حسن وضع «ذلك » في مكان «هذا » ، لأنه أشير به إلى الخبر عما تضمنه قوله : ( الم ) من المعاني بعد تقضي الخبر عنه بألم ، فصار لقرب الخبر عنه من تقضيه كالحاضر المشار إليه ، فأخبر عنه بذلك لانقضائه ومصير الخبر عنه كالخبر عن الغائب . وترجمه المفسرون أنه بمعنى «هذا » لقرب الخبر عنه من انقضائه ، فكان كالمشاهد المشار إليه بهذا نحو الذي وصفنا من الكلام الجاري بين الناس في محاوراتهم ، وكما قال جل ذكره : ( واذْكُرْ إسمَاعِيلَ واليَسَعَ وَذَا الكِفْلِ وَكُلّ مِنَ الأخْيار هَذَا ذِكْرٌ ) فهذا ما في «ذلك » إذا عنى بها «هذا » . وقد يحتمل قوله جل ذكره : ( ذَلِكَ الكِتَابُ ) أن يكون معنيا به السور التي نزلت قبل سورة البقرة بمكة والمدينة ، فكأنه قال جل ثناؤه لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : يا محمد اعلم أن ما تضمنته سور الكتاب التي قد أنزلتها إليك هو الكتاب الذي لا ريب فيه . ثم ترجمه المفسرون بأن معنى «ذلك » : «هذا الكتاب » ، إذ كانت تلك السور التي نزلت قبل سورة البقرة من جملة جميع كتابنا هذا الذي أنزله الله عز وجل على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم . وكان التأويل الأول أولى بما قاله المفسرون لأن ذلك أظهر معاني قولهم الذي قالوه في ذلك . وقد وجه معنى ذلك بعضهم إلى نظير معنى بيت خُفاف بن نُدبة السلمي :

فإنْ تَكُ خَيْلي قَدْ أصِيبَ صَميمُها *** فَعَمْدا على عَيْنٍ تَيَمّمْتُ مالكا

أقُولُ لَهُ والرّمْحُ يَأطِرُ مَتْنَهُ *** تَأمّلْ خُفافا إنّني أنا ذَلكا

كأنه أراد : تأملني أنا ذلك . فرأى أن «ذلك الكتاب » بمعنى «هذا » نظير ما أظهر خفاف من اسمه على وجه الخبر عن الغائب وهو مخبر عن نفسه ، فكذلك أظهر «ذلك » بمعنى الخبر عن الغائب ، والمعنى فيه الإشارة إلى الحاضر المشاهد . والقول الأول أولى بتأويل الكتاب لما ذكرنا من العلل .

وقد قال بعضهم : ( ذَلِكَ الكِتابُ ) : يعني به التوراة والإنجيل ، وإذا وجه تأويل ذلك إلى هذا الوجه فلا مؤنة فيه على متأوله كذلك لأن «ذلك » يكون حينئذٍ إخبارا عن غائب على صحة .

القول في تأويل قوله تعالى : لا رَيْبَ فِيهَ .

وتأويل قوله : لا رَيْبَ فِيهِ : «لا شك فيه » ، كما :

حدثني هارون بن إدريس الأصم ، قال : حدثنا عبد الرحمن المحاربي ، عن ابن جريج ، عن مجاهد لا رَيْبَ فِيهِ ، قال : لا شك فيه .

حدثني سلام بن سالم الخزاعي ، قال : حدثنا خلف بن ياسين الكوفي ، عن عبد العزيز بن أبي روّاد عن عطاء : لا رَيْبَ فِيهِ قال : لا شك فيه .

حدثني أحمد بن إسحاق الأهوازي ، قال : حدثنا أبو أحمد الزبيري ، قال : حدثنا الحكم بن ظهير ، عن السدّي ، قال : لا رَيْبَ فِيهِ : لا شك فيه .

