الجواهر الحسان في تفسير القرآن للثعالبي - الثعالبي  
{وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌۖ أُجِيبُ دَعۡوَةَ ٱلدَّاعِ إِذَا دَعَانِۖ فَلۡيَسۡتَجِيبُواْ لِي وَلۡيُؤۡمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمۡ يَرۡشُدُونَ} (186)

وقوله جلَّ وعلا : { وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الداع إِذَا دَعَانِ . . . } [ البقرة :186 ] .

قال الحسنُ بْنُ أبي الحَسَن : سببُها أن قوماً قالوا للنبيِّ صلى الله عليه وسلم : " أَقَرِيبٌ رَبُّنَا فَنُنَاجِيَهُ ، أَمْ بَعِيدٌ فَنُنَادِيَهُ " ، فنزلتِ الآية .

و{ أُجِيبُ } قال قومٌ : المعنى أجيبُ إِن شئْتُ ، وقال قوم : إِن اللَّه تعالى يجيب كلَّ الدعاء ، فإِما أن تظهر الإِجابةُ في الدنيا ، وإما أن يكفِّر عنه ، وإِما أن يُدَّخَرَ له أجرٌ في الآخرة ، وهذا بحَسَب حديثِ «الموطَّأِ » ، وهو : ( مَا مِنْ دَاعٍ يَدْعُو إِلاَّ كَانَ بَيْنَ إحدى ثَلاَثٍ . . . ) الحديثَ .

( ت ) وليس هذا باختلاف قولٍ .

قال ابن رُشْدٍ في «البيان » : الدعاءُ عبادةٌ من العبادات يؤْجر فيها الأجر العظيم ، أَجيبَتْ دعوته فيما دعا به ، أو لم تُجَبْ ، وها أنا أنقل ، إِن شاء اللَّه ، من " صحيح الأحاديث " في هذا المَحَلِّ ما يَثْلَجُ له الصَدْرُ ، وعن أنسٍ رضي اللَّه عنه قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : ( لاَ تَعْجِزُوا عَنِ الدُّعَاءِ ، فَإِنَّهُ لَنْ يَهْلِكَ مَعَ الدُّعَاءِ أَحَدٌ ) رواه الحاكم أبو عبد اللَّه في المُسْتَدْرَكِ على الصحيحين " ، وابن حِبَّانَ في «صحيحه » ، واللفظ له ، وقال الحاكم : صحيحُ الإِسناد ، وعن أبي هريرة - رضي اللَّه عنه - قال : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : ( الدُّعَاءُ سِلاَحُ المُؤْمِنِ ، وَعِمَادُ الدِّينِ ، وَنُورُ السَّمَوَاتِ والأَرْضِ ) ، رواه الحاكم في «المستدرك » ، وقال : صحيحٌ ، وعن جابرِ بن عبدِ اللَّهِ - رضي اللَّه عنهما - عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ : ( يَدْعُو اللَّهُ بِالمُؤْمِنِ يَوْمَ القِيَامَةِ حتى يُوقَفَ بَيْنَ يَدَيْهِ ، فَيَقُولُ : عَبْدِي ، إِنِّي أَمَرْتُكَ ، أَنْ تَدْعُونِي ، وَوَعَدْتُّكَ أَنْ أَسْتَجِيبَ لَكَ ، فَهَلْ كُنْتَ تَدْعُونِي ؟ فَيَقُولُ : نَعَمْ ، يَا رَبِّ ، فَيَقُولُ : أَمَا إِنَّكَ لَمْ تَدْعُنِي بِدَعْوَةٍ إِلاَّ استجبت لَكَ ، أَلَيْسَ دَعَوْتَنِي يَوْمَ كَذَا وَكَذَا لِغَمٍّ نَزَلَ بِكَ ، أَنْ أُفَرِّجَ عَنْكَ فَفَرَّجْتُ عَنْكَ ؟ ! فَيَقُولُ : نَعَمْ ، يَا رَبِّ ، فَيَقُولُ : فَإِنِّي عَجَّلْتُهَا لَكَ فِي الدُّنْيَا ، وَدَعَوْتَنِي يَوْمَ كَذَا وَكَذَا لِغَمٍّ نَزَلَ بِكَ ، أنْ أُفَرِّجَ عَنْكَ ، فَلَمْ تَرَ فَرَجاً ؟ قَالَ : نَعَمْ ، يَا رَبِّ ، فَيَقُولُ : إِنِّي ادخرت لَكَ بِهَا فِي الجَنَّةِ كَذَا وَكَذَا [ و ] كَذَا وَكَذَا ، وَدَعَوْتَنِي فِي حَاجَةٍ أَقْضِيهَا لَكَ فِي يَوْمِ كَذَا وَكَذَا ، فَقَضَيْتُهَا ، فَيَقُولُ : نَعَمْ ، يَا رَبِّ ، فَيَقُولُ : فَإِنِّي عَجَّلْتُهَا لَكَ فِي الدُّنْيَا ، وَدَعَوْتَنِي فِي يَوْمِ كَذَا وَكَذَا فِي حَاجَةٍ أَقْضِيهَا لَكَ ، فَلَمْ تَرَ قَضَاءَهَا ، فَيَقُولُ : نَعَمْ ، يَا رَبِّ ، فَيَقُولُ : إِنِّي ادخرت لَكَ فِي الجَنَّةِ كَذَا وَكَذَا " قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : ( فَلاَ يَدَعُ اللَّهُ دَعْوَةً دَعَا بِهَا عَبْدُهُ المُؤْمِنُ إِلاَّ بَيَّنَ لَهُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ عَجَّلَ لَهُ فِي الدُّنْيَا ، وإِمَّا أَنْ يَكُونَ ادخر لَهُ فِي الآخِرَةِ ، قَالَ : فَيَقُولُ المُؤْمِنُ فِي ذَلِكَ المَقَامِ يَا لَيْتَهُ لَمْ يَكُنْ عُجِّلَ لَهُ شَيْءٌ مِنْ دُعَائِهِ ) ، رواه الحاكم في «المستدرك » .

