قوله تعالى : { صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِم وَلاَ الضَّآلِّينَ }
قولُه تَعَالَى : { صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ } .
" صِرَاطَ الذِيْنَ " بدل منه ، بدل كُلِّ مِنْ كُلّ ، وهو بَدَلُ مَعْرِفَةٍ مِنْ مَعْرِفَةٍ .
والبدلُ سبعةُ أَقْسَامٍ على خلاف في بعضها :
بدلُ كُلّ من كُلّ ، وبدل بَعْضٍ من كُلّ ، وبدلُ اشْتِمَالٍ ، وبدلُ غَلَطٍ ، وبدل نِسْيَان ، وبدل بَدَاء ، وبدل كُلّ من بعض .
أما الأقسامُ الثلاثَةُ الأُوَلُ ، فلا خلافَ فِيها .
وأما بدلُ البدَاء ، فأثبته بعضُهم ؛ مستدلاًّ بقوله عليه الصَّلاة والسَّلام : " وإنَّ الرَّجُلَ لَيُصَلِّي الصلاَة ، وما كتب له نِصْفُهَا ثُلُثُهَا رُبعُهَا إلى العُشُرِ " ولا يَرِدُ هذا في القرآن الكريمِ .
وأما الغَلَطُ والنسْيَانُ ، فأثبتهما بعضُهم ؛ مُسْتَدِلاًّ بقول ذي الرُّمَّةِ : [ البسيط ]
75- لَمْيَاءُ فِي شَفَتَيْهَا حُوَّةٌ لَعَسٌ- *** -وَفِي اللِّثَاتِ وَفِي أَنْيَابِهَا شَنَبُ{[323]}
قال : لأنَّ " الحُوّة " السّوادُ الخالِصُ ، و " اللَّعَسُ " سواد يشوبه حُمْرَة ، ولا يرِدُ هذان البدلان في كَلاَمٍ فصيحٍ .
وأما بدل الكُلّ من البعض ، فأثبته بعضهُم ، مُسْتَدِلاًّ بظاهِر قوله : [ الخفيف ]
76- نَضَرَ اللهُ أَعْظُماً دَفَنُوهَا- *** -بِسِجِسْتَانَ طَلْحَةَ الطَّلَحَاتِ{[324]}
في رواية مَنْ نَصَبَ " طَلْحَةَ " ، قال : لأنَّ " الأَعْظُمَ " بعضُ " طَلْحَةَ " ، و " طَلْحَةَ " كُلّ وقد أُبْدِلَ منها ؛ واستدلّ - أيضاً - بقول امرىء القيس [ الطويل ]
77- كَأَنِّي غَدَاةَ البَيْنِ يَوْمَ تَحَمَّلُوا- *** -لَدَى سَمُرَاتِ الحَيِّ نَاقِفُ حَنْظَلِ{[325]}
ف " غَدَاةَ " بعضُ " اليوم " ، وقد أُبْدِلَ " اليوم " منها .
ولا حُجَّةَ في البيتيْنِ ، أما الأولُ : فإنَّ الأَصْلَ " أعظماً دفنوها أَعْظُمَ طلحة " ثم حُذِفَ المضافُ ، وأقيم المُضَافُ إليهِ مُقَامه ؛ ويدلُّ على ذلك الروايةُ المشهورةُ وهي جَرُّ " طَلْحَةَ " على أنَّ الأصل : " أعظم طلحة " ولم يُقَم المضاف إليه مقامَ المضاف .
وأما الثاني : فإنَّ " اليَوْمَ " يُطلقُ على القطعةِ من الزمان ، كما تقدّم ، وليس هذا موضعَ البَحْثِ عَن دَلائِلِ المذهبيْن .
وقيل : " الصراط " الثاني غير الأول ، والمرادُ به : العلمُ بالله تعالى . قاله جَعْفَرُ بنُ محمد{[326]} رحمه الله تعالى : وعلى هذا فتخريجته أن يكونَ مَعْطُوفاً حُذِفَ منه حَرْفُ العَطْفِ ، وبالجملة فهو مُشْكلٌ .
بدل مَعرفةٍ ، ونكرةٍ منْ نكرةٍ ، ومعرفةٍ منْ نكرةٍ ، ونكرةٍ مِنْ معرفةٍ .
بدل ظاهِر من ظاهرٍ : ومُضْمَرٍ مِنْ مُضْمَرٍ ، وظاهرٍ مِنْ مضمر ، ومضمرٍ من ظاهر .
وفائدةُ البَدلِ : الإيضاحُ بعد الإبْهَامِ ؛ لأنهُ يُفِيدُ تأكيداً من حَيْثُ المعنى ، إذ هو على نيّةِ تَكْرَار العامل .
و " الذين " في مَحَلِّ جرٍّ بالإضافة ، وهو اسمُ موصولٍ ، لافتقاره إلى صِلَةٍ وعائدٍ ، وهو جمع " الذي " في المعنى ، والمشهور فيه أن يكونَ بالياءِ ، رفعاً ، ونصباً ، وجرًّا ؛ وبعضُهم يرفعُه بالواوِ ؛ جَرْياً له مَجْرَى جَمْعِ المذكَّر السَّالم ؛ ومنه : [ الرجز ]
78- نَحْنُ الَّذُونَ صَبَّحُوا الصَّبَاحَا- *** -يَوْمَ الفَسَادِ غَارَةً مِلْحَاحَا{[327]}
وقد تُحْذَفُ نُونُه اسْتِطَالةً بصلته ؛ كقوله : [ الطويل ]
79- وَإِنَّ الَّذِي حَانَتْ بِفَلْجٍ دمَاؤُهُمْ- *** -هُمُ الْقَوْمُ كُلُّ القَوْمِ يَا أُمَّ خَالِدِ{[328]}
ولا يقع إلاَّ على أُولي العلمِ ، [ ولا يقع مجرى جمع المذكر السَّالم ، بخلاف مجرده فإنه يقع على أولي العلم ]{[329]} وغيرهم .
و " أَنْعَمْتَ " : فِعْلٌ ، وفاعلٌ ، صِلَة المَوْصُولِ .
والتاء في " أنعمتَ " ضميرُ مرفوعٍ مُتَّصل . و " عليهم " جار ومجرور متعلّق ب " أنعمتَ " ، والضميرُ هو العائدُ ، وهو ضمير جمع المذكرين العقلاء ، ويستوي فيه لفظ مُتَّصِلِه ومُنْفَصِلِهِ .
والهمزةُ في " أنعمتَ " ؛ لجَعْلِ الشيءِ صَاحِبَ {[330]}ما صِيَغَ منه ، فحقُّه أن يَتَعَدَّى بِنَفْسِه ، ولكن ضُمِّنَ معنى " تَفَضَّلَ " فَتَعَدَّى تَعْدِيَتَهُ .
وقرأ عمر{[331]} بنُ الخَطّابِ ، وابنُ الزُّبَيْرِ{[332]} رضي الله - تعالى - عنهما " صِرَاطَ مَنْ أَنْعَمْتَ " .
ول " أَفْعَلَ " أربعةٌ وعشرُونَ مَعْنى ، تقدّمَ وَاحِدٌ .
والتعدِيَةُ ؛ نحو : " أَخْرَجتُه " .
والكثرةُ ؛ نحو : " أَظْبَى المَكَانُ " أَيْ : " كَثُرَ ظِبَاؤُه " .
والصَّيرورةُ ؛ نحو : " أَغَدَّ البَعِيرُ " صار ذا غُدّة .
والإعانة ؛ نحو : " أَحْلَبْتُ فُلاَناً " أي : أعنتُه على الحَلْبِ .
والتَّشْكِيَةُ ؛ نحو : " أَشكيتُه " أي : أزلتُ شِكَايَتَهُ .
والتَّعرِيضُ ؛ نحو : " أبعتُ المبتاعَ " ، أي : عرضتُه للبيع .
وإصابةُ الشيءِ بمعنى ما صيغ منه ؛ نحو : " أحمدتُه " أي : وجدتُه محموداً .
وبلوغُ عَدَدٍ ؛ نحو : " أعْشَرتِ الدَّرَاهِمُ " ، أي : بلغتِ العَشَرَة .
أو بلوغُ زَمانٍ ؛ نحو " أصبح " ، أو مَكَانٍ ؛ نحو " أَشْأَمَ " .
وموافقَةُ الثّلاثي ؛ نحو : " أحزتُ المكانَ " بمعنى : حُزْتُهُ .
أَوْ أَغْنَى عن الثلاثي ؛ نحو : " أَرْقَلَ البعيرُ " .
ومطاوعةُ " فَعَلَ " ؛ نحو قَشَع الريح ، فَأَقْشَع السّحابُ .
ومطاوعَةُ " فَعَّلَ " ؛ نحو : " فَطَّرْتُه ، فَأَفْطَرَ " .
ونَفْيُ الغريزَةِ ؛ نحو : " أسرع " .