حدثني موسى بن هارون الهمداني ، قال : حدثنا عمرو بن حماد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي في خبر ذكره عن أبي مالك ، وعن أبي صالح ، عن ابن عباس ، وعن مرة الهمداني ، عن ابن مسعود ، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم : ( لا رَيْبَ فِيهِ ) : لا شك فيه .

حدثنا محمد بن حميد ، قال : حدثنا سلمة بن الفضل عن محمد بن إسحاق ، عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت ، عن عكرمة ، أو عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : ( لا رَيْبَ فِيهِ ) قال : لا شك فيه .

حدثنا القاسم بن الحسن ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثني حجاج عن ابن جريج ، قال : قال ابن عباس : ( لا رَيْبَ فِيهِ ) يقول لا شك فيه .

حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : حدثنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر عن قتادة : ( لا رَيْبَ فِيهِ ) يقول : لا شك فيه .

وحدثت عن عمار بن الحسن ، قال : حدثنا عبد الله بن أبي جعفر ، عن أبيه عن الربيع بن أنس قوله : ( لا رَيْبَ فِيهِ ) يقول : لا شك فيه .

وهو مصدر من قولك : رابني الشيء يريبني ريبا . ومن ذلك قول ساعدة بن جُؤذيّة الهذلي :

فَقَالُوا تَرَكْنا الحَيّ قَدْ حَصِرُوا بهِ *** فَلا رَيْبَ أنْ قَدْ كانَ ثمّ لَحِيمُ

ويروى : «حصروا » ، و«حَصِروا » ، والفتح أكثر ، والكسر جائز . يعني بقوله : «حصروا به » : أطافوا به ، ويعني بقوله : ( لا رَيْبَ فِيهِ ) لا شك فيه ، وبقوله : «إن قد كان ثم لحيم » ، يعني قتيلاً ، يقال : قد لُحم إذا قتل . والهاء التي في «فيه » عائدة على الكتاب ، كأنه قال : لا شك في ذلك الكتاب أنه من عند الله هدى للمتقين .

القول في تأويل قوله تعالى :

هُدًى .

حدثني أحمد بن حازم الغفاري ، قال : حدثنا أبو نعيم ، قال : حدثنا سفيان ، عن بيان ، عن الشعبي : هُدًى قال : هدى من الضلالة .

حدثني موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو بن حماد ، قال : حدثنا أسباط بن نصر ، عن إسماعيل السدي ، في خبر ذكره عن أبي مالك ، وعن أبي صالح ، عن ابن عباس ، وعن مرة الهمداني ، عن ابن مسعود ، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم : ( هُدًى للمتّقِينَ ) يقول : نور للمتقين .

والهدى في هذا الموضع مصدر من قولك : هديت فلانا الطريق إذا أرشدته إليه ، ودللته عليه ، وبينته له أهديه هُدًى وهداية .

فإن قال لنا قائل : أو ما كتاب الله نورا إلا للمتقين ولا رشادا إلا للمؤمنين ؟ قيل : ذلك كما وصفه ربنا عز وجل ، ولو كان نورا لغير المتقين ، ورشادا لغير المؤمنين لم يخصص الله عز وجل المتقين بأنه لهم هدى ، بل كان يعم به جميع المنذرين ولكنه هدى للمتقين ، وشفاء لما في صدور المؤمنين ، ووَقْرٌ في آذان المكذّبين ، وعمى لأبصار الجاحدين ، وحجة لله بالغة على الكافرين فالمؤمن به مهتد ، والكافر به محجوج .

