قال القُرطبيُّ{[2458]} في الكلام تقدير واو العطف ، أي : { وَكُتِبَ عَلَيْكُمْ } ، فلما طال الكلامُ ، سقطَت الواو ، ومثله في بعض الأَقوال :
{ لاَ يَصْلاَهَآ إِلاَّ الأَشْقَى الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى } [ الليل : 15 ، 16 ] ، أي : والذي تَوَلَّى فحذف .
وقوله : " كُتِبَ " مبنيٌّ للمفعول ، وحذف الفاعل للعلم به ، وهو الله تعالى وللاختصار .
وفي القائم مقام الفاعل ثلاثةُ أوجُه :
أحدها : أن يكون الوصيَّة ، أي : " كتِبَ عَلَيْكُمْ الوصِيَّة " وجاز تذكير الفعل لوجهين :
أحدها : كونُ القائمِ مقامَ الفاعل مؤنَّثاً مجازياً .
والثاني : الفصل بيْنه وبيْن مَرْفُوعه .
والثاني : أنَّهُ الإيصاءُ المدلُول عليه بقوله : { الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ } أي : كُتِبَ هو أي : الإيصاءُ ، وكذلك ذكرُ الضَّمير في قوله : { فَمَن بَدَّلَهُ بَعْدَمَا سَمِعَهُ } [ البقرة : 181 ] وأيضاً : أنَّه ذكر الفِعلْل ، وفصل بيْن الفِعل والوصيَّة ؛ لأَنَّ الكلام ، لمَّا طال ، كان الفَاصِلُ بين المؤنَّث والفعْل ، كالمعوَّض من تاءِ التَّأنيث ، والعَرَبُ تَقُولُ : حَضَرَ القاضِيَ امرأَةٌ فيذكرون ؛ لأنَّ القَاضِي فصَل بيْن الفعل وبيْن المرأة .
والثَّالِثُ : أنه الجارُّ والمجرُور ، وهذا يتَّجِه على رأي الأخفش ، والكوفيين ، و " عَلَيْكُم " في محلِّ رفع على هذا القول ، وفي محلِّ نَصبٍ على القولَين الأَوَّلين .
قوله تعالى : " إذَا حَضَر " العامل في " إِذَا " كُتِبَ " على أَنَّها ظَرف مَحْض وليس متضمِّناً للشَّرط ، كَأَنَّهُ قيل : " كُتِبَ عَلَيْكُمْ الوَصِيَّةُ وَقْتَ حُضُورِ المَوْتِ " ولا يجوز أنْ يكُون العامل فيه لفظ " الوَصيَّة " ؛ لأنَّها مصدرٌ ، ومعمولُ المصدر لا يتقدَّم عليه لانحلاله لموصولٍ وصلةٍ ، إلاَّ على مَذِهب منَ يَرَى التَّوسُّع في الظَّرف وعديله ، وهو أبو الحسن ؛ فإنَّه لا يَمْنعُ ذلك ، فيكُون التَّقْديِرُ : " كُتِبَ عَلَيْكمْ أنْ توصوا وقت حضور الموت " .
وقال ابنُ عطيَّة{[2459]} ويتَّجِه في إعراب هذه الآية الكريمة : أن يكون " كُتِبَ " هو العامِلَ في " إِذَا " ، والمعنى : " تَوَجَّه علَيْكم إيجابُ اللَّهِ ، ومقتضى كتابِهِ ، إذا حَضَر " فعبّر عن توجُّه الإيجاب ب " كُتِبَ " لينتظم إلى هذا المعنى : أَنَّهُ مكتوبٌ في الأَزَلِ ، و " الوَصِيَّة " مفعولٌ لم يسمَّ فاعلُه ب " كُتِبَ " وجواب الشَّرطين " إِنْ " و " إِذَا " مقدَّر يدلُّ عليه ما تَقَدَّم مِنْ قوله " كُتِبَ " .
قال أبو حيان{[2460]} وفي هذا تناقصٌ ؛ لأنَّهُ جعل العَامِل في " إِذَا " " كُتِبَ " ، وذلك يستلزمُ أن يكُون إذا ظرفاً محضاً غيرَ متضمِّن للشَّرطِ ، وهذا يناقضُ قوله : " وجواب " إذا و " إن " محذوف ؛ لأنَّ إذا الشَّرطية لا يعملُ فيها إلاّ جوابُها ، أو فعلُها الشرطيُّ ، و " كُتِبَ " : ليْسَ أحدهُمَا ، فإن قيل : قومٌ يُجِيزُون تقدِيم جوابِ الشَّرط ، فيكُونُ " كُتِبَ " هو الجوابَ ، ولكنَّهُ تَقَدَّم ، وهو عاملٌ في " إِذَا " ، فيكون ابنُ عطيَّة يقُول بهذا القَوْل .