والتَّسميةُ ؛ نحو : " أخطأتهُ " ، أَيْ : سَمَّيْتُه مخْطِئاً .
والدعاءُ ؛ نحو : " أسقيتُه " ، أَي : قلتُ له : سَقَاكَ الله تعالى .
والاستحقاقُ ؛ نحو " أَحْصَدَ الزرعُ " ، أَيْ : استحقَّ الحصادَ .
والوصولُ ؛ نحوه : " أَعْقَلْتُهُ " ، أَيْ : وَصَّلْتُ عقلي إليه .
والاستقبالُ نحو : " أَفَفْتُه " ، أَي : استقبلتُه بقول : أُفٍّ .
والمجيءُ بالشيء ؛ نحو : " أكثرتُ " أَيْ : جئتُ بالكثير .
والفرقُ بين أَفْعَلَ وفَعَل ، نحو : أَشْرَقَتِ الشَّمسُ : أضاءتْ ، وشَرَقَتْ : طَلَعَتْ .
والهجومُ ؛ نحو : أَطْلَعْتُ على القوم ، أيْ : اطَّلعْتُ عَلَيْهِمْ .
و " على " حرف استعلاء حقيقةً أو مجازاً ؛ نحو : عليه دَيْنٌ : ولها معانٍ أُخَرُ ، منها : المُجَاوزة ؛ كقوله : [ الوافر ]
80- إِذَا رَضِيَتْ عَلَيَّ بَنُو قُشَيْرٍ- *** -لَعَمْرُ اللهِ أَعْجَبَنِي رِضَاهَا{[333]}
وبمعنى " الباءِ " { حَقِيقٌ عَلَى أَن لاَّ أَقُولَ } [ الأعراف : 105 ] ، أي : بأَنْ ، وبمعنى " فِي " ؛ { الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ } [ البقرة : 102 ] أيْ : فِي [ مُلْكِ ] ، { الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى } [ البقرة : 177 ] .
والتعليلُ : { وَلِتُكَبِّرُواْ اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ } [ البقرة : 185 ] ؛ أي لأجلِ هِدَايَتِه إياكم .
وبمعنى " مِن " : { حَافِظُونَ إِلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ }[ المؤمنون : 5 ، 6 ] ، أيْ : إلاّ مِنْ أَزواجهم .
81- أبَى اللهُ إلاَّ أَنَّ سَرْحَةَ مَالِكٍ- *** -عَلَى كُلِّ أَفْنَانِ العِضَاهِ تَرُوقُ{[334]}
لأنَّ " تُروقُ " يتعدى بنفسِه ، ولكل موضع من هذه المواضعِ مَجَالٌ للنظر .
وهي مترددةٌ بين الحَرْفِيَّةِ ، والاسْمِيَّةِ{[335]} ؛ فتكون اسماً في موضعين :
أحدهُما : أن يدخلَ عليها حَرْفُ الجَرّ ؛ كقول الشاعر : [ الطويل ]
82- غَدَتْ مِنْ عَلَيْهِ بَعْدَ مَا تَمَّ ظِمْؤُهَا- *** -تَصِلُّ وَعَنْ قَيْضٍ بِزَيزَاءَ مَجْهَلِ{[336]}
ومعناها " فَوْق " ، أيْ : من فوقه .
والثاني : أنْ يؤدي جعلُه حرفاً ، إلى تعدِّي فعل المضمر المنفصل إلى ضمير المُتّصل في غيرِ المَوَاضِع الجَائِز فيها ؛ ومن ذلك قوله : [ المتقارب ]
83- هَوِّنْ عَلَيْكَ فإنَّ الأُمُورَ- *** -بِكَفِّ الإِلهِ مَقَادِيرُهَا{[337]}
ومثلُها في هذيْن الحُكْمَيْن " عَنْ " ، وستأتي إنْ شاء الله تعالى .
وزعم بعضُهم أنَّ " على " مترددةٌ بين الاسم ، والفِعْلِ ، والحرفِ .
أما الاسمُ والحرفُ ، فقد تقدما .
وأما الفعلُ : قال : فإنك تقولُ : " عَلاَ زيدٌ " أي : ارتفع . وفي هذا نَظَرٌ ؛ لأن " عَلاَ " إذا كان فِعْلاً ، مُشْتَقٌّ من العُلُوِّ ، وإذا كان اسماً أو حرفاً ، فلا اشتقاقَ له ، فليس هو ذَاكَ ، إلاَّ أنَّ هذا القَائِلَ يَرُدُّ هذا النظرَ ، [ بقولهم : إنَّ " خَلاَ " ، " وَعَدا " مترددانِ بين الفعليَّةِ والحرفيَّةِ ، ولم يلتفتوا إلى هذا النظر ]{[338]} .
والأصلُ في هاء الكِناية الضَّمُّ ، فإنْ تقدمها ياءٌ ساكنة ، أو كسرةٌ ، كَسَرَها غيرُ الحِجازَيين ؛ نحو : عَلَيْهِم وفِيهِمْ وَبِهِمْ .
والمشهورُ في مِيمِهَا السكونُ قبل متحرك ، والكسرُ قبلَ ساكن ، هذا إذا كَسَرْتَ الهاء ، أما إذا ضممتَ ، فالكَسْرُ ممتنع إلاّ في ضَرُورة ؛ كقوله : " وفِيهُمِ الحكام " بِكَسْرِ المِيمِ .
وفي " عَلَيْهِمْ " عشرُ لُغاتٍ :
قُرِئ{[339]} بِبَعْضِها : " عَلَيْهُِمْ " بكسر الهاء وضمها ، مع سُكُون الميم .
" عَلَيْهِمِي " ، بكسر الهاء ، وزيادة الياء ، وبكسر الميم فقط .
" عليهُمُو " بضم الميم ، وزيادة واو ، أو الضم فقط .
" عليهِمُو " بِكَسْرِ الهاءِ ، وضم الميمِ ، بزيادة الواو .
" عليهُمِي " بِضَمِّ الهاء ، وزيادة ياء بعد الميم .
أو الكسر فقط " عليهِمُ " بكسر الهاء ، وضم الميم ، حكى ذلك ابنُ الأَنْبَارِي{[340]} .
والتفسيرُ ، قال البَغَويُّ - رحمه الله تعالى - : صراط الذين أنعمت عليهم أي : مَنَنْتَ عليهم بِالهِدَايَةِ والتوفيق ، وقال عِكْرَمة{[341]}- رضي الله تعالى عنه - : مَنَنْتَ عليهم بالثَّبات على الإيمان والاسْتِقَامَة وعلى الأنبياء عليهم السلام .
وقِيل : على كُلِّ مَنْ ثَبَتَهُ الله - تعالى - من النَّبِيِّين والمُؤْمنين الذين ذكرهم الله - تَعَالَى - في قوله :{ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَآءِ وَالصَّالِحِينَ } [ النساء : 69 ]
وقال ابنُ عباس - رضي الله تعالى عنهما - هُمْ قومُ مُوسَى ، وعِيسَى - عليهما الصلاة والسلام ، قبل أن غيروا دينهم .
وقال أَبُو العَالِيَةَ{[342]} : هم آلُ الرسولِ صلى الله عليه وسلم وأبو بكر ، وعمر رضي الله عنهما .
وقال شَهْرُ بْنُ حَوْشَبٍ{[343]} - رضي الله عنه - : هم أصحابُ النبي صلى الله عليه وسلم ، وأهل بَيْتِهِ .
وقرأ حَمْزَةُ {[344]} " عَلَيْهُمْ " ، و " إلَيْهُمْ " ، و " لَدَيْهُمْ " بضم الهاء .
ويضم يَعْقُوب{[345]} كُلَّ هاءٍ قبلها ياءٌ ساكنة تثنيةً وجمعاً ، إلاّ قولَه تعالى :
{ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ } [ الممتحنة : 12 ] .
والآخرُونَ : بكسرها . فَمَنْ ضَمَّها ردّها إلى الأصل ؛ لأنها مضمومة عند الانفراد .
ومَنْ كسرها ، فالأصل الياءُ السَّاكنة ، والياءُ أختُ الكسرة .
وضم ابنُ كَثِير{[346]} ، وأَبُو جَعْفَر{[347]} كُلَّ ميم جمع مُشْبِعاً في الوَصْلِ ، إذا لم يلقها ساكن ، فإنْ لقيها ساكِنٌ فلا يُشْبِع .
ونَافِعٌ يُخَيِّرُ ، ويضمُّ وَرْش{[348]} عند ألِفِ القطع .
وإذا تلقته ألفُ الوصلِ ، وقبل الهاء كسرٌ ، أو ياءٌ ساكنةٌ ، ضمّ الهاءَ والمِيمَ حَمْزَةُ والكسائي - رحمهما الله - وكسرَهُما أَبُو عَمْرو ، وكذلك يَعْقُوبُ إذَا انْكَسر ما قبله .
