الجواهر الحسان في تفسير القرآن للثعالبي - الثعالبي  
{نَحۡنُ أَوۡلِيَآؤُكُمۡ فِي ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَا وَفِي ٱلۡأٓخِرَةِۖ وَلَكُمۡ فِيهَا مَا تَشۡتَهِيٓ أَنفُسُكُمۡ وَلَكُمۡ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ} (31)

وقوله تعالى : { إِنَّ الذين قَالُواْ رَبُّنَا الله ثُمَّ استقاموا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الملائكة أَلاَّ تَخَافُواْ وَلاَ تَحْزَنُواْ } قال سفيان بن عبد اللَّه الثَّقَفِيُّ : قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، أَخْبِرْنِي بِأَمْرٍ أَعْتَصِمُ بِهِ ، قَالَ : «قُلْ : رَبِّيَ اللَّهُ ثُمَّ استقم » .

( ت ) : هذا الحديث خَرَّجه مسلم في «صحيحه » ، قال صاحب «المُفْهِمِ » : جوابه صلى الله عليه وسلم من جوامع الكَلِم ، وكأَنَّهُ مُنْتَزَعٌ من قول اللَّه تعالى : { إِنَّ الذين قَالُواْ رَبُّنَا الله ثُمَّ استقاموا } الآية ، وتلخيصه : اعْتَدَلُوا على طاعته قولاً وفعلاً وعقداً ، انتهى من «شرح الأربعين حديثاً » لاِبْنِ الفَاكِهَانِيِّ .

قال ( ع ) : واخْتَلَفَ النَّاسُ في مقتضى قوله : { ثُمَّ استقاموا } فذهب الحَسَنُ وجماعةٌ إلى أَنَّ معناه : استقاموا بالطاعاتِ واجتناب المعاصِي ، وتلا عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ هذه الآيةُ على المِنْبَرِ ، ثم قال : استقاموا واللَّهِ بطاعتهِ ، ولم يروغوا روِغانَ الثَّعَالِبِ ، قال ( ع ) : فذهب رحمه اللَّه إلى حَمْلِ الناس على الأَتَمِّ الأفْضَلِ ، وإلاَّ فيلزم على هذا التأويل من دليل الخطاب أَلاَّ تتنزل الملائكةُ عِنْدَ الموت على غير مستقيمٍ على الطاعَةِ ، وذهب أبو بكْرٍ رضي اللَّه عنه وجماعةٌ معه إلى أَنَّ المعنى : ثم : استقاموا على قولهم : رَبُّنَا اللَّهُ ، فلم يختلَّ توحيدُهُمْ ، ولا اضطرب إيمانهم .

قال ( ع ) : وفي الحديث الصحيح : " مَنْ كَانَ آخِرُ كَلاَمِهِ : لاَ إلَهَ إلاَّ اللَّه ، دَخَلَ الجَنَّةَ " وهذا هو الْمُعْتَقَدُ إن شاء اللَّه ، وذلك أَنَّ العصاة من أُمَّةِ محمَّد وغيرها فرقتان : فأَمَّا مَنْ غفر اللَّه له ، وترك تعذيبه ، فلا محالة أَنَّه مِمَّن تتنزَّل عليهم الملائكة بالبشارة ، وهو إنَّما استقام على توحيده فَقَطْ ، وأَمَّا مَنْ قَضَى اللَّهُ بِتَعْذِيبِهِ مُدَّةً ، ثم يأمر بإدخاله الجَنَّةَ ، فلا محالة أَنَّه يلقى جميعَ ذلك عند مَوْتِهِ وَيَعْلَمُهُ ، وليس يَصِحُّ أنْ تكون حاله كحالة الكافر واليائِسِ مِنْ رحمة اللَّه ، وإذا كان هذا فقَدْ حَصَلَتْ له بشارة بأَلاَّ يخافَ الخُلُودَ ، ولا يحزنَ منه ، ويدخلَ فيمن يقال لهم : { وَأَبْشِرُواْ بالجنة التي كُنتُمْ تُوعَدُونَ } ومع هذا كله فلا يختلف في أَنَّ المُوَحِّدَ المستقيمَ عَلَى الطَّاعَةِ أَتَمُّ حالاً وأَكمل بشارةً ، وهو مقصد أمير المؤمنين عمر رضي اللَّه عنه ، وبالجملة ، فكُلَّما كان المرءُ أشَدَّ استعدادا ، كان أسْرَعَ فوزاً بفَضْلِ اللَّه تعالى ؛ قال الثعلبيُّ : قوله تعالى : { تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الملائكة } أي : عند الموت { أن أَلاَّ تَخَافُواْ } ما أمامكم { وَلاَ تَحْزَنُواْ } على ما خلفتم من ضيعاتكم { وَأَبْشِرُواْ بالجنة التي كنتم توعدون } قال يبشر بثلاث بشارات عند الموت ، وإذا خرج من القبر ، وإذا فزع ، { نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الحياة الدنيا } قال : كانوا معهم ، قال ابن المبارك : وأخبرنا رَجُلٌ عن منصورٍ ، عن مجاهدٍ في قوله تعالى : { نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الحياة الدنيا } قال : قُرَنَاؤُهُمْ يلقونهم يوم القيامة ، فيقولون : لا نفارقُكُمْ حتى تدخلوا الجنة ، اه .