فالجواب : أَنَّ ذلك لا يجوزُ ؛ لأنَّه صرَّح بأَنَّ جوابها محذوفٌ مدلولٌ عليه ب " كُتِبَ " ، ولم يجعل " كُتِبَ " هو الجوابَ ، ويجوزُ أن يكُونَ العَامِلُ في " إِذَا " الإيصاءَ المفهوم مِنْ لفظ " الوَصِيَّة " ، وهو القائمُ مقام الفاعِل في " كُتِب " ؛ كما تقدَّم .
قال ابن عطيَّة في هذا الوجه : ويكُونُ هذا الإيصاءُ المُقدَّر الذي يَدُلُّ عليه ذكرُ الوصيَّة بعد هو العَاملَ في " إِذَا " ، وترتفع " الوَصِيَّةُ " بالابتداء ، وفيه جوابُ الشَّرطيْن ؛ على نحو ما أنشَدَه سيبويه : [ البسيط ]
919 - مَنْ يَفْعَلِ الصَّالِحَاتِ اللَّهُ يَحْفَظُهُ *** . . . {[2461]}
ويكونُ رفْعُها بالابتداءِ ، أي : فعليه الوصيَّة ؛ بتقدير الفَاءِ فقط ؛ كأنَّهُ قال : " فالوصِيَّةُ للوالدَيْنِ " ، وناقشه أَبو حيَّان مِنْ وجوه :
أحدها : أَنَّهُ متناقض من حيثُ إنَّهُ إذا جعل " إِذَا " معمولةً للإيصاء المُقدر ، تمحَّضت للظَّرْفية ، فكيف يُقَدَّر لها جوابٌ ؛ كما تقدَّم تحريره .
والثاني : أنَّ هذا الإيصاءَ إما أن تقدِّر لفظه محذوفاً ، أو تضمره ، وعلى كلا التَّقديرين ، فلا يعمل ؛ لأَنَّ المصدر شرطُ إعماله ألاَّ يُحذَف ، ولا يضمر عند البصريِّين ، وأيضاً : فهو قائمٌ مقام الفاعل ؛ فلا يحذف .
الثَّالث : قوله " جَوَابُ الشَّرْطيْنِ " والشيء الواحد لا يكُون جواباً لاثَنَين ، بل جواب كلِّ واحدٍ مستقلٌّ بقدره .
الرابع : جعلهُ حذفَ الفاءِ جائزاً في القُرآن ، وهذا نصُّ سيبويه{[2462]} على أَنَّهُ لا يجوزُ إلا ضرورةً ، وأنشد : [ البسيط ]
920 - مَنْ يَفْعَلِ الحَسَنَاتِ اللَّهُ يَشْكُرُهَا *** وَالشَّرُّ بالشَّرِّ عِنْدَ اللَّهِ سِيّانِ{[2463]}
وإنشاده : " من يفعل الصالحات الله يحفظه " يجوز أَنْ يكون روايةً إلاَّ أنَّ سيبَويْه{[2464]} لم يُنْشِدْه كذا ، بل كما تقدَّم ، والمُبرِّد روى عنه : أنَّه لا يجيز حذف الفاء مطلقاً ، لا في ضرورةٍ ، ولا غيرها ، ويرويه : " مَنْ يَفْعَلِ الخَيْرَ ، فالرَّحْمنُ يَشْكُرُهُ " وردَّ النَّاس عليه بأنَّ هذه ليست حجّةً على رواية سيبَويْهِ .
ويجوز أنَّ تكون " إِذَا " شرطيَّةً ؛ فيكون جوابُها وجوابُ " إِنْ " محذوفَيْن ، وتحقيقُه أَنَّ جوابَ " إِنْ " مقدرٌ ، تقديرُه : " كُتِبَ الوصيَّةُ على أحدِكُمْ إذا حضره الموتُ ، إنْ ترك خَيْراً ، فَلْيُوصِ " ، فقوله : " فَلْيُوصِ " جواب ل " إِنْ " ؛ حُذِفَ لدلالة الكلام عليه ، ويكون هذا الجوابُ المقدَّر دالاًّ على جواب " إِذَا " فيكون المحذُوف دالاًّ على محذوف مثله .
وهذا أَوْلَى مِنْ قَوْل من يَقُولُ : إنَّ الشَّرط الثَّاني جواب الأَوَّل ، وحُذِفَ جواب الثَّاني ، وأولى أيضاً مِنْ تقدير مَنْ يقدِّره في معنى " كُتِبَ " ماضي المعنى ، إلاَّ أن يؤوِّله بمعنَى : " يتوجَّه علَيْكُمْ الكَتْبُ ، إن تَرَكَ خَيْراً " .