والآخرون : بضمّ الميم ، وكسرِ الهاء ؛ لأجل الياء أو لكسر ما قبلها ، وضمّ الميم على الأصل ، وقرأ عمرُ بن الخَطَّاب{[349]} - رضي الله تعالى عنه - : " صرَاطَ مَنْ أنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ " .
قال ابنُ الخَطِيب{[350]} - رحمه الله تعالى - : اخْتُلِفَ في حَدّ النّعْمَةِ :
فقال بعضُهم : إنَّها عِبَارَةٌ عن المَنْفَعةِ المفعولة على جِهَةِ الإحسان إلَى الغيرِ .
[ ومنهم مَنْ يقولُ : المنفعة الحسنة المفعولة على جهة الإحْسَان إلى الغير ] .
قالوا : وإنما زدْنا على هذا القَيْدِ ، لأن النعمةَ يستحقّ لها الشكر والإحسان [ والحقّ أن هذا القيد غير معتبر ؛ لأنه لا يجوز أن يستحق الشكر بالإحسان ]{[351]} ، وإنْ كان فعله محظوراً ؛ لأن جهةَ استحقاقِ السكر غير جهةِ استحقاق الذَّنْب والعِقاب ، فأيُّ امتناعٍ في اجتماعهما ؟ أَلاَ ترى أن الفاسِقَ يستحقُّ بإنعامه الشُّكْرَ ، والذَّمَّ بمعصيةِ الله تعالى ، فلا يجوزُ أنْ يَكُونَ الأمرُ ها هنا كذلك .
ولنرجع إلى تفسير الحَدّ : فنقول : أما قَولُنا : " المنفعة " ؛ فلأن المَضَرّةَ المحضةَ لا تكون نِعْمَةً .
وقولنا : المفعولة على جهة الإحسان ؛ لأنه لو كان نفعاً حقًّا وقَصَدَ الفاعلُ به نفعَ نفسه ، نَفْعَ المفعولِ به ، فلا يكون نِعْمَةً{[352]} ، كَمَنْ أحسن إلى جَاِريَتِهِ ، ليربَحَ عليها .
الفائِدَةُ الأُوْلَى : أَنَّ كلّ ما يصل إلى الخلق من النفع ، ودفع الضَّرر ، فهو من الله تعالى على ما قال تبارك وتعالى :{ وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ } [ النحل : 53 ] ، ثمَّ إنَّ النعمةَ على ثلاثةِ أَقْسَامٍ :
أحدُها : نِعمةٌ تَفَرَّدَ الله - تعالى - بإيجَادِهَا ، نحو : أنْ خَلَق ورَزَقَ .
وثانيها{[353]} : نعمةٌ وصلت إلينا من جهةِ غير الله - تعالى - في ظاهرِ الأَمْرِ ، وفي الحقيقة فهي - أيضاً - إنّما وصلتْ من الله تبارك وتعالى ؛ وذلك لأنه - تعالى - هو الخالقُ لتلك النعمةِ ، والخالقُ لذلك المنعِِمِ ، وخالقٌ لداعيةِ الإنْعَام بتلك النعمة في قلب ذلك المنعم ، إلاّ أنه تبارك وتعالى لَمّا أَجْرَى تلك النعمة على يَدِ ذلك العَبْدِ ، كان ذلك العبدُ مشكوراً ، ولكن المشكور في الحقيقة هو الله - تعالى - ولهذا قال تعالى : { أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ } [ لقمان : 14 ] فبدأ بنفسِه ، تنبيهاً على أن إنعامَ الخلقِ لا يتمّ إلاّ بإنعام الله تعالى .
وثالثها : نِعمٌ وصلت من الله إلينا بسبب طاعتنا ، وهي أيضاً من الله تعالى{[354]} ؛ لأنه لولا أنَّ الله - سبحانه وتعالى - وَفّقنا للطاعات ، وأعاننا عليها ، وهدانا إليها ، وأَزَاحَ الأعذار عَنا ، وإِلاَّ لَمَا وَصَلْنَا إلى شَيْءٍ منها ، فظهر بها التقرير أنَّ جَمِيعَ النعم في الحقيقة من الله تَعَالى .
الفائدةُ الثَّانيةُ : اختلفوا [ في أنه ]{[355]} هل لله - تعالى - نعمةً على الكافرِ أَم لاَ ؟ فقال بعضُ أصحابنا : ليس لله - تعالى - على الكافر نعمة .
وقالت المعتزلةُ : لله - تعالى - على الكافر نعمة دينية ، ونعمة دنيوية .
واحتجَّ الأصحابُ على صحّةِ قولهم ، بالقرآن [ الكريم ]{[356]} ، والمعقول .
أما القرآنُ ؛ فقوله تبارك وتعالى : { صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ } ؛ وذلك لأنه لو كان لله على الكافر نعمةٌ ، لكانوا داخِلِينَ تحت قوله : { أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ } فيكون طلباً لصراطِ الكُفّارِ ، وذلك بَاطِلٌ ، فثبت بهذه الآيةِ أنه ليس لله - تعالى - على الكافر نعمةٌ .
فإن قَالُوا : إنَّ قَوْله : { الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ } يدفعُ ذَلكَ .
قلنا : { صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ } بدل مِنْ قَوْلِه : { الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ } ؛ فكان التَّقْدِير : " اهْدِنا صراطَ الذين أنعمت عليهم " ، وحينئذٍ يَعُودُ المحذوفُ المذكورُ .
وقوله تبارك وتعالى : { وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لأَِنفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُواْ إِثْماً } [ آل عمران : 178 ] .
وأما المَعْقُولُ : فهو أَنَّ نِعَمَ الدنيا الفانيةَ في مُقَابلةِ عَذَابِ الآخرة على الدوام ، كالقَطْرة في البحر ، ومثل هذا لا يكون نِعْمَةً ، بدليل أنَّ مَنْ جعل السُّمَّ في الحَلْوَى لم يَعُدِ النفعُ الحاصلُ منه نعمةً ؛ لأجل أن ذلك النفع حقيرٌ في مُقابلةِ ذلك الضَّرر الكبير{[357]} ، فكذا ههُنا .
وأما الَّذِين قالوا : إن لله على الكافر نعمةً ، فقد احتجُّوا بقوله تعالى : { يَاأَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشاً وَالسَّمَاءَ بِنَآءً } [ البقرة : 21 ، 22 ] ، على أنه يَجبُ على الكُلِّ طاعةُ الله - تعالى - لأجلِ هذه النعم ، وإلاّ لما كانت هذه النعمُ العظيمةُ معتبرةً ؛ وقولِه تعالى : { كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُمْ } [ البقرة : 28 ] ، ذكر ذلك في معرض الامْتِنَانِ ، وشرحِ النعم .
وقولِه تعالى : { يَابَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُواْ نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ } [ البقرة : 40 ] .
وقولِه تعالى : { وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ } [ سبأ : 13 ] .
وقول إبليس : { وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ } [ الأعراف : 17 ] .
ولو لم تحصل النعمة ، لم يلزمْ من عَدَمِ إقدامِهم على الشكر محذورٌ ؛ لأنّ الشكر لا يمكن إلاَّ عند حصول النعمة .
الفائدة الثالثةُ : قال ابنُ الخَطِيب{[358]} - رحمه الله - : قوله تعالى : { اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ } يدل على إمامةِ أبي بكر - رضي الله عنه ؛ لأنا ذكرنا أن تقديرَ الآية : " اهدنا صراط الذين أنعمت عليهم " والله - تعالى - قد بيّن في آية أُخْرَى أَنَّ { الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ } من هم ؛ بقوله تعالى : { فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ } [ النساء : 69 ] ورئيسهم أبو بكر الصّديق - رضي الله تعالى عنه - فكان معنى الآية أن الله - تعالى - أمرنا أن نطلب الهداية [ التي كان عليها أبو بكر الصديق ، وسائر الصّديقين ، ولو كان أبو بَكْرٍ - رضي الله تعالى عنه - غيرَ إمامٍ ، لما جَازَ الاقتداء به ]{[359]} ، فثبت [ بما ذكرناه دلالة هذه الآية على ]{[360]} إمامة أبي بكر رضي الله عنه .
الفائدة الرابعة : قوله تعالى : { أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ } يتناول كُلّ من كان لله - تعالى - عليه نعمة ، وهذه النعمة إما أن يكون المراد منها نعمة الدنيا ، أو نعمة الدين ، والأول باطل فثبت أن المراد منه نعمة الدين .
