" يكاد " مضارع " كاد " ، وهي لمقاربة الفعل ، تعمل عمل " كان " إلا أن خبرها لا يكون مضارعا ، وشذ مجيئه اسما صريحا ؛ قال [ الطويل ]
فأُبتَ إلى فهمٍ وما كدت آيباً *** وكم مثلها فارقتها وهي تصفرُ{[31]}
والأكثر في خبرها تجرّده من " أن " ، عكس " عسى " ، وقد شذّ اقترانه بها ؛ قال رؤبة : [ الرجز ] .
قد كاد من طول البِلى أن يمحَصَا{[32]}
لأنها لمقاربة الفعل ، و " أن " تخلص للاستقبال ، فتنافيا .
واعلم أن خبرها - إذا كانت هي مثبتة - منفي في المعنى ، لأنها للمقاربة .
فإذا{[33]} قلت : " كاد زيد يفعل " كان معناه : قارب الفعل إلا أنه لم يفعل ، فإذا نُفيت ، انتفى خبرها بطريق الأولى ؛ لأنه إذا انتفت مقاربة الفعل انتفى هو من باب أولى ؛ ولهذا كان قوله تعالى : { لم يكد يراها } [ النور :40 ] أبلغ من أن لو قيل : لم يرها ، لأنه لم يقارب الرؤية ، فكيف له بها ؟
وزعم جماعة منهم ابن جنّي ، وأبو البقاء ، وابن عطية أن نفيها إثبات ، وإثباتها نفي ؛ حتى ألغز بعضهم فيها ؛ فقال : [ الطويل ]
أنحويّ هذا العصر ما هلي لفظة *** جرت في لساني جرهم وثمود
إذا نفيت -والله أعلم- أُثبتت *** وإن أُثبتت قامت مقام جحود{[34]}
وحكوا عن ذي الرمة أنه لما أنشد قوله : [ الطويل ]
إذا غير النّأي المحبّين لم يكد *** رسيسُ الهوى من حب مَيّة يبرحُ{[35]}
عيب عليه ؛ لأنه قال : " لم يكد يبرح " ، فيكون قد برح ، فغيره إلى قوله : " لم يزل " ، أو ما هو بمعناه .
والذي غر هؤلاء قوله تعالى : { فذبحوها وما كادوا يفعلون } [ البقرة : 71 ] قالوا : " فهي هنا منفية " ، وخبرها مثبت في المعنى ؛ لأن الذبح وقع لقوله : " فذبحوها " ، والجواب عن هذه الآية من وجهين :
أحدهما : أنه يحمل على اختلاف وقتين ، أي : ذبحوها في وقت ، وما كادوا يفعلون في وقت آخر .
والثاني : أنه عبر بنفي مقاربة الفعل عن شدة تعنّتهم ، وعسرهم في الفعل .
وأما ما حكوه عن ذي الرمة ، فقد غلّط الجمهور ذا الرمة في رجوعه عن قوله الأول ، وقالوا : " هو أبلغ وأحسن مما [ غيره إليه ]{[36]} " .
واعلم أن خبر " كاد " وأخواتها - غير " عسى " – لا يكون فاعله إلا ضميرا عائدا على اسمها ؛ لأنها للمقاربة أو للشروع ، بخلاف " عسى " ، فإنها للترجي ؛ تقول : " عسي زيد أن يقوم أبوه " ، ولا يجوز ذلك في غيرها ، فأما قوله : [ الطويل ]
وَقَفْتُ عَلَى رَبْعٍ لِميَّةَ نَاقَتِي *** فَمَا زِلْتُ أَبْكِي عِنْدَهُ وَأُخَاطِبُهْ
وَأَسْقِيهِ حَتَّى كَادَ مِمَّا أَبُثُّهُ *** تُكَلِّمُني أَحْجَارُهُ وَمَلاَعِبُهْ{[37]}
فأتى بالفاعل ظاهراً ، فقد حمله بعضهم على الشُّذُوذ ، وينبغي أن يقال : إنما جاز ذلك ؛ لأن الأحجار والملاعب هي عبارة عن الرَّبْعِ ، فهي هو ، فكأنه قيل : حتَّى كادَ يكلِّمُني ؛ ولكنه عبّر [ عنه ]{[38]} بمجموع أجزائه .