قوله " الوَصِيّة " فيه ثلاثةُ أوجُهٍ :
أحدها : أن يكُونَ مبتدأً ، وخبره " لِلْوَالِدَيْنِ " .
والثاني : أنَّهُ مفعول " كُتِبَ " ، وقد تقدَّم .
والثالث : أنَّهُ مبتدأٌ ، خبره محذوف ، أي : " فعلَيْهِ الوصيَّةُ " ، وهذا عند مَنْ يجيزُ حذف فاء الجَوابِ ، وهو الأخفشُ ؛ وهو محجوجٌ بنقل سيبَوَيْهِ{[2465]} .
قوله { إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ . . } ليْس المرادُ منْه معاينةَ الموْتِ ؛ لأَنَّ ذلك الوقْت يكُون عاجزاً عن الإيصاء ، ثم ذكر في ذلك وجهَين :
أحدهما : وهو المَشهور أنَّ المرادَ حُضُور أمارةِ المَوت ؛ كالمَرَض المَخُوف ؛ كما يقال فيمن يخافُ علَيه المَوْت حَضَرهُ المَوْتُ ويقالُ لِمَنْ قارب البَلَد : " وَصَلَ " ؛ قال عنترة : [ الوافر ]
921 - وَإِنَّ المَوْتَ طَوْعُ يَدِي إِذَا ما *** وَصَلْتُ بَنَانَها بِالْهِنْدُوَانِي{[2466]}
وقال جَرِيرُ ، يهْجُو الفَرَزدَق [ الوافر ]
922 - أَنَا الْمَوْتُ الَّذِي حُدِّثْتَ عَنْهُ *** فَلَيْسَ لِهَارِبٍ مِنِّي نَجَاءٌ{[2467]}
والثاني : قال الأصمُّ{[2468]} : إِنَّ المُرَادَ : فَرَضْنَا عَليْكُم الوصِيَّة في حَالِ الصِّحَّة بأن تقُولُوا : " إِذا حَضَرَنا المَوْتُ ، فافْعَلُوا كذا " .
المرادُ بالخَير هنا المالُ ؛ كقوله : { وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ } [ البقرة : 272 ] { وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ } [ العاديات : 8 ] { مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ } [ القصص : 24 ] قال أبو العبَّاس المُقرىءُ : وقد وَرَدَ لفظ " الخَيْر " في القرآن بإزاء ثمانية معان :
الأَوَّل : الخَيْرُ : المالُ ؛ كهذه الآية .
الثاني : الإيمانُ ، قال تعالى : { وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لأَسْمَعَهُمْ } [ الأنفال : 23 ] أي : إيماناً ، وقوله { إِن يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً } [ الأنفال : 70 ] ، يعني : إيماناً .
الثالث : الخير الفضل ؛ ومنه قوله : " خَيْرُ الرَّازِقِينَ " " خَيْرُ الرَّاحِمِينَ " " خَيْر الحَاكِمِينَ " .
الرابع : الخير : العافية ؛ قال تعالى : { وَإِن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ } [ يونس : 107 ] ، أي : بعافية .
الخامس : الثَّواب قال تعالى : { وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِّن شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ } [ الحج : 36 ] ، أي : ثواب وأجر .
السادس : الخير : الطَّعام ؛ قال : { إِنِّي لِمَآ أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ } [ القصص : 24 ] .
السابع : الخير : الظَّفر والغنيمة ؛ قال تعالى : { وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُواْ خَيْراً } [ الأحزاب : 25 ] .
الثامن : الخير : الخيل ؛ قال تعالى : { أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَن ذِكْرِ رَبِّي } [ ص : 32 ] ، يعني : الخيل .
فقال الزهريُّ{[2469]} : لا فرق بين القليل ، والكثير ، فالوصيَّة واجبة في الكلِّ ، لأن المال القليل خير ؛ لقوله تعالى : { فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ } [ الزلزلة : 7 - 8 ]
{ إِنِّي لِمَآ أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ }
[ القصص : 24 ] والخير : ما ينتفع به ، والمال القليل كذلك ، وأيضاً : قوله تعالى في المواريث :
{ لِّلرِّجَالِ نَصيِبٌ مِّمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَآءِ نَصِيبٌ مِّمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ }
[ النساء : 7 ] فتكون الوصية كذلك .