فنقول : كل نعمة ديِنِيّة سوى الإيمان فهي مشروطة بحصول الإيمان ، وأمّا نعمة الإيمان فيمكن حصولها خالياً عن سائر النعم الدينية ، وهذا يدلّ على أن المراد من قوله تعالى : { أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ } هو نعمة الإيْمَان ، فرجع حاصل القول في قوله تعالى : { هْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ } أنه طلب لنعمة الإيمان ، وإذا ثبت هذا الأصل ، فيتفرع عليه أحكام :
الأول : أنه لما ثبت أن المُرادَ من هذه النعمة نِعْمَةُ الإيمان ، إذ لفظ الآية الكريمة صريح في أن الله - تعالى - هو المنعم بالنعمة ، ثبت أنّ الخالق للإيمان ، والمعطي للإيمان هو الله تعالى ، وذلك يدلّ على فساد قول المعتزلة ، وكان الإيمان أعظم النعم ، فلو كان الفاعل للإيمان هو العبد لكان إنعام العبد أشرف وأعلى من إنعام الله تعالى ، ولو كان كذلك لما حسن من الله - تعالى - أن يذكر إنعامه في معرض التعظيم .
الحكم الثاني : يجب ألاَّ يبقى المؤمن مخلداً في النار ؛ لأن قوله : { أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ } مذكور في معرض التَّعْظيم بهذا الإنعام ، ولو لم يكن له أثر في دفع العَذَاب المؤبّد لكان قليل الفائدة ، فما كان يحسن من الله - تعالى - ذكره في معرض التَّعْظيم .
الحكم الثالث : دلّت الآية الكريمة على أنه لا يجب على الله - تعالى - رعاية [ الصلاح والأصلح ]{[361]} في الدين ؛ لأنه لو كان الإرْشاد على الله - تعالى - واجباً لم يكن ذلك إنعاماً ، وحيث سماه الله - تعالى - إنعاماً علمنا أنه غير واجب .
الحكم الرابع : لا يجوز أن يكون المراد بالإنعام الإقدار على الإيمان ؛ لأن الله - تبارك وتعالى - قدر المكلف عليه ، وأرشده إليه ، وأزاح أعْذَارَهُ وعِلَلَهُ عَنْهُ ، لأن كل ذلك حاصل في حَقّ الكفار ، فلما خص - تعالى - بعض المكلفين بهذا الإنعام ، مع أن الإقدار ، وإزاحة العلل حاصل في حَقّ الكل ، علمنا أن المراد ليس هو الإقدار ، وإزاحة الموانع .
قوله تعالى : { غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلاَ الضَّآلِّينَ }
" غير " بدل من " الذين " بدل نكرة من معرفة .
وقيل : نعت ل " الذين " ، وهو مشكل ؛ لأن " غير " نكرة و " الذين " معرفة{[362]} ، وأجابوا عنه بجوابين :
أحدهما : أن " غير " إنما يكون نكرة إذا لم يقع بين ضدّين ، فأما إذا وقع بين ضدين فقد انحصرت الغيرية ، فيتعرف " غير " حينئذ بالإضافة ، تقول : " مررت بالحركة غير السكون " والآية من هذا القبيل ، وهذا إنما يتمشّى على مذهب ابن السّراج ، وهو مرجوح .
والثاني : أن الموصول أَشْبَهَ النكرات في الإبْهَام الذي فيه ، فعومل معاملة النكرات .
وقيل : إن " غير " بدل من المضمر المجرور في " عليهم " ، وهذا يشكل على قول من يرى أن البدل يحل محلّ المبدل منه ، وينوي بالأول الطّرح ؛ إذ يلزم منه خلو الصّلة من العائد ، ألا ترى أن التقدير يصير : " صراط الذين أنعمت على غير المغضوب عليهم " .
و " المغضوب " خفض بالإضافة ، وهو اسم مفعول ، والقائم مقام الفاعل الجار والمجرور ، ف " عليهم " الأولى منصوبة المَحَلّ ، والثانية مرفوعته ، و " أل " فيه موصولة ، والتقدير : " غير الذين غُضِب عليهم " .
والصحيح في " أل " الموصولة أنها اسم لا حَرْفٌ .
واعلم أن لفظ " غير " مفرد مذكر أبداً ، إلا أنه إن أريد به مؤنث جاز تأنيث فعله المسند إليه ، نقول : " قامت غيرك " ، وأنت تعني امرأة ، وهي في الأصل صفة بمعنى اسم الفاعل ، وهو مغاير ، ولذلك لا تتعرف بالإضافة ، وكذلك أخواتها ، أعني نحو : " مِثْل وشِبْه وشَبِيه وخِدْن وتِرْب " .
وقد يستثنى بها حملاً على " إلاّ " كما يوصف ب " إلاّ " حملاً عليها ، وقد يراد بها النفي ك " لا " ، فيجوز تقديم معمول معمولها عليها ، كما يجوز في " لا " تقول : " أنا زيداً غَيْرُ ضارب " أي : غير ضارب زيداً ؛ ومنه قول الشاعر : [ البسيط ]
84- إِنَّ امْرَءًا خَصَّنِي عَمْداً مَوَدَّتْهُ- *** -عَلَى التَّنَائِي لَعِنْدِي غَيْرُ مَكْفُورِ{[363]}
تقديره : غير مكفور عندي ، ولا يجوز ذلك فيها إذا كانت لغير النَّفي .
لو قلت : " جاء القوم زيداً غير ضارب " ، تزيد : غير ضارب زيداً لم يجز ؛ لأنها ليست بمعنى " لا " التي يجوز فيها ذلك على الصَّحيح من الأقوال في " لا " .
وفيها قول ثانٍ يمنع ذلك مطلقاً .
وقول ثالث : يفصل بين أن تكون جَوَاب قَسَمٍ ، فيمتنع فيها ذلك ، وبين ألاّ يكون فيجوز .
وهي من الألفاظ اللاَّزمة للإضافة لفظاً وتقديراً ، فإدْخَال الألف واللام عليها خَطَأ .
واختلفوا هل يجوز دخول " أل " على " غير وبعض وكل " والصحيح جوازه .
قال البغوي - رحمه الله تعالى - : " غير " ها هنا بمعنى " لا " و " لا " بمعنى " غير " ، ولذلك جاز العَطْفُ عليها ، كما يقال : " فلان غير مُحْسن ولا مجمل " ، فإذا كان " غير " بمعنى " لا " ، فلا يجوز العَطْفُ عليها ب " لا " ؛ لا يجوز في الكلام : " عندي سوى عبد الله ولا زيد " .
وقرئ{[364]} : " غَيْرَ " نصباً ، فقيل : حال من " الَّذِين " وهو ضعيف ؛ لمجيئه من المُضَاف إليه في غير المواضع الجائز فيها ذَلِكَ ، كما ستعرفه إن شَاءَ اللهُ تعالى : وقيل : من الضمير في " عليهم " .
وقيل على الاستثناء المنقطع ، ومنعه الفَرَّاء ؛ قال : لأن " لا " لا تُزَادُ إلاَّ إذا تقدمها نفي ، كقول الشاعر : [ البسيط ]
85- مَا كَانَ يَرْضَى رَسُولُ اللهِ فِعْلَهُمَا- *** -وَالطَّيِّبَانِ أَبُو بَكْرٍ وَلاَ عُمَرُ{[365]}
وأجابوا بأن " لا " صلة زائدة مثلها في قوله تعالى : { مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ } [ الأعراف : 12 ] ؛ وقول الشَّاعر : [ الرجز ]
86- فَمَا أَلُومُ البِيضَ ألاّ تَسْخَرَا{[366]}- *** -
87- وَيَلْحَيْنَني في اللَّهْوِ أَلاَّ أُحِبَّهُ- *** -ولِلَّهْوِ دَاعٍ دَائِبٌ غَيْرُ غَافِلِ{[367]}
88- أَبَى جُودُهُ لاَ البُخْلَ واسْتَعْجَلَتْ بِهِ- *** -نَعَمْ مِنْ فَتًى لا يَمْنَعُ الجُودَ نَائِلُهْ{[368]}
ف " لا " في هذه المواضع كلها صلةٌ .
وفي هذا الجواب نظر ؛ لأن الفَرَّاء لم يقل : إنها غير زائدة ، وقولهم : إن " لا " زائدة في الآية ، وتنظيرهم بالمَوَاضِعِ المتقدّمة لا تفيد ، وإنّما تحرير الجواب أن يقولوا : وجدت " لا " زائدةً من غير تقدّم نفي ، كهذه المواضع المتقدمة .
ويحتمل أن تكون " لا " في قوله : " لا البُخْلَ " مفعولاً به ل " أَبَى " ، ويكون نصب " البُخْلَ " على أنه بدل من " لا " أي : أبى جُودُهُ قَوْلَ لا ، وقول : لا هو البخل ، ويؤيد هذا قوله : " واسْتَعْجَلَتْ بِهِ نَعَمْ " فجعل " نَعَمْ " فاعل " اسْتَعْجَلَتْ " ، فهو من الإِسْنَادِ اللَّفْظي ، أي : إلى جود هذا اللَّفظ ، واستعجل به هذا اللفظ .
