الجواهر الحسان في تفسير القرآن للثعالبي - الثعالبي  
{وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ ٱلشَّيۡطَٰنِ نَزۡغٞ فَٱسۡتَعِذۡ بِٱللَّهِۖ إِنَّهُۥ هُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلۡعَلِيمُ} (36)

وقوله تعالى : { وَإِمَّا يَنَزَغَنَّكَ مِنَ الشيطان نَزْغٌ فاستعذ بالله } «إِمَّا » : شرطٌ وجوابُ الشرطِ قوله : { فاستعذ } والنَّزْغُ : فِعْلُ الشيطانِ في قَلْبٍ أو يدٍ من إلقاءِ غَضَبٍ ، أو حقدٍ ، أو بطشٍ في اليد ، فمن الغضب هذه الآية ، ومن الحقد قوله : { نَّزغَ الشيطان بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي } [ يوسف : 100 ] ، ومن البَطْشِ قولُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم : " لاَ يُشِرْ أَحَدُكُمْ على أَخِيهِ بِالسِّلاَحِ ؛ لاَ يَنْزَغُ الشَّيْطَانُ في يَدِهِ فَيُلْقِيَهُ في حُفْرَةٍ مِنْ حُفَرِ النَّارِ " .

ومن دعاء الشيخِ الوليِّ العارف باللَّه سبحانه ، محمَّد بن مَسَرَّة القُرْطُبِيِّ : اللَّهُمَّ ، لاَ تَجْعَلْ صدري للشيطان مَرَاغاً ، ولا تُصَيِّرْ قلبي له مجالاً ، ولا تَجْعَلْنِي ، مِمَّنِ استفزَّهُ بصوته ، وأجلب عليه بخيله ورَجْلِهِ ، وكُنْ لي من حبائله مُنْجِياً ، ومن مصائده مُنْقِذاً ، ومن غَوَايَتِهِ مُبْعِداً ، اللهم إنَّه وَسْوَسَ في القلب ، وألقى في النَّفْس ما لا يطيقُ اللِسانُ ذِكْرَهُ ، ولا تستطيعُ النَّفْس نشره مِمَّا نَزَّهَك عنه عُلُوُّ عِزِّكَ ، وسُمُوُّ مجدك ، فَأَزِلْ يا سيِّدِي ما سَطَرَ ، وامح ما زَوَّرَ بوَابِلِ من سحائِبِ عَظَمَتِكَ وطُوفَانٍ مِنْ بِحَارِ نُصْرَتِكَ ، واسلل عليه سيفَ إبعادك ، وارشقه بسهام إقصائِكَ ، وأحْرِقْهُ بنار انتقامك ، واجعل خَلاَصِي منه زائداً في حُزْنِهِ ، وَمُؤَكِّداً لأسفه . ثم قال رحمه اللَّه : اعلم أَنَّه ربما كان العبد في خَلْوَتِهِ مشتغلاً بتلاوته ، ويجدُ في نفسه من الوسوسة ما يحولُ بينه وبين رَبِّه ، حتى لا يَجِدَ لطعمِ الذِّكْرِ حلاوةً ، ويجدَ في قلبه قساوةً ، وربما اعتراه ذلك مع الاجتهاد في قراءته ؛ وعِلَّةُ ذلك أَنَّ الذِّكْرَ ذِكْرَانِ : ذكرُ خَوْفٍ ورهبةٍ ، وذكْرُ أَمْنٍ وغفلةٍ ، فإذا كان الذِّكْرُ بالخَوْفِ والرهبة ، خَنَسَ الشيطانُ ، ولم يحتملِ الحَمْلَةَ ، وأذهب الوسوسة ؛ لأنَّ الذكر إذا كان باجتماع القلب وصِدْقِ النية ، لم يكُنْ للشيطانِ قُوَّةٌ عند ذلك ، وانقطعَتْ علائقُ حِيَلِهِ ؛ وإنَّما قُوَّتُهُ ووسوستُهُ مع الغَفْلَة ، وإذا كان الذِّكْرُ بالأَمْنِ والغَفْلَةِ لَمْ تفارقْهُ الوَسْوَسَةُ ، وإنِ استدام العَبْدُ الذِّكْرَ والقراءةَ ؛ لأَنَّ على قلب الغافلِ غشاوةً ؛ ولا يجد صاحبها لطعم الذكْرِ حلاوةً ، فَتَحَفَّظْ على دينك من هذا العَدُوِّ ، وليس لك أن تزيله عن مرتبته ، ولا أَنْ تزيحَهُ عن وطنه ، وإنما أُبِيحَ لك مجاهدته ، فاستعنْ باللَّه يُعِنْك ، وثِقْ باللَّه ؛ فإنَّهُ لا يَخْذُلُكَ ؛ قال تعالى : { والذين جاهدوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ الله لَمَعَ المحسنين } [ العنكبوت : 69 ] ، انتهى من تصنيفه رحمه اللَّه .

وندب سبحانه في الآية المتقدمة إلى الأخذ بمكارم الأخلاق ، ووعد على ذلك ، وعَلِمَ سبحانه أَنَّ خِلْقَةَ البشر تغلب أحياناً وتَثُورُ بِهِمْ سَوْرَةُ الغضب ونَزْغُ الشيطان ؛ فَدَلَّهُمْ في هذه الآية على ما يُذْهِبُ ذلك ، وهي الاستعاذة به عزَّ وجلَّ .