الثاني : أن الخير هو المال الكثير ؛ لأن من ترك درهماً لا يقال ترك خيراً ، ولا يقال : فلانٌ ذو مالٍ ، إلاَّ أن يكون ماله مجاوزاً حدَّ الحاجة ، ولو كان الوصيَّة واجبةً في كلِّ ما يترك ، سواء كان قليلاً أو كثيراً ، لما كان التقييد بقوله : { إِنْ تَرَكَ خَيْراً } كلاماً مفيداً ؛ لأنَّ كلَّ أحدٍ لا بُدَّ وأن يترك شيئاً ، وأمَّا من يموت عرياناً ، ولا يبقى منه كسرة خبزٍ فذلك في غاية النُّدرة ، وإذا ثبت أن المراد بالخير هنا المال الكثير ، فهل هو مقدَّر ، أم لا ؟ فيه قولان :
الأول : أنه مقدَّر ، واختلفوا في مقداره ؛ فروي عن عليٍّ - رضي الله عنه - : أنه دخل على مولى لهم في الموت ، وله سبعمائة درهم ، فقال أَوَلاَ أوصي ؟ فقال : لا ؛ إنَّما قال الله : { إِنْ تَرَكَ خَيْراً } والخير : هو المال الكثير ، وليس لك مالٌ .
وعن عائشة : أنَّ رجلاً قال لها : إنِّي أريد أن أوصي ، قالت : كم مالك ؟ قال : ثلاثة آلافٍ ، قالت : كم عيالك ؟ قال أربعٌ ، قالت : قال الله تعالى : { إِن تَرَكَ خَيْراً } وإن هذا يسير ، فاتركه لعائلتك ، فهو أفضل{[2470]} .
وعن ابن عبَّاس : " إذا ترك سبعمائة درهم ، فلا يوصي ، فإن بلغ ثمانمائة درهمٍ ، أوصى{[2471]} " وعن قتادة : ألف ردهمٍ{[2472]} ، وعن النَّخعيِّ : من ألفٍ وخمسمائة درهم{[2473]} .
وقال قوم : إنه غير مقدَّر بمقدار معيَّن بل يختلف باختلاف حال الرجال{[2474]} .
فصل في تحرير معنى " الوصيَّة " .
قال القُرْطُبيُّ{[2475]} : و " الوصيَّة{[2476]} " عبارةٌ عن كلِّ شيءٍ يؤمر بفعله ، ويعهد به في الحياة ، وبعد الموت ، وخصَّصها العرف بما يعهد بفعله ، وتنفيذه بعد الموت ، والجمع وصايا ، كالقضايا جمع قضيَّة ، والوصيُّ يكون الموصي ، والموصى إليه ؛ وأصله من وصى مخفَّفاً وتواصى النَّبت تواصياً ، إذا اتصل ، وأرض واصية : متَّصلة النّبات ، وأوصيت له بشيءٍ ، وأوصيت إليه ، إذا جعلته وصيَّك ، والاسم الوِصاية والوَصاية بالكسر والفتح ، وأوصيته ، ووصَّيته أيضاً توصيةً بمعنًى ؛ والاسم الوصاة ، وتواصى القومُ أوصى بعضهم بعضاً ، وفي الحديث " استوصوا بالنِّساء خيراً ؛ فإنهنَّ عَوَانٍ عِنْدَكُمْ " ووصَّيتُ الشيء بكذا ، إذا وصَّلته به .
فصل في سبب كون الوصية للوالدين والأقربين
اعلم : أن الله تعالى بيَّن أن الوصية الواجبة للوالدين والأقربين . قال الأصمُّ{[2477]} : وذلك أنَّهم كانوا يوصون للأبعدين طلباً للفخر والشَّرف ، ويتركون الأقارب في الفقر ، والمسكنة ؛ فأوجب الله تعالى في أول الإسلام الوصيَّة لهؤلاء .
وقال ابن عبَّاس ، وطاوسٌ ، وقتادة ، والحسن : إنَّ هذه الوصيَّة كانت واجبةٌ قبل آية المواريث للوالدين والأقربين من يرث منهم ، ومن لا يرث ، فلما نزلت آية المواريث ، نسخت وجوبها في حقِّ الوارث ، وبقي وجوبها في حقِّ من لم يرث{[2478]} ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إنَّ اللَّهَ قَدْ أَعْطَى كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ ، فَلاَ وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ{[2479]} " .
وقال طاوس : من أوصى لقومٍ ، وترك ذوي قرابة محتاجين ، انتزعت منهم ، وردت في ذوي قرابته .
وذهب الأكثرون إلى أن الوجوب صار منسوخاً في حقِّ الكافَّة ، وهي مستحبَّة في حقِّ الذين لا يرثون .
روى مالك ، عن نافع ، عن ابن عمر : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " ما حَقُّ امرِىءِ مُسْلِمٍ لَهُ شَيْءٌ يريد أن يُوصِيَ فيه ، يَبِيتُ لَيْلَتَيْنِ إلاَّ وَوَصِيَّتُهُ مَكْتُوبَةٌ عِنْدَهُ{[2480]} " .