وقيل : إن نصب " غير " بإضمار أعني . ويحكى عن الخليل ، وقدّر بعضهم بعد " غير " محذوفاً قال : التقدير : " غير صِرَاط المَغْضُوب " ، وأطلق هذا التَّقدير ، فلم يقيده بِجَرّ " غير " ، ولا نصبه ولا يتأتى ذلك إلاَّ مع نصبها ، وتكون صفةً لقوله تعالى : { الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ } وهذا ضعيف ؛ لأنه متى اجتمع البدل{[369]} والوصف قدم الوصف ، فالأولى أن تكون صفةً ل " صراط الذين " ، ويجوز أن تكون بدلاً من " الصراط المستقيم " ، أو من " صراط الذين " {[370]} إلا أنه يلزم منه تكرار البدل ، وفي جوازه نَظَر ، وليس في المَسْألة نقل ، إلاّ أنهم قد ذكروا ذلك في بَدَلِ البَدَاء خَاصّة ، أو حالاً من " الصراط " الأول أو الثاني .
واعلم أنّه حيث جعلنا " غير " صفةً فلا بد من القول{[371]} بتعريف " غير " ، أو إبهام الموصوف ، وجريانه مجرى النكرة ، كما تقدم تقريره ذلك في القراءة بجرّ " غير " .
و " لا " في قوله تعالى : { وَلاَ الضَّآلِّينَ } زائدة لتأكيد معنى النَّفي المفهوم من " غير " لئلا يتوهّم عطف " الضَّالين " على " الذين أنعمت " .
وقال الكوفيون : هي بمعنى " غير " وهذا قريبٌ من كونها زائدةً ، فإنه لو صرح ب " غير " كانت للتأكيد أيضاً ، وقد قرأ بذلك عمر بن الخَطَّاب وأبيٌّ رضي الله عنهما .
و " الضَّالين " مجرور عطفاً على " المغضوب " ، وقرىء شاذاً " {[372]} الضَّأَلِّينَ " ، بهمز الألف ؛ وأنشدوا : [ الطويل ]
89- وَلِلأَرْضِ أَمَّا سُودُهَا فَتَجَلَّلََتْ- *** -بَيَاضاً ، وأَمَّا بِيضُهَا فَادْهَأَمَّتِ{[373]}
قال الزَّمَخْشَرِي : " وفعلوا ذلك ، لِلْجِدِّ في الهَرَبِ من التقاء السَّاكنين " .
وقد فعلوا ذلك حيث لا سَاكِنَانِ ؛ قال الشاعر : [ الرجز ]
90- وَخِنْدِفٌ هَامَةُ هَذَا العَأْلَمِ{[374]}- *** -
91- وَلَّى نَعَامُ بَنِي صَفْوَانَ زَوْزَأَةً- *** - . . . . . . . . . . . . . . . . . . {[375]}
بهمز ألف " زَوْرَأَة " ، والظَّاهر أنها لغةٌ مطَّردةٌ ؛ فإنهم قالوا في قراءة{[376]} ابن ذَكْوَان{[377]} : " مِنْسَأَتَهُ " بهمز ساكنة : إنّ أصلها ألف ، فقلبت همزة ساكنة .
فإن قيل : لم أتى بصلة " الذين " فعلاً ماضياً ؟
قيل : ليدلّ ذلك على ثبوت إنعام الله - تبارك وتعالى - عليهم وتحقيقه لهم ، وأتى بصلة " أل " اسماً ليشمل سائر الأزمان ، وجاء مبنيًّا للمفعول ؛ تحسيناً للفظ ؛ لأنّ من طلبت منه الهداية ، ونسب الإنعام إليه لا يناسبه نسبة الغضب إليه ، لأنه مقام تلطُّف ، وترفّق لطلب الإحسان ، فلا يحسن مواجهته بصفة الانتقام .
والإنعام : إيصال الإحسان إلَى الغير ، ولا يقال إلا إذا كان الموصل إليه الإحْسَان من العُقَلاَء ، فلا يقال : أنعم فلان على فَرَسِهِ ، ولا حماره .
والغضب : ثَورَان دم القلب إرادة الانتقام ، ومنه قوله عليه الصلاة والسلام : " اتَّقُوا الغَضَبَ فإنه جَمْرَةٌ تُوقَدُ في قَلْبِ ابْنِ آدَمَ ، ألم تَرَ إلى انْتِفَاخِ أَوْدَاجِهِ وحُمْرَةِ عينيه{[378]} " .
وإذا وصف به الباري - تبارك وتعالى - فالمراد به الانتقام لا غيره .
قال ابن الخطيب - رحمه الله تعالى - : هنا قاعدة كليةٌ ، وهي أن جميع الأعراض النَّفْسَانية - أعني الرحمة ، والفرح ، والسُّرور ، والغضب ، والحَيَاء ، والعُتُوّ ، والتكبر ، والاستهزاء -لها أوائل ولها غايات .
ومثاله : الغضب : فإنّ أول غليان دم القلب ، وغايته : إرادة إيصال الضَّرَرِ إلى [ المغضوب عليه ، فلفظ الغضب في حق الله لا يحمل على أوله الذي هو غليان دم القلب ، بل على غايته الذي هو إرادة الإضرار ، وأيضاً الحَيَاءُ ]{[379]} له أول وهو انكسار النفس ، وهذه قاعدة شريفة في هذا الباب .
ويقال : فُلاَن غُضبَّة : إذا كان سريع الغَضَبِ .
ويقال : غضبت لفلان إذا كان حيًّا وغضبت به إذا كان ميتاً .
وقيل : الغضب تغيُّر القلب لمكروه .
وقيل : إن أريد بالغضب العُقُوبة كان صفة فعل ، وإن أريد به إرادة العقوبة كان صفة ذاتٍ .
والضلال : الخَفَاء والغيبوبة .
وقيل : الهلاك ، فمن الأول قولهم : ضَلَّ الماءُ في اللبن .
92- أَلَمْ تَسْأَلْ فَتُخْبِرَكَ الدِّيَارُ- *** -عَن الحَيِّ المُضَلَّلِ أَيْنَ سَارُوا{[380]} ؟
" والضَّلضلَة " : حجر أملس يَرُده السَّيْل في الوادي .
{ أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي الأَرْضِ }[ السجدة : 10 ] ، وقيل : الضّلال : العُدُول عن الطريق المستقيم ، وقد يُعَبَّرُ به عن النِّسْيان كقوله تعالى :{ أَن تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا } [ البقرة : 282 ] بدليل قوله :{ فَتُذَكِّرَ } [ البقرة : 282 ] .
التفسير : قيل : " المغضوب عليهم " هم اليهود .
وقيل : " الضالون " هم النصارى ؛ لأن الله - تعالى - حكم على اليهود بالغَضَبِ فقال تعالى :{ مَن لَّعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ } [ المائدة : 60 ] ، وحكم على النصارى بالضَّلال فقال تعالى : { وَلاَ تَتَّبِعُواْ أَهْوَآءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّواْ مِن قَبْلُ } [ المائدة : 77 ] .
وقيل : هذا ضعيف ؛ لأن منكري الصَّانع والمشركين أَخْبَثُ ديناً من اليهود والنصارى ، فكان الاحتراز من دينهم أولى .
وقيل : " المغضوب عليهم " : هم : الكُفّار ، و " الضّالون " : هم المنافقون .
وقال سهل بن عبد الله رضي الله عنهما : " غير المغضوب عليهم " بالبِدْعَةِ ، " والضّالين " عن السُّنَّة .
والأَوْلَى أن يحمل " المغضوب عليهم " على كل من أَخْطَأَ في الاعتقاد ؛ لأن اللفظ عام ، والتقييد خلاف الأصل .
فَصْلٌ في عصمة الأنبياء والملائكة
قال ابن الخطيب- رحمه الله تعالى - : " غير المغضوب عليهم " يدلُّ على أن أحداً من الملائكة ، والأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - ما أَقْدَمَ على عملٍ مخالف قول الدين ، ولا على اعتقاد مخالف اعتقاد دين الله ؛ لأنه لو صدر عنه ذلك لكان قد ضَلّ عن الحق ، لقوله تعالى : { فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلاَلُ } [ يونس : 32 ] ، ولو كانوا ضالين لما جاز الاقتداء بهم ، ولا بطريقهم ، ولكانوا خارجين عن قوله تعالى : { أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ } ، ولما كان ذلك باطلاً علمنا بهذه الآية عِصْمةَ الملائكة ، والأنبياء عليهم الصلاة والسلام .
قالت المعتزلة : غَضَبُ الله - تعالى - عليهم يدلُّ على كونهم فاعلين للقبائح باختيارهم ، وإلاَّ لكان الغضب عليهم ظلماً من الله - تعالى - عليهم .
وقال أصحابنا - رحمهم الله تعالى - : لما ذكر غضب الله عليهم ، وأتبعه بذكر كونهم ضالين دلّ ذلك على أن غضب الله - تعالى - عليهم علّة لكونهم ضالين ، وحينئذ تكون صفة الله - تعالى - مؤثرةً في صفة العبد .