وَقَدْ جَعَلْتُ إِذَا ما قُمْتُ يُثْقِلُني *** ثَوْبِي فَأَنْهَضُ نَهْضَ الشَّارِبِ السَّكِرِ
وكُنْتُ أَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ مُعْتَدِلاً *** فَصِرْتُ أَمْشي عَلَى أُخْرَى مِنَ الشَّجَرِ{[39]}
فأتى [ بفاعل ]{[40]} [ خبر ]{[41]} جعل ظاهراً ، فقد أجيب عنه بوجهين :
أحدهما : أنه على حذْف مضاف ، تقديره : وقد جعل ثوبي إذا ما قمت يثقلني .
والثاني : أنه من باب{[42]} إقامة السَّبب مقام المُسَبَّبِ ، فإن نهوضه كذا متسبَّب عن إثقال ثوبه إيَّاه ، والمعنى : وقد جعلت أنهض نَهْضَ الشارب الثَّمل لإثقال ثوبي إيَّاي .
ووزن " كَادَ كَوِد " بكسر العين ، وهي من ذوات الواو ؛ ك " خَافَ " يَخَافُ ، وفيها لغةٌ أخرَى : فتح عينها ، فعلى هذه اللُّغة تضم فاؤها إذا أسندت إلى تاء المتكلّم وأخواتها ، فتقول : " كُدْتُ ، وكُدْنَا " ؛ مثل : قُلْتُ ، وقُلْنَا ، وقد تنقل كسر عينها إلى فائها مع الإسناد إلى ظاهر ، كقوله : [ الطويل ]
وَكِيدَ ضِبَاعُ القُفِّ يَأْكُلْنَ جُثَّتي *** وَكِيدَ خِرَاشٌ عِنْدَ ذَلِكَ يَيْتَمُ{[43]}
ولا يجوز زيادتها خلافاً [ للأخفش ]{[44]} ، وسيأتي إن شاء الله هذا كله في " كاد " الناقصة .
أمّا " كاد " التامة بمعنى " مَكَرَ " فوزنها فَعَل بفتح العَيْن من ذوات " الياء " ؛ بدليل قوله : { إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً وَأَكِيدُ } [ الطارق : 15 ، 16 ] .
و " البرق " اسمها ، و " يخطف " خبرها ويقال : خَطِفَ يَخْطَفُ [ بكسر عين الماضي ، وفتح المضارع ، وخطَفَ يَخْطِفُ ]{[45]} عكس اللغة الأولى وفيه تراكيب كثيرة ، والمشهور منها الأولى .
الثانية : يخطِف بكسر الطاء ، قرأها مجاهد{[46]} .
الثالثة : عن الحسن بفتح " الياء والخاء والطاء " ، مع تشديد " الطاء " ، والأصل : " يَخْتَطِفُ " ، فأبدلت " تاء " الافتعال " طاء " للإدغام .
الرابعة : كذلك ، إلاّ أنه بكسر{[47]} الطاء على [ أنه ]{[48]} أصل التقاء السَّاكنين .
الخامسة : كذلك ، إلا أنه بكسر " الخاء " إتباعاً لكسرة الطاء .
السَّادسة : كذلك إلا أنه بكسر الياء أيضاً إتباعاً للخاء .
السابعة : " يختطف " على الأصْل .
الثامنة : يَخْطِّف بفتح الياء ، وسكون الخاء ، وتشديد الطاء [ وهي رديئة لتأديتها إلى التقاء ساكنين .
التاسعة : بضمّ الياء ، وفتح الخاء ، وتشديد الطاء ]{[49]} مكسورة ، والتضعيف فيه للتكثير لا للتعدية .
العاشرة : " يَتَخَطَّفُ " عن أُبَيّ من قوله : { وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ } [ العنكبوت : 67 ] .
و " الخَطْف " : أخذ شيء بسرعة ، وهذه الجملة - أعني قوله : " يَكَادُ البرق يخطف " لا محلّ لها ، لأنه استئناف كأنه قيل : كيف يكون حالهم مع ذلك البرق ؟ فقيل : يكاد يخطف ، ويحتمل أن تكون في محلّ جر صفة ل " ذوي " المحذوفة : التقدير : كذوي صيِّب كائدٍ البرق يخطف .
قوله : { كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُم مَّشَوْاْ فِيهِ } .
" كُلَّ " نصب على الظرف ؛ لأنها أضيفت إلى " ما " الظرفية ، والعامل فيها جوابها ، وهو " مشوا " .
وقيل : " ما " نكرة موصوفة ومعناها الوقت أيضاً ، والعائد محذوف تقديره : كل وقت أضاء لهم فيه ، ف " أضاء " على الأول لا مَحَلّ له ؛ لكونه صلةً ، ومحلّه الجر على الثاني .
و " أضاء " يجوز أن يكون لازماً .