وقال بعضهم : إن الوصيَّة لم تكن واجبةً ، وإنما كانت مندوبةً ، وهي على حالها لم تنسخ ، وسيأتي الكلام عليه قريبا - إن شاء الله تعالى - .
قوله : " بِالمَعْرُوفِ " : يجوز فيه وجهان :
أحدهما : أن يتعلَّق بنفس الوصيَّة .
والثاني : أن يتعلَّق بمحذوفٍ على أنَّه حالٌ من الوصيَّة ، أي : حال كونها ملتبسة بالمعروف ، لا بالجور .
يحتمل أن يكون المراد منه قدر ما يوصى به ، فيسوَّى بينهم في العطيَّة ، ويحتمل ان يكون المراد من المعروف ألاَّ يعطي البعض ، ويحرم البعض ؛ كما إذا حرم الفقير ، وأوصى للغنيِّ ، لم يكن ذلك معروفاً ، ولو سوَّى بين الوالدين مع عظم حقهما ، وبين بني العمِّ ، لم يكن معروفاً ، فالله تعالى كلَّفه الوصيَّة ؛ على طريقة جميلة خالية عن شوائب الإيحاش ، ونقل عن ابن مسعود : أنه جعل هذه الوصيَّة للأفقر فالأفقر من الأقرباء{[2481]} .
وقال الحسن البصريُّ : هم والأغنياء سواء{[2482]} .
وروي عن الحسن أيضاً ، وجابر بن زيدٍ ، وعبد الملك بن يعلى{[2483]} : أنهم قالوا فيمن يوصي لغير قرابته ، وله قرابةٌ لا ترثه ، قالوا : نجعل ثُلثي الثُّلث لذوي قرابته ، وثلث الثُّلث للموصى له ، وتقدَّم النَّقل عند طاوس أنَّ الوصيَّة تنزع من الأجنبيِّ ، وتعطى لذوي القرابة{[2484]} .
وقال بعضهم : قوله : " بِالمَعْرُوفِ " : هو ألاَّ يزيد على الثُّلث ، روي عن سعد بن مالك ، قال : " جاءني النبيُّ صلى الله عليه وسلم يعودني ، فقلت : يا رسول الله ، قد بلغ بي من الوجع ما ترى ، وأنا ذو مالٍ ، ولا يرثني إلاَّ ابنتي ، فأوصي بثلثي مالي ؟ وفي روايةٍ : " أُوصِي بِمَالِي كُلِّه " قال :لا ، قُلْتُ : بالشَّطْر ؛ قال : لا ، قلت فالثُّلُث ، قال : الثُّلُثُ ، والثُّلُثُ كثير ؛ إنك إن تدع ورثتك أغنياء خير من أن تدعهم عالةً يتكفَّفون الناس " {[2485]} .
وقال [ عليٌّ : لأن أوصي بالخمس أحبُّ إليَّ من أن أوصي بالربع ، ولأن أوصي بالربع أحبُّ إليَّ من أن أوصي بالثُّلث ، فلم أوصي بالثُّلث ، فلم يترك " ]{[2486]} .
وقال الحسن : نوصي بالسُّدس ، أو الخمس ، أو الرُّبع .
وقال الفارسيُّ : إنما كانوا يوصون بالخمس والرُّبع .
وذهب جمهور العلماء إلى أنه لا يجوز أن يوصي بأكثر من الثُّلث ، إلاَّ أصحاب الرأي ، فإنهم قالوا : إن لم يترك الوصيُّ ورثةً ، جاز له أن يوصي بماله كله .
وقالوا : إنَّما جاز الاقتصارعلى الثُّلث في الوصيَّة ؛ لأجل أن يدع ورثته أغنياء .
قوله " حَقّاً " في نصبه ثلاثة أوجهٍ :
أحدها : أن يكون نعتاً لمصدر محذوف ، ذلك المصدر المحذوف : إما مصدر " كُتِبَ " ، أو مصدر " أَوْصَى " ، أي : " كَتْباً حَقّاً " أو " إيصاءً حَقّاً " .
الثاني : أنه حالٌ من المصدر المعرَّف المحذوف ، إما مصدر " كُتِبَ " ، أو " أوصى " ؛ كما تقدَّم .
الثالث : أن ينتصب على أنَّه مؤكِّدٌ لمضمون الجملة ؛ فيكون عاملة محذوفاً ، أي : حُقَّ ذلك حَقّاً ، قاله الزمَّخشرِيُّ ، وابن عطيَّة ، وأبو البَقَاء{[2487]} .
قال أبو حَيَّان{[2488]} : وهذا تَأْبَاهُ القَوَاعِدُ النَّحْوِيَّة ؛ لأن ظاهر قوله " على المُتَّقِينَ " أن يتعلَّق ب " حَقّاً ، أو يكون في موضع الصفة له ، وكلا التقديرين لا يجوز .