أما لو قلنا : إن كونهم ضالين يوجب غضب الله - تعالى - عليهم لزم أن تكون صفة العبد مؤثرة في صفة الله تعالى ، وذلك مُحَال .
قال ابن الخطيب{[381]} - رحمه الله تعالى - : دلّت هذه الآية على أن المكلّفين ثلاث فرق :
أهل الطاعة ، وإليهم الإشارة بقوله تعالى : { أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ } .
وأهل البغي والعدوان ، وهم المراد بقوله تعالى : { غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ } .
وأهل الجهل في دين الله ، وإليهم الإشارة بقوله تعالى : { وَلاَ الضَّآلِّينَ } .
فإن قيل : لم قدم ذكر العُصَاة على ذكر الكَفَرَةِ ؟
قلنا : لأن كل أحد يحترز عن الكفر ، أما قد لا يحترز عن الفِسْق ، فكان أهم فقدم لهذا السّبب ذلك .
قال ابن الخطيب - رحمه الله تعالى - : ها هنا سؤال ، وهو أن غضب الله إنما تولَّد عن علمه بصدور القبيح والجناية{[382]} عنه ، فهذا العلم إما أن يقال : إنه قديم ، أو محدث ، فإن كان قديماً فلم خلقه ، ولم أخرجه من العَدَمِ إلى الوجود ، مع علمه بأنه لا يستفيد من دخوله في الوجود إلا العَذَاب الدَّائم ، ولأنه من كان غضبان على الشَّيء كيف [ يعقل ]{[383]} إقدامه على إيجَادِهِ وتكوينه ؟ فإن كان ذلك العلم حادثاً لكان الباري - تعالى - محلاًّ للحوادث ، إلاَّ أنه يلزم أن يفتقر إحداث ذلك العلم إلى سَبْقِ علمٍ آخر ، وتسلسل ، وهو مُحَال .
والجواب : يفعل الله ما يشاء ويحكم ما يريد .
وهو أن من أنعم الله - تعالى - عليه امتنع أن يكون مغضوباً عليه ، وأن يكون من الضَّالين ، فلما ذكر قوله : { أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ } ، فما الفائدة في أن ذكر عقيبه : { غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِم وَلاَ الضَّآلِّينَ } ؟
والجواب : الإيمان إنما يكمل بالرَّجَاء والخوف ، كما قال عليه الصلاة والسلام : " لَوْ وُزِنَ خَوْفُ المُؤْمِن وَرَجَاؤُهُ لاعتْدَلا " {[384]} ، فقوله : { صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ } يوجب الرَّجَاء الكامل ، وقوله تعالى : { غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلاَ الضَّآلِّينَ } يوجب الخوف الكامل ، وحينئذٍ يقوى الإيمان بركنيه وطرفيه ، وينتهي إلى حَدِّ الكمال .
ما الحكمة في أنه - تَعَالَى - جعل المقبولين طائفةً واحدةً ، وهم الذين أنعم الله عليهم ، والمردودين فريقين : المغضوب عليهم ، والضَّالين ؟
فالجواب : أنّ الذين كملت نعم الله - تَعَالَى - عليهم هم الذين جمعوا بين معرفة الحَقّ لذاته ، والخير لأجل العمل به ، فهؤلاء هم المُرَادون بقوله : { أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ } ، فإن اختلّ قيد العمل فهم الفَسَقَةُ ، وهم المغضوب عليهم ، كما قال تعالى : { وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمِّداً فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ }[ النساء :93 ]
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وإن اختلّ قيد العلم فهم الضَّالون لقوله تعالى :{ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلاَلُ } [ يونس : 32 ] .
فصل في حروف لم ترد في هذه السورة
قالوا : إنّ هذه السورة لم يحصل{[1]} فيها سبعة من الحروف ، وهو الثاء ، والجيم ، والخاء ، والزاي ، والشين ، والظاء ، والفاء ، والسبب فيه أن هذه الحروف مُشْعرة بالعذاب ، فالثناء أوّل حروف الثبور .
والزاي والشين أول حروف الزفير والشّهيق ، والزّقوم والشّقاوة .
والظَّاء أول حرف ظلّ ذي ثلاث شعب ، ويدل أيضاً على لَظَى الظاء .
والفاء أول حروف الفراق تعالى : { يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ } [ الروم : 14 ] .
قلنا : فائدته أنه - تعالى - وصف جَهَنّم بأن { لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِّكُلِّ بَابٍ مِّنْهُمْ جُزْءٌ مَّقْسُومٌ } [ الحجر : 44 ] فلما أسقط هذه الحروف السّبعة الدّالة على العَذَاب من هذه السورة نبّه بذلك على أن من قرأ هذه السورة ، وآمن بها ، وعرف حقائقها أمن من دَرَكَاتِ جهنم السّبعة .
القول في " آمين " : ليست من القرآن إجماعاً ، ومعناها : اللَّهم اسمع واستجب .
وقال ابن عباس وقتادة - رضي الله تعالى عنهما - : معناه كذلك يكون ، فهي اسم فعل مَبْنِيّ على الفَتْحِ .
وقيل : ليس باسم فعل ، بل هو من أسماء البَارِي تعالى ، والتقدير : يا آمين ، وضعف أبو البقاء هذا بوجهين :
أحدهما : أنه لو كان كذلك لَكَانَ ينبغي أن يبنى على الضَّمِّ ، لأنه منادى مفرد معرفة .
والثاني : أن أسماء الله - تعالى - توقيفيةٌ .
ووجه الفارسي قول من جعله اسماً لله - تعالى - على معنى : أن فيه ضميراً يعود على الله تعالى ؛ لأنه اسم فعل ، وهو توجيه حسن نقله صاحب " المُغْرِب " .
وفي " آمين " لغتان : المَدّ ، والقَصْر ، فمن الأول قول القائل : [ البسيط ]
93- آمِينَ آمِينَ لاَ أَرْضَى بِوَاحِدةٍ- *** -حَتَّى أُبَلِّغَهَا أَلْفَيْنِ آمِينَا{[2]}
94- يَا رَبِّ لاَ تَسْلُبَنِّي حُبَّهَا أَبَداً- *** -وَيَرْحَمُ اللهُ عَبْداً قَالَ : آمِينَا{[3]}
95- تَبَاعَدَ عَنِّي فُطْحُلٌ إِذْ رَأَيْتُهُ- *** -أَمِينَ فَزَادَ اللهُ ما بَيْنَنَا بُعْدَا{[4]}
وقيل : الممدود : اسم أَعْجَمِيّ ، لأنه بِزِنَةِ قَابِيل وهَابِيل .
المشهور أنه خطأ ، نقله الجَوْهَرِيّ{[5]} - رحمه الله تعالى - ، ولكنه قد رُوي عن الحسن وجعفر الصّادق - رضي الله تعالى عنهما - التشديد ، وهو قول الحسين بن الفَضْلِ ، من أمَّ : إذا قصد ، أي : نحن قاصدون نحوك .
ومنه : { وَلا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ } [ المائدة : 2 ] .
وقيل : معناه : هو طابع الدعاء .
وقيل : هو خاتم الله على عباده يدفع به الآفات عنهم كخاتم الكتاب يمنعه من الفسادِ ، وظهور ما فيه . وقال النَّووي{[6]} - رحمه الله تعالى - في " التهذيب " : وقال عطية العوفي{[7]} : [ " آمين " ]{[8]} كلمة عبرانية ، أو سُرْيانية ، وليست عربية .
وقال عَبْدُ الرَّحمن بن زيد : " آمِينَ " كَنْزٌ من كنوز العَرْشِ لا يعلم أحد تأويله إلاّ الله تعالى .
وروي فيها الإِمَالَة مع المَدّ عن حَمْزَةَ والكِسَائي ، والنون فيها مفتوحة أبداً مثل : أَيْنَ وَكَيْفَ .
وقيل : آمين درجة في الجَنَّة تجب لقائلها .
وقيل : معناه : اللَّهم آمنا بخير .
وقال بعضهم : بنيت لأنها ليست عربية ، وأنها اسم فعل [ ك " صَهٍ " " ومَهٍ " أَلاَ ترى أن معناها : " اللهم استجب ، وأعطنا ما سألناك " .
وقالوا : إن مجيء " آمِين " دليلٌ على أنها ليست عربيةً ]{[9]} ؛ إذ ليس في كلام العرب " فَاعِيل " .
فأما " آري " فليس ب " فَاعِيل " ، بل هو عند جماعة " فَاعُول " .
وعند بعضهم [ " فَاعِي " ]{[10]} بالنقصان .