وقوله تعالى : { نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الحياة الدنيا وَفِي الآخرة } المتكلم ب { نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ } هم الملائكة القائلون : { أَلاَّ تَخَافُواْ وَلاَ تَحْزَنُواْ } أي : يقولون للمؤمنين عند الموت وعند مشاهدة الحق : نحن كُنَّا أولياءَكُمْ في الدنيا ، ونحن هُمْ أولياؤكم في الآخرة ؛ قال السُّدِّيُّ : المعنى : نحن حَفَظَتُكُم في الدنيا ، وأولياؤكم في الآخرة ، والضمير في قوله : { فِيهَا } عائدٌ على الآخرة ، و{ تَدَّعُونَ } معناه : تَطْلُبُونَ ؛ قال الفَخْرُ : ومعنى كونِهِمْ أولياءَ للمؤمنين ، إشارةٌ إلى أَنَّ للملائكة تأثيراتٍ في الأرواحِ البشريَّةِ ، بالإلهاماتِ والمُكَاشَفَاتِ اليقينيَّةِ والمناجاتِ الخفيَّةِ ؛ كما أَنَّ للشياطينِ تَأْثيراتٍ في الأرواحِ بإلقاء الوسَاوِسِ ، وبالجملة ، فَكَوْنُ الملائكةِ أولياءَ للأرواح الطَّيِّبَةِ الطاهرةِ ، حاصِلٌ من جهاتٍ كثيرةٍ معلومةٍ لأربابِ المكاشفاتِ والمشاهَدَاتِ ، فَهُمْ يَقُولُونَ : كما أَنَّ تلك الولاياتِ حاصلةٌ في الدنيا ، فهي تكونُ باقيةً في الآخرة ؛ فإنَّ تلك العلائِقَ ذاتِيَّةٌ لازمة ، غير مائلة إلى الزوال ؛ بل تصير بعد الموت أقوى وأبقى ؛ وذلك لأَنَّ جوهر النفْسِ من جنس الملائكة ، وهي كالشُّعْلَةِ بالنسبة إلى الشمس والقطرة بالنسبة إلى البحر ، وإنَّما التَّعَلُّقَاتُ الجَسَدَانِيَّةُ والتدبيراتُ البدنيَّةُ هي الحائلة بَيْنَهَا وبين الملائكة ، فإذا زالَتْ تلك العلائِقُ ، فقد زَالَ الْغِطَاءُ ، واتَّصَلَ الأثر بالمؤثر ، والقطرةُ بالبَحْرِ ، والشعلةُ بالشمْسِ ، انتهى .