أما الأول ؛ فلأنَّ المصدر المؤكِّد لا يعمل ، وأما الثاني ؛ فلأنَّ الوصف يخرجه عن التَّأكيد .
قال شهاب الدِّين{[2489]} : وهذا لا يلزمهم ؛ فإنهم ، والحالة هذه ، لا يقولون : إنَّ " عَلَى المُتَّقِينَ " متعلِّق به ، وقد نصَّ على ذلك أبو البَقَاءِ - رحمه الله - ؛ فإنه قال : وقيل : هو متعلِّق بنفس المصدر ، وهو ضعيفٌ ؛ لأنَّ المصدر المؤكِّد لا يعمل ، وإنَّما يعمل المصدر المنتصب بالفعل المحذوف ، إذا ناب عنه ؛ كقولك " ضَرباً زيداً " ، أي : " اضْرِبْ " إلاَّ أنه جعله صفة ل " حقّ " فهذا يرد عليه ، وقال بعض المعربين : إنه مؤكد لما تضمَّنه معنى المتقين : كأنَّه قيل " عَلَى المُتَّقِينَ حَقّاً " ؛ كقوله : { أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقّاً }
[ الأنفال : 74 ] وهذا ضعيف ؛ لتقدمه على عامله الموصول ، ولأنه لا يتبادر إلى الذِّهن .
قال أبو حيَّان{[2490]} : والأولى عندي : أن يكون مصدراً من معنى " كُتِبَ " ؛ لأن معنى " كُتِبَ الوَصِيَّةُ " ، أي : حقَّت ووجبت ، فهو مصدر على غير الصدر ، نحو : " قَعَدت جُلُوساً " .
فإن قيل : ظاهر هذا التَّكليف يقتضي تخصيص هذا التَّكليف بالمتَّقين ، دون غيرهم ؟
فالجواب أن المراد بقوله تعالى : { حَقّاً عَلَى الْمُتَّقِينَ } أنَّه لاَزِمٌ لمن آثر التقوى ، وتحرَّاه ، وجعله طريقةٌ له ومذهباً ، فيدخل الكل فيه .
وأيضاً : فإن الآية الكريمة وإن دلَّت على وجوب هذا المعنى على المتقين ، فالإجماع دلَّ على أنَّ الواجبات والتَّكاليف عامَّةٌ في حقِّ المتَّقين وغيرهم ، فبهذا الطَّريق يدخل الكلُّ تحت هذا التَّكليف .
فصل في اختلافهم في تغيير المدبر وصيته
قال القُرْطُبيُّ{[2491]} : أجمعوا على أن للإنسان أن يغيِّر وصيَّته ، ويرجع فيما شاء منها إلاَّ أنهم اختلفوا في المدبر{[2492]} .
فقال مالك : الأمر المجمع عليه عندنا : أن الموصي ، إذا أوصى في صحَّته ، أو مرضه بوصيَّةٍ ، فيها عتق رقيق ، فإنه يغيِّر من ذلك ما بدا له ، ويصنع من ذلك ما يشاء حتى يموت ، وإن أحبَّ أن يطرح تلك الوصيَّة ، ويسقطها فَعَل ، إلاَّ أن يدبِّر ، فإن دبَّر مملوكاً ، فلا سبيل له إلى تغيير ما دبَّر .
قال أبو الفرج المالكيُّ : المدبِّر في القياس كالمعتق إلى شهر ؛ لأنه أجلٌ آتٍ لا محالة ، وأجمعوا على أنَّه لا يرجع في اليمين بالعتق ، والعتق إلى أجلٍ ؛ فكذلك المدبِّر ، وبه قال أبو حنيفة ، وقال الإمام الشافعيُّ وإسحاق وأحمد : هو وصيَّةٌ .
اختلفوا في الرَّجل ، يقول لعبده : " أنْتَ حُرٌّ بَعْدَ موْتِي " ، وأراد الوصيَّة ، فله الرُّجوع عند مالك ، وإن قال : " فُلاَنٌ مُدَبَّرٌ بَعْدَ مَوْتِي " لم يكن له الرُّجُوع فيه ، فإن أراد التدبير لقوله الأول ، لم يرجع أيضاً عند أكثر أصحاب مالك ، وأما الشَّافِعيُّ ، وأحمد ، وإسحاق ، وأبو ثور ، فهذا كلُّه عندهم وصيَّةٌ ؛ لأنَّه في الثُّلث ، وكلُّ ما كان في الثُّلث ، فهو وصيَّة ، إلا أن الشافعيَّ قال : لا يكون له الرُّجوع في المدبَّر إلاَّ بأن يخرجه عن ملكه ببيعٍ أو هبةٍ ، وليس قوله : " فَقَدْ رَجَعْتُ " رجوعاً .