وقال بعضهم : إن " أمين " المقصورة لم يجىء عن العرب ، والبيت الذي ينشد مقصوراً لا يصح على هذا الوجه إنما هو : [ الطويل ]
96- . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . - *** -فآمِينَ زَادَ اللهُ مَا بَيْنَنَا بُعْدَا{[11]}
روي عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إِذَا قَالَ الإمَامُ : { غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلاَ الضَّآلِّينَ }{[12]} ، فقولوا : آمِين ، فإنّ المَلائِكَةَ تقول : آمين ، فمن وافق تَأْمِينُهُ تأمينَ الملائكة غُفِرَ له ما تقدم من ذَنْبِهِ " .
قال ابن الخطيب - رحمه الله تعالى - : أجمع الأكثرون على أن القراءة واجبةٌ في الصلاة .
وعن الأَصَمّ{[13]} والحسن بن صالح{[14]} - رضي الله تعالى عنهما - أنهما قالا : لا تجب لنا [ أن كلّ دليل نذكره في بيان أن ]{[15]} قراءة الفاتحة واجبة ، فهو يدلّ على أن أصل القراءة واجب ، ونزيد - ها هنا - وجوهاً :
الأول : فهو قوله تبارك وتعالى : { أَقِمِ الصَّلاَةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ الْلَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ } [ الإسراء : 78 ] .
والمراد بالقرآن القراءة ، والتقدير : أقم قراءة الفجر ، وظاهر الأمر الوجوب .
الثاني : عن أبي الدَّرْدَاء{[16]} - رضي الله تعالى عنه - " أن رجلاً سأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال : أفي الصَّلاَةِ قِراءةٌ فقال : " نَعَمْ " فقال السَّائل : وجبت ، فأقر النبي صلى الله عليه وسلم ذلك الرجل على قوله : " وَجَبَتْ " {[17]} .
الثالث : عن ابن مَسْعُودٍ - رضي الله تعالى عنه - " أن النبي صلى الله عليه وسلم سُئِلَ : أيقرأ في الصلاة ؟ فقال عليه الصلاة والسلام : " أتَكُونُ صَلاَةٌ بِغَيْرِ قِرَاءَةٍ " {[18]} ، هذان الخبران نقلهما من تعليق الشيخ أبي أحمد الإسفرايني{[19]} .
وحجّة الأصم - رحمه الله تعالى - قوله عليه الصلاة والسلام : " صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُوني أُصَلّي " {[20]} جعل الصلاة من الأشياء المرئية ، والقراءة ليست مرئية ، فوجب كونها خارجةً عن الصلاة ، والجواب : أنّ الرؤية إذا كانت متعديةً إلى مفعولين كانت بمعنى العلم .
قال الشافعي - رحمه الله تعالى - : قراءة الفاتحة واجبةٌ في الصلاة ، فإن ترك منها حرفاً واحداً وهو يحسنها لم تصحّ صلاته ، وبه قال الأكثرون .
وقال أبو حنيفة - رضي الله تعالى عنه - : لا تجب قراءة الفَاتِحَةِ .
الأول : أنه - عليه الصّلاة والسلام - وَاظَبَ طول عمره على قراءة الفاتحة في الصَّلاة ، فوجب علينا ذلك ، لقوله تعالى : { وَاتَّبِعُوهُ } [ الأعراف : 158 ] ، ولقوله : { فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ } [ النور : 63 ] ، ولقوله تعالى : { فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ } [ آل عمران : 31 ] .
ويا للعجب من أبي حنيفة - رضي الله تعالى عنه - أنه تمسّك في وجوب مسح النّاصية بخبر واحدٍ ، في أنه - عليه الصلاة والسلام - مسح على النّاصية ، فجعل ذلك القَدْرَ من المسح شرطاً لصحة الصلاة ، وها هنا نقل أهل العلم نقلاً متواتراً أنه - عليه الصلاة والسلام - واظب على قراءة الفاتحة ، ثم قال : إن صحّة الصَّلاة غير موقوفةٍ عليها ، وهذا من العَجَائب .
الثاني : قوله تعالى : { وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ } [ البقرة : 43 ] ، والصلاة لفظ مُحَلّى بالألف واللام ، فيكون المراد منها المعهود السَّابق ، وليس عند المسلمين معهودٌ سابق من لفظ الصَّلاة إلى الأعمال التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأتي بها .
وإذا كان كذلك كان قوله تعالى :{ وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ } [ البقرة :43 ] جارياً مجرى أمره بقراءة الفاتحة ، وظاهر الأمر [ الوجوب ]{[21]} ، ثم إنّ هذه اللَّفظة تكررت في القرآن الكريم أكثر من مائة مرة ، فكان ذلك دليلاً قاطعاً على وجوب قراءة الفَاتحَةِ في الصَّلاةِ .
الثالث : أنّ الخلفاء الراشدين - رضي الله تعالى عنهم - واظبوا على قراءتها طول عمرهم ، ويدلُّ عليه ما روي في " الصّحيحين " " أن النَّبي - عليه الصلاة والسلام - وأبا بكر وعمر - رضي الله تعالى عنهما - كانوا يستفتحون القراءة ب { الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ }{[22]} ، وإذا ثبت هذا وجَبَ علينا ذلك ، لقوله عليه الصلاة والسلام : " عَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وسُنَّةِ الخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ من بَعْدِي " {[23]} .
ولقوله عليه الصلاة والسلام : " اقْتَدُوا باللَّذينِ مِنْ بَعْدِي : أَبي بَكْرٍ وَعُمَرَ " رضي الله عنهما .
والعجب من أبي حنيفة - رحمه الله - أنه تمسَّك بطلاق الفَارّ بأثر عثمان{[24]} - رضي الله عنه - مع أن عبد الرحمن ، وعبد الله بن الزبير - رضي الله عنهما - كانا يخالفانه - ونص القرآن أيضا يوجب عدم الإرْث ، فلم يتمسّك بعمل [ كل ] الصحابة - رضي الله عنهم - على سبيل الإطباق ، والاتفاق على وجوب قراءة الفاتحة ، مع أن هذا القول على وَفْقِ القرآن ، والإخبار ، والمعقول !
الرابع : أن الأمّة [ وإن ]{[25]} اختلفت في أنه هل تجب قراءة الفاتحة أم لا ؟ لكنهم اتفقوا عليه في العَمَلِ فإنك لا ترى أحداً من المسلمين في العرف إلا ويقرأ الفاتحة في الصَّلاة ، وإذا ثَبَتَ هذا فنقول : إنَّ من صَلَّى ولم يقرأ الفاتحة كان تاركاً سبيل المؤمنين ، فيدخل تحت قوله تعالى : { وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ } [ النساء : 115 ] فإن قالوا : إنَّ الذين اعتقدوا أنَّهُ لا يَجِب قراءتها قَرَءُوهَا لا عن اعتقاد الوجوب ، بل على اعتقاد النّدبية ، فلم يحصل الإجماع على وجوب قرَاءتها .
فنقول : أعمال الجوارح غير أعمال القلوب ، ونحن قد بَيَّنَّا إطباق الكُلّ على الإتيان بالقراءة ، فمن لم يَأْتِ بالقراءة كان تاركاً طريقة المؤمنين في هذا العَمَلِ فدخل تَحْتَ الوَعِيدِ ، وهذا القدر يكفينا في الدَّلِيلِ ، ولا حاجة في تقرير هذا الدَّليل إلى ادِّعَاء الإجماع في اعتقاد الوجوب .
الخامس : قوله عَزَّ وجَلَّ : " قسمتُ الصَّلاَةَ بَيْنِي وبَيْنَ عَبْدِي نِصْفَيْن ، فإذا قَالَ العَبْدُ : { الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } يقول الله تَعَالى : حَمِدَنِي عَبْدِي . . . " {[26]} ، إلى آخر الحديث .
وجه الاستدلال : أنه - تَعَالَى - حكم على كلّ صلاة بكونها بينه وبين العبد نصفين ، ثم بين أنّ هذا التصنيف لم يحصل إلاّ بسبب آيات هذه السورة ، ولازم اللازم لازم ، فوجب كون هذه السورة من لوازم الصلاة ، وهذا اللزوم{[27]} لا يحصل إلا إذا قلنا : قراءة الفاتحة شرط في صِحّة الصلاة .
السَّادس : قوله عليه الصلاة والسلام : " لا صَلاَةَ إلاَّ بِفَاتِحَةِ الكِتَابِ " .
قالوا : حرف النفي دخل على الصَّلاة ، ودخل على غير مُمْكِنٍ ، فلا بُدّ من صرفه إلى حكم من أحكام الصَّلاة ، وليس صرفه إلى الصِّحة أولى من صرفه إلى الكمال .
الأول : أنه جاء في بعض الرِّوَايات : " لا صَلاَةَ لِمَنْ لَمْ يَقْرَأ بِفَاتِحَةِ الكِتَابِ " ، وعلى هذه الرواية فالنَّفي ما دخل على الصَّلاة ، وإنما دخل على حصولها للرَّجل ، وحصولها للرجل عبارة عن انتفاعه بها ، وخروجه عن عُهْدَةِ التَّكْليف بسببها ، وعلى هذا التَّقدير فإنه يمكن إجراء حرف النَّفي على ظاهره .