وعن ثَوْبَانَ - رضي اللَّه عنه - قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : ( لاَ يَرُدُّ القَدَرِ إِلاَّ الدُّعَاءُ ) ، رواه الحاكمُ في «المستدرك » وابنُ حِبَّانَ في «صحيحه » ، واللفظ للحاكمِ ، وقال : صحيحُ الإِسناد .

قلت : وقد أخرج ابن المبارك في «رقائقه » هذا الحديثَ أيضاً ، قال : حدَّثنا سفيانُ ، عن عبد اللَّه بن قيس عن عبد اللَّه بن أبي الجَعْد ، عن ثَوْبَان ، قال : قَال رسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : ( لاَ يَرُدُّ القَضَاءَ إِلاَّ الدُّعَاءُ ، وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيُحْرَمُ الرِّزْقَ بِالذَّنْبِ يُصِيبُهُ ) انتهى .

وعن عائشةَ -رضي اللَّه عنها- قَالَتْ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : ( لاَ يُغْنِي حَذَرٌ مَنْ قَدَرٍ ، وَالدُّعَاءُ يَنْفَعُ مِمَّا نَزَلَ وَمِمَّا لَمْ يَنْزِلْ ، وَإنَّ البَلاَءَ لَيَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ ، فَيَتَلَقَّاهُ الدُّعَاءُ ، فَيَعْتَلِجَانِ إلى يَوْمِ القِيَامَةِ ) رواه الحاكم في «مستدركه » ، وقال : صحيحُ الإِسناد ، وقوله ( فَيَعْتَلِجَانِ ) ، أي : يتصارعان ، وعن سَلْمَانِ -رضي اللَّه عنه- قال : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : ( مَنْ سَرَّهُ أَنْ يُسْتَجَابَ لَهُ عِنْدَ الكُرَبِ ، وَالشَّدَائِدِ ، فَلْيُكْثِرِ الدُّعَاءَ فِي الرَّخَاءِ ) ، رواه الحاكمُ أيضاً ، وقال : صحيحُ الإِسناد ، وعن ابْنِ عمر -رضي اللَّه عنهما- قال : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : ( مَنْ فُتِحَ لَهُ فِي الدُّعَاءِ مِنْكُمْ ، فُتِحَتْ لَهُ أَبْوَابُ الجَنَّةِ ) ، قال الغَزَّالِيُّ -رحمه اللَّه- في كتابِ «الإِحياء » «فإِن قُلْتَ : فما فائدةُ الدعاءِ ، والقضاءُ لا يُرَدُّ ؟ فاعلمْ أنَّ من القضاءِ رَدَّ البلاء بالدعاءِ ، فالدعاءُ سببٌ لردِّ البلاء ، واستجلابٌ للرحمة ، كما أن التُّرْس سبب لردِّ السهم ، ثم في الدعاءِ من الفائدة أنه يستدْعِي حضورَ القَلْب مع اللَّه عزَّ وجلَّ ، وذلك منتهى العبادَاتِ ، فالدعاءُ يردُّ القلْبَ إِلى اللَّه عز وجلَّ بالتضرُّع والاستكانةِ ، فانظره فإِني آثرت الاختصار ، وانظر «سِلاَحَ المُؤْمن » الذي منه نقلْتُ هذه الأحاديثَ .

ومن «جامع الترمذيِّ » . ( عن أبي خُزَامَةَ ، واسمه رفَاعَةُ ، عن أبِيهِ ، قال : سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ، فَقُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، أَرَأَيْتَ رُقًى نَسْتَرْقِيهَا ، وَدَوَاءً نتداوى بِهِ ، وَتُقَاةً نَتَّقِيهَا ، هَلْ تَرُدُّ مِنْ قَدَرِ اللَّهِ شَيْئاً ؟ قَالَ : هِيَ مِنْ قَدَرِ اللَّهِ ) ، قال أبو عيسى : هذا حديث حسنً صحيحٌ ، وانظر جوابَ عمر لأبي عُبَيْدة ( نَعَمْ ، نَفِرُّ من قدر اللَّه إِلى قدر اللَّه . . . ) الحديث هو من هذا المعنى . انتهى ، واللَّه الموفق بفضله .