اختلفوا في رجوع المجيزين للوصيَّة للوارث في حياة الموصي ، وبعد وفاته .
فقالت طائفة : ذلك جائز عليهم ، وليس لهم الرجوع ، وهو قول عطاء بن أبي رباحٍ ، وطاوسٍ ، والحسن ، وابن سيرين ، وابن أبي ليلى ، والزهريِّ ، وربيعة ، والأوزاعي{[2493]} ، وقيل : لهم الرجوع ، إن أحبُّوا ، وهو قول ابن مسعود ، وشريحٍ ، والحكم ، والثوريِّ ، والحسن بن صالح ، وأبي حنيفة ، والشافعي ، وأحمد وأبي ثورٍ وابن المنذر{[2494]} .
وقال مالك : إن أذنوا في صحته ، فلهم الرجوع ، وإن أذنوا في مرضه ، فذلك جائز عليهم ، وهو قول إسحاق .
فصل في الحجر على المريض في ماله
وذهب الجمهور إلى أنَّه يحجر على المريض في ماله{[2495]} .
وقال أهل الظاهر : لا يحجر عليه ، وهو كالصَّحيح .
فصل في توقُّف الوصيَّة على إجازة الورثة
إذا أوصى لبعض ورثته بمالٍ ، وقال في وصيَّته : إن أجازها الورثة ، فهي لك ، وإن لم يجيزوها ، فهو في سبيل الله ، فلم يجزها الورثة ، فقال مالك : مرجع ذلك إليهم .
وقال أبو حنيفة ، ومعمر ، والشافعي في أحد قوليه : يمضي في سبيل الله ، والله أعلم .
من النَّاس من قال : إن الوصيَّة كانت واجبةً ؛ واستدلَّ بقوله كتب وبقوله " عَلَيْكُمْ " وأكد الإيجاب بقوله : { عَلَى الْمُتَّقِينَ } ، وهؤلاء اختلفوا : فمنهم من قال صارت هذه الآية منسوخة .
وقال أبو مسلم{[2496]} : إنها لم تنسخ من وجوه .
أحدها : أن هذه الآية الكريمة ليست مخالفة لآية المواريث ، ومعناه : " كُتِبَ عَلَيْكُمْ ما وَصَّى به اللَّه ؛ من توريث الوَالِدَيْن والأقْرَبِينَ ، ومِنْ قوله : { يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ } [ النساء : 11 ] أو كتب على المحتضر أن يوصي للوالدين والأقربين ؛ بتوفير ما وصَّى به الله عليهم ، وألاَّ ينقص من أنصبائهم " .
وثانيها : أنه لا منافاة بين ثبوت الميراث بحكم الآيتين .
وثالثها : لو قدرنا حصول المنافاة ، لكان يمكن جعل آية المواريث لإخراج القريب الوارث ، ويبقى القريب الذي لا يكون وارثاً داخلاً تحت هذه الآية ؛ وذلك لأن من الوالدين من يرث ، ومنهم من لا يرث بسبب اختلاف الدِّين أو الرِّقِّ ، أو القتل ، ومن الأقارب الذين لا يسقطون في فريضة : من لا يرث بهذه الأسباب الخارجية ومنهم : من يسقط في حال ، ويثبت في حال ، ومنهم : من يسقط في كل حالٍ .
فمن كان من هؤلاء وارثاً ، لم تجز الوصيَّة له ، ومن كان منهم غير وارث ، صحَّت الوصيَّة له ، وقد أكَّد الله تعالى ذلك بقوله :
{ وَاتَّقُواْ اللَّهَ الَّذِي تَسَآءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ } [ النساء : 1 ] ، وبقوله :
{ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإحْسَانِ وَإِيتَآءِ ذِي الْقُرْبَى } [ النحل : 90 ] ، والقائلون بالنسخ : اختلفوا بأي دليل صارت منسوخة ، فقال بعضهم{[2497]} : بإعطاء الله أهل المواريث كل ذي حقٍّ حقَّه .
قال ابن الخطيب{[2498]} وهذا بعيد ؛ لأنه لا يمتنع مع قدر من الحق بالميراث وجوبُ قدر آخر بالوصيَّة ، وأكثر ما يوجبه ذلك التَّخصيص ، والنَّسخ{[2499]} .
فإن قيل : لا بدَّ وأن تكون منسوخة في حقِّ من لم يخلف إلا الوالدين من حيث يصير كلُّ المال حقّاً لهم ؛ بسبب الإرث ، فلا يبقى للوصيَّة شيءٌ ؟ !
فالجواب : أن هذا تخصيص ، لا نسخ .