( ت ) : وقد نقل الثعلبيُّ من كلام أرباب المعاني هنا كلاماً كثيراً حَسَناً جِدًّا ، موقظاً لأربابِ الهِمَمِ ، فانظره إنْ شِئْتَ ، وروى ابن المبارك في «رقائقه » بسنده عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم ؛ بأَنَّهُ قال : «إذَا فَنِيَتْ أَيَّامُ الدُّنْيَا عَنْ هَذَا الْعَبْدِ المُؤْمِنِ ، بَعَثَ اللَّهُ إلى نَفْسِهِ مَنْ يَتَوَفَّاهَا ، قَالَ : فَقَالَ صَاحِبَاهُ اللَّذَانِ يَحْفَظَانِ عَلَيْهِ عَمَلَهُ : إنَّ هَذَا قَدْ كَانَا لَنَا أَخاً وَصَاحِباً ، وَقَدْ حَانَ الْيَوْمَ مِنْهُ فِرَاقٌ ، فَأْذَنُوا لَنَا ، أَوْ قَالَ : دَعُونَا نُثْنِ على أَخِينَا ، فَيُقَالُ : أَثْنِيَا عَلَيْهِ ، فَيَقُولاَنِ : جَزَاكَ اللَّهُ خَيْراً ، وَرَضِيَ عَنْكَ ، وَغَفَرَ لَكَ ، وأَدْخَلَكَ الجَنَّةَ ؛ فَنِعْمَ الأَخُ كُنْتَ والصَّاحِبُ ؛ مَا كَانَ أَيْسَرَ مُؤْنَتَكَ ، وَأَحْسَنَ مَعُونَتَكَ على نَفْسِكَ ، مَا كَانَتْ خَطَايَاكَ تَمنَعُنَا أَنْ نَصْعَدَ إلى رَبِّنَا ، فَنُسَبِّحَ بِحَمْدِهِ ، وَنُقَدِّسَ لَهُ ، وَنَسْجُدَ لَهُ ، وَيَقُولُ الَّذِي يتوفى نَفْسَهُ : اخرج أَيُّهَا الرُّوْحُ الطَّيِّبُ إلى خَيْرِ يَوْمٍ مَرَّ عَلَيْكَ ، فَنِعْمَ مَا قَدَّمْتَ لِنَفْسِكَ ، اخرج إلَى الرَّوْحِ وَالرَّيْحَانِ وَجَنَّاتِ النَّعِيمِ وَرَبٍّ عَلًَيْكَ غَيْرِ غَضْبَانَ ، ، وَإذَا فَنِيَتْ أَيَّامُ الدُّنْيَا عَنِ الْعَبْدِ الْكَافِرِ ، بَعَثَ اللَّهُ إلى نَفْسِهِ مَنْ يَتَوَفَّاهَا ، فَيَقُولُ صَاحِبَاهُ اللَّذَانِ كَانَا يَحْفَظَانِ عَلَيْهِ عَمَلَهُ : إنَّ هَذَا قَدْ كَانَ لَنَا صَاحِباً ، وَقَدْ حَانَ مِنْهُ فِرَاقٌ ، فَأْذَنُوا لَنَا ، وَدَعُونَا نُثْنِ على صَاحِبِنَا ، فَيُقَالُ : أَثْنِيَا عَلَيْهِ فَيَقُولاَن : لَعْنَةُ اللَّهِ وَغَضَبُهُ عَلَيْهِ ، وَلاَ غَفَرَ لَهُ ، وَأَدْخَلَهُ النَّارَ فَبِئْسَ الصَّاحِبُ ؛ مَا كَانَ أَشَدَّ مُؤْنَتَهُ ، وَمَا كَانَ يُعِينُ على نَفْسِهِ ؛ إنْ كَانَتْ خَطَايَاهُ وَذُنُوبُهُ لَتَمْنَعُنَا أَنْ نَصْعَدَ إلى رَبِّنَا فَنُسَبِّحَ لَهُ ، وَنُقَدِّسَ لَهُ ، وَنَسْجُدَ لَهُ ، وَيَقُولُ الَّذِي يتوفى نَفْسَهُ : اخرج أَيُّهَا الرُّوحُ الخَبِيثُ إلى شَرِّ يَوْمٍ مَرَّ عَلَيْكَ ، فَبِئْسَ مَا قَدَّمْتَ لِنَفْسِكَ ، اخرج إلَى الحَمِيمِ وَتَصْلِيَةِ الجَحِيمِ وَرَبٍّ عَلَيْكَ غَضْبَانَ » ، انتهى .