وقوله : هُدًى يحتمل أوجها من المعاني ؛ أحدها : أن يكون نصبا لمعنى القطع من الكتاب لأنه نكرة والكتاب معرفة ، فيكون التأويل حينئذٍ : الم ذلك الكتاب هاديا للمتقين . و«ذلك » مرفوع ب«الم » ، و«الم » به ، و«الكتاب » نعت ل«ذلك » . وقد يحتمل أن يكون نصبا على القطع من راجع ذكر الكتاب الذي في «فيه » ، فيكون معنى ذلك حينئذٍ : الم الذي لا ريب فيه هاديا . وقد يحتمل أن يكون أيضا نصبا على هذين الوجهين ، أعني على وجه القطع من الهاء التي في «فيه » ، ومن الكتاب على أن «الم » كلام تام ، كما قال ابن عباس . إن معناه : أنا الله أعلم . ثم يكون «ذلك الكتاب » خبرا مستأنفا ، ويرفع حينئذٍ الكتاب ب«ذلك » و«ذلك » بالكتاب ، ويكون «هدى » قطعا من الكتاب ، وعلى أن يرفع «ذلك » بالهاء العائدة عليه التي في «فيه » ، والكتاب نعت له ، والهدى قطع من الهاء التي في «فيه » . وإن جعل الهدى في موضع رفع لم يجز أن يكون «ذلك الكتاب » إلا خبرا مستأنفا و«الم » كلاما تاما مكتفيا بنفسه إلاّ من وجه واحد وهو أن يرفع حينئذٍ «هدى » بمعنى المدح كما قال الله جل وعز : { الم تِلْكَ آيَاتُ الكِتابِ الحَكِيمِ هُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُحْسِنِينَ } في قراءة من قرأ «رحمة » بالرفع على المدح للاَيات .

والرفع في «هدى » حينئذٍ يجوز من ثلاثة أوجه ، أحدها : ما ذكرنا من أنه مدح مستأنف . والاَخر : على أن يجعل الرافع «ذلك » ، والكتاب نعت ل«ذلك » . والثالث : أن يجعل تابعا لموضع «لا ريب فيه » ، ويكون «ذلك الكتاب » مرفوعا بالعائد في «فيه » ، فيكون كما قال تعالى ذكره : ( وَهَذَا كتابٌ أنْزَلْنَاهُ مُبارَكٌ ) .

وقد زعم بعض المتقدمين في العلم بالعربية من الكوفيين أن «الم » رافع «ذلك الكتاب » بمعنى : هذه الحروف من حروف المعجم ، ذلك الكتاب الذي وعدتك أن أوحيه إليك . ثم نقض ذلك من قوله فأسرع نقضَه ، وهدم ما بنى فأسرع هدمَه ، فزعم أن الرفع في «هدى » من وجهين والنصب من وجهين ، وأن أحد وجهي الرفع أن يكون «الكتاب » نعتا ل«ذلك » ، و«الهدى » في موضع رفع خبر ل«ذلك » كأنك قلت : ذلك لا شك فيه . قال : وإن جعلت «لا ريب فيه » خبره رفعت أيضا «هدى » بجعله تابعا لموضع «لا ريب فيه » كما قال الله جل ثناؤه : { وَهَذَا كِتابٌ أنْزَلْنَاهُ مُبارَكٌ } كأنه قال : وهذا كتاب هدى من صفته كذا وكذا . قال : وأما أحد وجهي النصب ، فأن تجعل «الكتاب » خبرا ل«ذلك » وتنصب «هدى » على القطع لأن «هدى » نكرة اتصلت بمعرفة وقد تمّ خبرها فتنصبها ، لأن النكرة لا تكون دليلاً على معرفة ، وإن شئت نصبت «هدى » على القطع من الهاء التي في «فيه » كأنك قلت : لا شكّ فيه هاديا .

قال أبو جعفر : فترك الأصل الذي أصّله في «الم » وأنها مرفوعة ب«ذلك الكتاب » ونبذه وراء ظهره . واللازم له على الأصل الذي كان أصّله أن لا يجيز الرفع في «هدى » بحال إلا من وجه واحد ، وذلك من قبل الاستئناف إذ كان مدحا . فأما على وجه الخبر لذلك ، أو على وجه الإتباع لموضع «لا ريب فيه » ، فكان اللازم له على قوله إن يكون خطأ ، وذلك أن «الم » إذا رفعت «ذلك الكتاب » فلا شك أن «هدى » غير جائز حينئذٍ أن يكون خبرا ل«ذلك » بمعنى الرافع له ، أو تابعا لموضع لا ريب فيه ، لأن موضعه حينئذٍ نصب لتمام الخبر قبله وانقطاعه بمخالفته إياه عنه .