الثاني : من اعتقدوا أن قراءة الفاتحة جزء من أجزاء ماهية الصلاة ، فعند عدم القراءة لا توجد ماهية الصلاة ؛ لأنّ الماهية تمنع حصولها حال عدم بعض أجزائها ، وإذا ثبت هذا فقولهم : إنه لا يمكن إدخال حرف النَّفي على مُسَمَّى الصلاة إنما يصح لو ثبت أن الفَاتحَةَ ليست جزءاً من الصّلاة ، وهذا [ هو ]{[28]} أول المسألة ، فثبت أن قولنا : يمكن إجراء هذه اللفظة على أنه متى تعذّر العمل بالحقيقة ، وحصل للحقيقة مجازان أحدهما : أقرب إلى الحقيقة ، والثاني : أبعد ؛ فإنه يجب حمل اللَّفظ على المَجَاز الأقرب .
إذا ثبت هذا فنقول : المُشَابهة بين المعدوم ، وبين الموجود الذي يكون صحيحاً [ أتم من المُشابَهة بين المعدوم وبين الموجود الذي لا يكون صحيحاً ]{[29]} ، لكنه لا يكون كاملاً ، فكان حمل هذا اللَّفظ على نفي الصِّحة أولى .
الحُجَّة السَّابعة : عن أبي هريرة - رضي الله تعالى عنه - عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " كُلّ صَلاَةٍ لم يقرأ فيها بِأُمِّ القُرْآنِ فهي خِدَاج ، فهي خداج " {[30]} أي غير تمام ، قالوا : الخِدَاجُ هو النقصان ، وذلك لا يدل على عدم الجواز .
قلنا : بل هذا يدلّ على عدم الجواز ؛ لأن التكليف بالصَّلاة دائم ، والأصل في الثابت ، البقاء ، خالفنا هذا الأصل عند الإتيان بالصَّلاة على صفة الكَمَالِ ، فعند الإتيان بها على سبيل النُّقصان يوجب ألاّ يخرج عن العُهْدَةِ ، والذي يقوي هذا أنَّ عند أبي حنيفة - رضي الله عنه - يصح الصوم في يوم العيد إلا أنه قال : لو صام يوم العِيدِ قضاء عن رَمَضَان لم يصح ؛ لأن الواجب عليه هو الصَّوم الكامل ، والصوم في هذا اليوم ناقص ، فوجب ألا يفيد هذا القضاء الخروج عن العُهْدَةِ .
وإذا ثبت هذا فنقول : فلم لم يقل بمثل هذا الكلام ها هنا ؟
الحُجّة الثامنة : نقل الشيخ أبو حامد في " تعليقه " عن ابن المُنْذِرِ{[31]} أنه روى بإسناده عن أبي هريرة - رضي الله تعالى عنه - أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " لا تُجْزِىء صَلاَةٌ لا يُقْرأ فيها بِفَاتِحَةِ الكِتَابِ " .
الحُجّة التاسعة : روى رفاعة بن مالك{[32]} - رضي الله عنه - أن رَجُلاً دخل المَسْجِد فصلّى ، فلما فرغ من صلاته ، ذكر في الخبر أن الرجل قال : علّمني الصَّلاة يا رسول الله ، فقال عليه الصلاة والسلام : " إذا تَوَجَّهْتُم إلى القِبْلَةِ فَكَبِّرُوا ، واقْرَءُوا بفاتحة الكِتَابِ " {[33]} ، وهذا أمر ، والأمر للوجوب .
الحُجّة العاشرة : " روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " ألا أخبركم بِسُورَةٍ ليس في التَّوْرَاة ولا في الإِنْجِيل ولا في الزَّبُور مثلها " ، قالوا : نعم ، قال : " فما تقرءونه في صَلاَتكم " ؟ فقالوا : الحمد لله ربّ العالمين ، قال : " هِيَ هِيَ " " .
وجه الدليل : " أنه - عليه الصلاة والسلام - لما قال : " ما تَقْرَءُونَهُ في صلاتكم " ؟ قالوا : الحمد لله رب العالمين " {[34]} ، وهذا يدل على أنه كان مشهوراً عند الصحابة - رضي الله عنهم - أنه لا يصلي أحد إلاّ بهذه السورة ، فكان هذا إجماعاً معلوماً عندهم .
الحُجّة الحادية عشرة : التمسُّك بقوله تعالى : { فَاقْرَءُواْ مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ } [ المزمل : 20 ] فهذا أمر ، والأمر للوجوب ، فهذا يقتضي أن قراءة ما تَيَسَّرَ من القرآن واجبةٌ .
فنقول : المراد بما تيسّر من القرآن ، إما أن يكون هو الفاتحة بعينها واجبة ، وهو المطلوب وإمّا يقتضي أن قراءة غير الفاتحة واجبة ، وذلك باطل بالإجماع ، أو يقتضي التخيير بين قراءة الفاتحة ، وبين قراءة غيرها وذلك باطل بالإجماع ، لأن الأمّة مجمعةٌ على أن قراءة الفاتحة أولى من قراءة غيرها .
وسلم أبو حنيفة أن الصلاة بدون قراءة الفاتحة خِدَاجٌ ناقصة ، والتخيير بين الناقص والكامل لا يجوز .
واعلم أنه إنما سمى قراءة الفاتحة لما تيسّر من القرآن ؛ لأن هذه السّورة محفوظة لجميع المكلّفين من المسلمين ، فهي متيسّرة للكل ، أما سائر السُّور فقد تكون محفوظة ، وقد لا تكون ، وحينئذٍ لا تكون متيسّرة للكلّ .
الحُجّة الثَّانية عشرة : الأصل بقاءُ التكليف ، فالقولُ بأنَّ الصَّلاةَ بدون قراءة الفاتحة يقتضي الخروج عن العهدة ، إما أنْ يعرف بالنَّص{[35]} أو بالقياس{[36]} .
[ لأن النص الذي تمسكوا به قوله تعالى :{ فَاقْرَءُواْ مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ }[ المزمل :20 ] وقد بينا أنه دليلنا .
وأما القياس ]{[37]} فباطل ؛ لأن التعبدّات غالبة على الصَّلاة ، وفي مثل هذه الصورة يجب ترك القياس .
الحُجّة الثالثة عشرة : أن النبي - عليه الصلاة والسلام - وَاظَبَ على الصَّلاة بها طول عمره ، فيكون قراءة غير الفاتحة ابتداعاً وتركاً للاتباع ، وذلك حرام لقوله صلى الله عليه وسلم : " اتَّبِعُوا وَلاَ تَبْتَدِعُوا " ، و " أَحْسَن الهَدْي هَدْيُ مُحَمّدٍ ، وَشَرّ الأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا " {[38]} .
واحتج أبو حنيفة - رضي الله تعالى عنه - بالقرآن والخبر .
أما القرآن الكريم فقوله تبارك وتعالى : { فَاقْرَءُواْ مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ } [ المزمل :20 ] .
وأما الخبر فما روى أبو عثمان النهدي{[39]} عن أبي هريرة - رضي الله تعالى عنهما - قال " أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أخرج وأنادي : لا صَلاَةَ إلا بِقَرَاءَةٍ ، ولو بفاتحة الكِتَاب " {[40]} .
والجواب عن الأول : أنا بَيّنا أنّ هذه الآية من أقوى الدلائل على قولنا .
وعن الثاني : أنه معارض بما نقل عن أبي هريرة ، وأيضاً لا يجوز أن يقال : المراد من قوله : " لا صَلاَةَ إلا بقراءة ، ولو بفاتحة الكتاب " وهو أنه لو اقتصر على الفاتحة لكفى .
قال ابن الخطيب - رحمه الله - : نقل في بعض الكتب القديمة أن ابن مسعود - رضي الله عنه - كان ينكر كَوْنَ سورة الفاتحة من القرآن الكريم ، وكان ينكر كون المُعَوّذتين من القرآن .
واعلم أن هذا في غاية الصعوبة ؛ لأنا إن قلنا : إن النقل المتواتر كان حاصلاً في عصر الصحابة{[59]} بِكَوْنِ سورة الفاتحة من القرآن ، فحينئذٍ كان ابن مسعود - رضي الله عنه - عالماً بذلك فإنكاره يوجب الكُفْر أو نقصان العقل .
وإن قلنا : النقل المتواتر ما كان حاصلاً في ذلك الزمان فهذا يقتضي أن يقال : إن نقل القرآن ليس بمتواترٍ في الأصل ، وذلك يخرج القرآن عن كونه حُجَّةً يقينية .
والأغلب على الظن أن يقال : هذا المذهب عن ابن مسعود نَقْلٌ كاذِبٌ باطل ، وبه يحصل الخلاص عن هذه العُقْدَةِ ، والله الهادي إلى الصواب ، إليه يرجع الأمر كله في الأول والمآب .