وقال المُبَرِّدُ : " هو متعدّ ، ومفعوله محذوف أي : أضاء لهم البَرْقُ الطريق " ف " الهاء " في " فيه " تعود على البَرْقِ في قول الجمهور ، وعلى الطَّريق المحذوف في قول المُبَرّد .
و " فيه " متعلّق ب " مشوا " ، و " في " على بابها أي : إنه محيط بهم .
وقيل : بمعنى الباء ، ولا بد من حذفٍ على القولين : أي : مشوا في ضوئه : أي بضوئه ، ولا محل لجملة قوله : " مشوا " ؛ لأنها مستأنفة ، كأنه جواب لمن يقول : كيف يمضون{[50]} في حالتي ظهور البرق وخفائه ؟
والمقصود تمثيل شدة الأمر على المنافقين بشدته على أصحاب الصَّيِّب ، وما هم فيه من غاية التحيُّر والجهل بما يأتون ، وما يذرون .
واعلم أن " كلّ " من ألفاظ العموم{[51]} ، وهو اسم جمع لازم للإضافة ، وقد يحذف ما يُضَاف إليه ، وهل تنوينه حينئذ تنوين عوض ، أو تنوين صرفٍ ؟ قولان :
والمضاف إليه " كل " إن كان معرفة وحذف ، بقيت على تعريفها ، فلهذا انتصب{[52]} عنها الحال ، ولا يدخلها الألف واللام ، وإن وقع ذلك في عبارة بعضهم ، وربما انتصب حالاً ، وأصلها أن تستعمل توكيداً ك " أجمع " ، والأحسن استعمالها مبتدأ ، وليس كونها مفعولاً بها مقصوراً على السماع ، ولا مختصّاً بالشعر ، خلافاً لزاعم ذلك .
وإذا أضيفت إلى نكرة أو معرفة بلام الجنس حسن أن تلي العواملة اللفظية ، وإذا أضيفت إلى نكرة تعين اعتبار تلك النكرة فيما لها من ضمير وغيره ، تقول : " كل رجال أَتَوْكَ ، فأكرمهم " ، ولا يجوز أن تراعي لفظ " كل " فتقول : " كلُّ رجالٍ أتاكَ ، فأكْرِمه " ، و " كلُّ رجلٍ أتاكَ ، فأكْرِمه " ولا تقول " كلُّ رجلٍ أتَوْك ، فأكْرِمْهم " ؛ اعتباراً بالمعنى ، فأما قوله : [ الكامل ]
جَادَتْ عَلَيْه كُلُّ عَيْنٍ ثَرَّةٍ *** فَتَرَكْنَ كُلَّ حَدِيقَةٍ كَالدِّرْهَمِ{[53]}
فراعى المعنى ، فهو شاذّ لا يقاس عليه .
وإذا أضيفت إلى معرفة فوجهان ، سواء كانت بالإضافة لفظاً ؛ نحو : { وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْداً } [ مريم : 95 ] فراعَى لفظ " كُل " .
أو معنى نحو : { فَكُلاًّ أَخَذْنَا بِذَنبِهِ } [ العنكبوت : 40 ] فراعى لفظها ، وقال : { وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ } [ النمل : 87 ] فراعى المعنى .
وقول بعضهم : " إن كلما " تفيد التكرار " ليس ذلك من وضعها ، وإنما استفيد من العموم التي دلّت عليه .
فإنك إذا قلت : " كلما جئتني أكرمتك " كان المعنى أكرمك{[54]} في كل فرد [ فرد ]{[55]} من جيئاتك إلَيّ .
وقرأ ابن أبي عبلة{[56]} " ضَاءَ " ثلاثياً ، وهي تدل على أن الرباعي لازم .
وقرئ{[57]} : " وَإِذَا أُظْلِمَ " مبنياً للمفعول ، وجعله{[58]} الزمخشري دالاًّ على أن " أظلم " متعدٍّ ، واستأنس أيضاً بقول حَبيبٍ : [ الطويل ]
هُمَا أَظْلَمَا حالَيَّ ثُمَّتَ أَجْلَيَا *** ظَلاَمَيْهِمَا عَنْ وَجْهِ أَمْرَدَ أَشْيَبِ{[59]}
ولا دليل في الآيَةِ ؛ لاحتمالِ أنَّ أصله ، " وإذَا أَظْلَمَ اللَّيْلُ عليهم " ، فلما بني للمفعول حذف الليل ، وقام " عَلَيْهِم " مقامه ، وأما بينت حبيب فمولّد .