القول في تأويل قوله تعالى :

للْمُتّقِينَ .

حدثنا سفيان بن وكيع ، قال : حدثنا أبي عن سفيان ، عن رجل ، عن الحسن قوله : ( للْمُتّقِينَ ) قال : اتقوا ما حرم عليهم وأدّوا ما افترض عليهم .

حدثنا محمد بن حميد ، قال : حدثنا سلمة بن الفضل ، عن محمد بن إسحاق ، عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت ، عن عكرمة ، أو عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : ( للْمُتّقِينَ ) أي الذين يحذرون من الله عز وجل عقوبته في ترك ما يعرفون من الهدى ، ويرجون رحمته بالتصديق بما جاء به .

حدثني موسى بن هارون قال : حدثنا عمرو بن حماد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي في خبر ذكره عن أبي مالك ، وعن أبي صالح ، عن ابن عباس ، وعن مرة الهمداني ، عن ابن مسعود ، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم : ( هُدى للْمُتّقِينَ ) قال : هم المؤمنون .

حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا أبو بكر بن عياش ، قال : سألني الأعمش عن المتقين ، قال : فأجبته ، فقال لي : سل عنها الكلبي فسألته فقال : الذين يجتنبون كبائر الإثم . قال : فرجعت إلى الأعمش ، فقال : نرى أنه كذلك ولم ينكره .

حدثني المثنى بن إبراهيم الطبري ، قال : حدثنا إسحاق بن الحجاج عن عبد الرحمن بن عبد الله ، قال : حدثنا عمر أبو حفص ، عن سعيد بن أبي عروبة ، عن قتادة : ( هُدًى للْمُتّقِينَ ) هم مَنْ نعتهم ووصفهم فأثبت صفتهم فقال : ( الّذِينَ يُؤْمِنُونَ بالغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصّلاةَ ومِمّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ ) .

حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا عثمان بن سعيد ، قال : حدثنا بشر بن عمار ، عن أبي روق ، عن الضحاك ، عن ابن عباس : ( للْمُتّقِين ) قال : المؤمنين الذين يتقون الشرك ويعملون بطاعتي .

وأولى التأويلات بقول الله جل ثناؤه : ( هُدًى للْمُتّقينَ ) تأويل من وصف القوم بأنهم الذين اتقوا الله تبارك وتعالى في ركوب ما نهاهم عن ركوبه ، فتجنبوا معاصيه واتقوه فيما أمرهم به من فرائضه فأطاعوه بأدائها . وذلك أن الله عز وجل إنما وصفهم بالتقوى فلم يحصر تقواهم إياه على بعضها من أهل منهم دون بعض . فليس لأحد من الناس أن يحصر معنى ذلك على وصفهم بشيء من تقوى الله عز وجل دون شيء إلا بحجة يجب التسليم لها ، لأن ذلك من صفة القوم لو كان محصورا على خاصّ من معاني التقوى دون العام منها لم يَدَع الله جل ثناؤه بيان ذلك لعباده ، إما في كتابه ، وإما على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم إذْ لم يكن في العقل دليل على استحالة وصفهم بعموم التقوى . فقد تبين إذا بذلك فساد قول من زعم أن تأويل ذلك إنما هو : الذين اتقوا الشرك وبرءوا من النفاق لأنه قد يكون كذلك وهو فاسق غير مستحق أن يكون من المتقين . إلا أن يكون عند قائل هذا القول معنى النفاق ركوب الفواحش التي حرمها الله جل ثناؤه وتضييع فرائضه التي فرضها عليه ، فإن جماعة من أهل العلم قد كانت تسمي من كان يفعل ذلك منافقا ، فيكون وإن كان مخالفا في تسميته من كان كذلك بهذا الاسم مصيبا تأويل قول الله عز وجل للمتقين .