وقوله تعالى : { فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي }[ البقرة :186 ]

قال أبو رجاء الخُرَاسانِيُّ : معناه : فَلْيَدْعُونِي .

قال :( ع ) المعنى : فليطلبوا أن أجيبهم ، وهذا هو بابُ «استفعل » ، أي : طلب الشيء إِلا ما شَذَّ ، مثل : استغنى اللَّهُ .

وقال مجاهد وغيره : المعنى : فليجيبوا لي فيما دعوتهم إِلَيْه من الإِيمان ، أي : بالطاعة ، والعملِ .

( فائدةٌ ) : قال صاحب " غاية المَغْنَم في اسم اللَّه الأَعْظَم " وهو إِمام عارفٌ بعلْمِ الحديث ، وكتابه هذا يَشْهَدُ له ، قال : ذكر الدِّينَوَرِيُّ في «كتاب المُجَالَسَة » ، عن ليثِ بنِ سُلَيْمٍ ، أن رجلاً وقَفَ على قوم ، فقال : مَنْ عنده ضيافةٌ هذه الليلةَ ، فسكَتَ القومُ ، ثم عاد ، فقالَ رجُلٌ أعمى : عندي ، فذَهَبَ بِهِ إلى منزله ، فعشَّاه ، ثم حدَّثه ساعةً ، ثم وضع لهُ وَضُوءاً ، فقام الرجُلُ في جَوْف اللَّيْلِ فتوضَّأ ، وصلى ما قُضِيَ له ، ثم جَعَلَ يدعو ، فانتبه الأعمى ، وجَعَلَ يسمع لدعائهِ ، فقال : اللَّهُمَّ ، ربَّ الأرواحِ الفانيةِ ، والأجسادِ الباليةِ ، أسألُكَ بطَاعَةِ الأرواحِ الرَّاجعَةِ إلى أجسادها ، وبطاعةِ الأَجْسَادِ الملتئمَةِ في عروقها ، وبطاعة القُبُور المتشقِّقة عن أهلها ، وبدَعْوتِكَ الصادقةِ فيهم ، وأخذِكَ الحقَّ منهم ، وتبريز الخلائقِ كلِّهم من مخافَتِكَ ، ينتظرُونَ قضاءَكَ ، ويرْجُون رحمتَكَ ، ويخافُونَ عذابَكَ ، أَسأَلُك أنْ تَجْعَلَ النُّور في بَصَري ، والإِخلاصَ في عَمَلِي ، وشُكْرَكَ في قَلْبِي ، وذِكْرَكَ في لِسَانِي في الليلِ والنهارِ ، ما أبقيتَنِي ، قال : فَحَفِظَ الأعمى هذا الدعاءَ ، ثم قَامَ ، فَتَوضَّأ ، وصلى ركعتَيْنِ ، ودعا به فأصْبَحَ قدْ رَد اللَّهُ عليه بَصَرَهُ . انتهى من «غاية المَغْنَم في اسم اللَّه الأعظَم » .

وإِطلاَقُ الفناءِ على الأرواحِ فيه تجوُّز ، والعقيدةُ أن الأرواح باقيةٌ لا تفنى ، وإِنَّما عبر عن مفارقتها لأجسادها بالفَنَاءِ ، هذا هو مراده ، وروى ابنُ المبارك في «رقائقه » بسنده عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم ، أنه قَالَ : ( إِنَّ القُلُوبَ أَوْعِيَةٌ وَبَعْضُهَا أوعى مِنْ بَعْضٍ ، فادعوا اللَّهَ أَيُّهَا النَّاسُ ، حِينَ تَدْعُونَ ، وَأَنْتُمْ مُوقِنُونَ بِالإِجَابَةِ ، فَإِنَّ اللَّهَ لاَ يَسْتَجِيبُ لِعَبْدٍ دَعَاهُ عَنْ ظَهْرِ قَلْبٍ غَافِلٍ ) ، انتهى .

قال ابن عطاء اللَّهِ في «لطائفِ المِننِ » وإِذا أراد اللَّه أن يعطِيَ عبداً شيئاً وهبه الاضطرار إِلَيْهِ فيه ، فيطلبه بالاِضطرارِ ، فيعطي ، وإِذا أراد اللَّه أن يمنع عبداً أمراً ، منعه الاضطرَار إِلَيْه فيه ، ثم منعه إِياه ، فلا يُخَافُ علَيْكَ أن تضطرَّ ، وتطلب فلا تعطى ، بل يُخَافُ عليك أنْ تُحْرَمَ الاضطرارَ ، فتحرم الطَّلَب ، أو تَطْلُب بغير اضطرارٍ ، فتحرم العطاء ، انتهى .

وقوله سبحانه : { وَلْيُؤْمِنُواْ بي }[ البقرة :186 ] .

قال أبو رجاءٍ : في { فإَّني قريب أجيبُ } دعاءهم ، وقال غيره : بل ذلك دعاءٌ إِلى الإِيمان بجملته .