وقال بعضهم{[2500]} أيضاً : إنها نسخت بقوله - عليه السَّلام - ، " لا وَصِيَّةَ لَوَارِثٍ " ، وفيه إشكالٌ ؛ من حيث إنَّه خبر واحد ، فلا يجوز نسخ القرآن به{[2501]} ، فإن قيل : بأنه ، وإن كان خبر واحد ، إلاَّ أن الأمَّة تلقَّته بالقبول ، فالتحق بالمتواتر .
فالجواب : سلَّمنا أن الأمَّة تلقَّته بالقبول ، لكن على وجه الظَّنِّ ، أو على وجه القطع ؟ فإن كان على وجه الظَّنِّ ، فمسلَّم إلاَّ أن ذلك يكون إجماعاً منهم على انه خبر واحد ، فلا يجوز نسخ القرآن به ، وإن كان على وجه القطع فممنوع ؛ لأنهم لو قطعوا بصحَّته ، مع أنه من باب الآحاد ، لكانوا قد أجمعوا على الخطأ ، وإنه غير جائزٍ .
وقال آخرون : إنها نسخت بالإجماع ، والإجماع يجوز أن ينسخ به القرآن ؛ لأن الإجماع يدلُّ على أن الدَّليل النَّاسخ كان موجوداً إلاَّ أنهم اكتفوا بالإجماع عن ذكر ذلك الدَّليل ، ولقائل أن يقول : لمَّا ثبت أن في الأمة من أنكر وقوع هذا النسخ ؛ فحينئذٍ : لم يثبت الإجماع .
وقال قوم : نسخت بدليلٍ قياسيٍّ ، وهو أن نقول : هذه الوصية ، لو كانت واجبةً ، لكانت ، إذا لم توجد هذه الوصيَّة ، يجب ألاَّ يسقط حقُّ هؤلاء الأقربين ، وقد رأيناهم سقطوا لقوله تعالى في آية المواريث
{ مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَآ أَوْ دَيْنٍ }
[ النساء : 12 ] فظاهره يقتضي أنه إذا لم يكن وصيَّةٌ أو دينٌ ، فالمال أجمع للوارث .
ولقائل أن يقول : نسخ القرآن بالقياس غير جائزٍ .
قال القرطبيُّ{[2502]} : قوله تعالى " حَقًّا " أي : ثابتاً ثبوت نظرٍ ، وتحصين ، لا ثبوت فرضٍ ووجوبٍ ؛ بدليل قوله : " عَلَى المُتَّقِينَ " وهذا يدل على كونه مندوباً ؛ لأنه لوكان فرضاً ، لكان على جميع المسلمين ، فلما خصَّ الله تعالى المُتَّقِي ، وهو من يخاف التَّقصير ، دلَّ على أنه غير لازم لغيره .
قال أكثر المفسرين إنها نسخت في حقِّ من يرث ومن لا يرث .
وقال بعض المفسِّرين من الفقهاء : إنَّها نسخت في حقِّ من يرث ، وثابتة في حقِّ من لا يرث ، وهو مذهب ابن عبَّاس والحسن ، ومسروق ، وطاوسٍ ، والضَّحَّاك ، ومسلم بن يسارٍ ، والعلاء بن زياد .
قال طاوس : إن من أوصى للأجانب ، وترك الأقارب ، نزع منهم ، وردَّ إلى الأقارب ؛ لوجوب الوصيَّة عند هؤلاء ، والباقي للقريب الذي ليس بوارث .
واستدلُّوا بأنَّ هذه الآية دالَّة على وجوب الوصيَّة للقريب ، سواء كان وارثاً ، أو غير وارث ، ترك العمل به في حقِّ القريب الوارث ، إما بآية المواريث ، أو بقوله - عليه الصلاة والسلام - : " لاَ وَصِيَّةَ لَوَارِثٍ{[2503]} " ، وهاهنا الإجماع غير موجود ، لأن الخلاف فيه قديم وحديث ؛ فوجب أن تبقى الآية دالَّةً على وجوب الوصيَّة للقريب الذي ليس بوارث .
واستدلوا أيضاً بقوله - عليه السلام - : " مَا حَقُّ امْرِىءٍ مُسْلِم لَهُ مُلْكٌ يَبِيتُ لَيْلَتَيْن ، إلاَّ وَوَصِيَّتُهُ مَكْتُوبَةٌ عِنْدَهُ{[2504]} " وقد أجمعنا على أن الوصيَّة غير واجبةً لغير الأقارب ؛ فوجب أن تكون هذه الوصيَّة واجبةً للأقارب ، فأمَّا الجمهور ، فأجود ما استدلُّوا به على أنها منسوخة في حقِّ الكلِّ قوله : { مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَآ أَوْ دَيْنٍ } [ النساء : 12 ] وقد ذكرنا تقريره .