 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{ذَٰلِكَ ٱلۡكِتَٰبُ لَا رَيۡبَۛ فِيهِۛ هُدٗى لِّلۡمُتَّقِينَ} (2)

{ ذلك الكتاب } ذلك إشارة إلى { الم } إن أول بالمؤلف من هذه الحروف أو فسر بالسورة أو القرآن فإنه لما تكلم به وتقضى ، أو وصل من المرسل إلى المرسل إليه صار متباعدا أشير إليه بما يشار به إلى البعيد وتذكيره ، متى أريد ب{ الم } السورة لتذكير الكتاب فإنه خبره أو صفته الذي هو هو ، أو إلى الكتاب فيكون صفته والمراد به الكتاب الموعود إنزاله بنحو قوله تعالى : { إنا سنلقي عليك قولا ثقيلا } أو في الكتب المتقدمة . وهو مصدر سمي به المفعول للمبالغة .

وقيل فعال بمعنى المفعول كاللباس ، ثم أطلق على المنظوم عبارة قبل أن يكتب لأنه مما يكتب . وأصل الكتب الجمع ومنه الكتيبة .

{ لا ريب فيه } معناه أنه لوضوحه وسطوع برهانه بحيث لا يرتاب العاقل بعد النظر الصحيح في كونه وحيا بالغا حد الإعجاز ، لا أن أحدا لا يرتاب فيه ، ألا ترى إلى قوله تعالى : { وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا } الآية فإنه ما أبعد عنهم الريب بل عرفهم الطريق المريح له ، وهو أن يجتهدوا في معارضة نجم من نجومه ويبذلوا فيها غاية جهدهم حتى إذا عجزوا عنها تحقق لهم أن ليس فيه مجال للشبهة ولا مدخل للريبة .

وقيل : معناه لا ريب فيه للمتقين . وهدى حال من الضمير المجرور ، والعامل فيه الظرف الواقع صفة للمنفي . والريب في الأصل مصدر رابني الشيء إذا حصل فيك الريبة ، وهي قلق النفس واضطرابها ، سمي به الشك لأنه يقلق النفس ويزيل الطمأنينة . وفي الحديث " دع ما يريبك إلى ما لا يريبك " فإن الشك ريبة والصدق طمأنينة ، ومنه ريب الزمان لنوائبه .

{ هدى للمتقين } يهديهم إلى الحق ، والهدى في الأصل مصدر كالسرى والتقى ومعناه الدلالة .

وقيل الدلالة الموصلة إلى البغية لأنه جعل مقابل الضلالة في قوله تعالى : { لعلى هدى أو في ضلال مبين } ولأنه لا يقال مهدي إلا لمن اهتدى إلى المطلوب . واختصاصه بالمتقين لأنهم المهتدون به والمنتفعون بنصه ، وإن كانت دلالته عامة لكل ناظر من مسلم أو كافر وبهذا الاعتبار قال تعالى : { هدى للناس } . أو لأنه لا ينتفع بالتأمل فيه إلا من صقل العقل واستعمله في تدبر الآيات والنظر في المعجزات ، وتعرف النبوات ، لأنه كالغذاء الصالح لحفظ الصحة فإنه لا يجلب نفعا ما لم تكن الصحة حاصلة ، وإليه أشار بقوله تعالى : { وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين ولا يزيد الظالمين إلا خسارا } ولا يقدح ما فيه من المجمل والمتشابه في كونه هدى لما لم ينفك عن بيان يعين المراد منه .

والمتقي اسم فاعل من قولهم وقاه فاتقى . والوقاية : فرط الصيانة . وهو في عرف الشرع اسم لمن يقي نفسه مما يضره في الآخرة ، وله ثلاث مراتب :

الأولى : التوقي من العذاب المخلد بالتبري من الشرك وعليه قوله تعالى : { وألزمهم كلمة التقوى } .

الثانية : التجنب عن كل ما يؤثم من فعل أو ترك حتى الصغائر عند قوم وهو المتعارف باسم التقوى في الشرع ، وهو المعنى بقوله تعالى : { ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا } .

الثالثة أن يتنزه عما يشغل سره عن الحق ويتبتل إليه بشراشره وهو التقوى الحقيقي المطلوب بقوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته } وقد فسر قوله : { هدى للمتقين } ههنا على الأوجه الثلاثة .

واعلم أن الآية تحتمل أوجها من الإعراب : أن يكون { الم } مبتدأ على أنه اسم للقرآن . أو السورة . أو مقدر بالمؤلف منها ، وذلك خبره وإن كان أخص من المؤلف مطلقا ، والأصل أن الأخص لا يحمل على الأعم لأن المراد به المؤلف الكامل في تأليفه البالغ أقصى درجات الفصاحة ومراتب البلاغة والكتاب صفة ذلك .

وأن يكون الم خبر مبتدأ محذوف وذلك خبرا ثانيا . أو بدلا والكتاب صفته ، و{ لا ريب } في المشهورة مبني لتضمنه معنى من منصوب المحل على أنه اسم لا النافية للجنس العاملة عمل إن لأنها تقتضيها ولازمة للأسماء لزومها . وفي قراءة أبي الشعثاء مرفوع بلا التي بمعنى ليس وفيه خبره ولم يقدم كما قدم في قوله تعالى : { لا فيها غول } لأنه لم يقصد تخصيص نفي الريب به من بين سائر الكتب كما قصد ثمة ، أو صفته وللمتقين خبره . وهدى نصب على الحال ، أو الخبر محذوف كما في { لا } ، ضمير . فلذلك وقف على { لا ريب } ، على أن فيه خبر هدى قدم عليه لتنكيره والتقدير : لا ريب فيه ، فيه هدى ، وأن يكون ذلك مبتدأ و{ الكتاب } خبره على معنى : أنه الكتاب الكامل الذي يستأهل أن يسمى كتابا ، أو صفته وما بعده خبره والجملة خبر { الم } .

والأولى أن يقال إنها جمل متناسقة تقرر اللاحقة منها السابقة ولذلك لم يدخل العاطف بينهما . ف{ الم } ، جملة دلت على أن المتحدى به هو المؤلف من جنس ما يركبون منه كلامهم ، وذلك الكتاب جملة ثانية مقررة لجهة التحدي ، و{ لا ريب فيه } ، جملة ثالثة تشهد على كماله بأن الكتاب المنعوت بغاية الكمال إذ لا كماله أعلى مما للحق واليقين . و{ هدى للمتقين } ، بما يقدر له مبتدأ جملة رابعة تؤكد كونه حقا لا يحوم الشك حوله بأنه { هدى للمتقين } ، أو تستتبع السابقة منها اللاحقة استتباع الدليل للمدلول ، وبيانه أنه لما نبه أولا على إعجاز المتحدى به من حيث إنه من جنس كلامهم وقد عجزوا عن معارضته ، استنتج منه أنه الكتاب البالغ حد الكمال واستلزم ذلك أن لا يتشبث الريب بأطرافه إذ لا أنقص مما يعتريه الشك والشبهة ، وما كان كذلك كان لا محالة { هدى للمتقين } ، وفي كل واحدة منها نكتة ذات جزالة ففي الأولى الحذف والرمز إلى المقصود مع التعليل ، وفي الثانية فخامة التعريف ، وفي الثالثة تأخير الظرف حذرا عن إبهام الباطل ، وفي الرابعة الحذف والتوصيف بالمصدر للمبالغة وإيراده منكرا للتعظيم وتخصيص الهدى بالمتقين باعتبار الغاية تسمية المشارف للتقوى متقيا إيجازا وتفخيما لشأنه .