وإنما صدرت الجملة الأولى ب " كلّما " والثانية ب " إذا " ، قال الزمخشري : " لأنهم حراصٌ على وجود ما هَمّهم به ، معقود من إمكان المشي وتأتِّيه ، فكلما صادفوا منه فرصة انتهزوها ، وليس كذلك التوقُّفُ والتَّحبُّسُ " {[60]} وهذا هو الظاهر ، إلاَّ أن من النحويين من زعم أن " إذا " تفيد التكرار أيضاً ؛ وأنشد : [ البسيط ]
إِذَا وَجَدْتُ أُوَارَ الحُبِّ في كَبِدِي *** أَقْبَلْتُ{[61]} نَحْوَ سِقَاءِ القَوْمِ أَبْتَرِدُ{[62]}
قال : " معناه معنى " كلما " " .
قوله : " قَامُوا " أي وقفوا أو ثبتوا{[63]} في مكانهم ، ومنه : " قامت السوق " .
قوله : { وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ } .
" لو " حرف لما كان سيقع{[64]} لوقوع غيره ، هذه عبارة سيبويه وهي أولى من عبارة غيره ، وهي حرف امتناع لامتناع لصحة العبارة الأولى في نحو قوله تعالى : { لَّوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَاداً لِّكَلِمَاتِ رَبِّي }
وفي قوله عليه السلام : " نِعْمَ العَبْدُ صُهَيْب ، لو لم يَخفِ الله لم يَعْصِهِ " {[65]} وعدم صحّة الثانية في ذلك كما سيأتي محرراً ، ولفساد قولهم : " لو كان إنساناً لكان حيواناً " ؛ إذْ لا يلزمُ من امتناع الإنْسَانِ امتناعُ الحيوان ، ولا يجزم بها خلافاً لقَوْم ، فأما قوله : [ الرمل ]
لو يَشَأْ طَارَ بِهِ ذُو مَيْعَةٍ *** لاَحِقُ الآطَالِ نَهْدٌ ذُو خُصَلْ{[66]}
تَامَتْ فُؤَادَكَ لَوْ يَحْزُنْكَ مَا صَنَعَتْ *** إِحْدىَ نِسَاءِ بَنِي ذُهْلِ بْنِ شَيْبَانَا{[67]}
فمن تسكين المتحرك ضرورةً . وأكثر ما تكون شرطاً في الماضي ، وقد تأتي بمعنى " إِنْ " ؛ كقوله تعالى : { وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُواْ } [ النساء : 9 ] وقوله : [ الطويل ]
وَلَوْ أَنَّ لَيْلَى الأَخْيَلِيَّةَ سَلَّمَتْ *** عَلَيّ وَدُوني جَنْدَلٌ وَصَفَائِحُ
[ لَسَلَّمْتُ تَسْلِيمَ البَشَاشَةِ أَوْ زَقَا *** إِلَيهَا صَدًى مِنْ جَانِبِ القَبْرِ صَائِحُ ]{[68]} {[69]}
ولا تكون مصدريةً على الصحيح ، وقد تُشَرَّب معنى التمني ، فتنصب المضارع بعد " الفاء " جواباً لها ؛ نحو : { فَلَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَكُونَ } [ الشعراء : 102 ] وسيأتي تحريره إن شاء الله تعالى .
قال ابن الخطيب{[70]} : المشهور أن " لو " تفيد انتفاء الشيء لانتفاء غيره ، ومنهم من أنكر ذلك ، وزعم أنها لا تفيد إلا الرَّبط ، واحتج عليه بالآية والخبر :
أما الآية فقوله تعالى : { وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّواْ وَّهُم مُّعْرِضُونَ } [ الأنفال : 23 ] ، فلو أفادت كلمة " لو " انتفاء الشَّيء لانتفاء غيره لزم التَّنَاقض ؛ لأن قوله : { وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لأَسْمَعَهُمْ } يقتضي أنه ما علم فيهم خيراً وما أسمعهم ، وقوله : { وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّواْ وَّهُم مُّعْرِضُونَ } يفيد أنه ما أسمعهم ، ولا تولوا ؛ لكن عدم التولي خير ، فيلزم أن يكون قد علم فيهم خيراً ، وما علم فيهم خيراً . وأما الخبر فقوله عليه الصلاة والسلام : " نعم الرَّجُلُ صُهَيْبٌ{[71]} لو لم يَخَفِ اللهَ لم يَعْصِهِ " فعلى مقتضى قولهم : يلزم أنه خاف الله وعصاه ، وذلك مناقض ، فعلمنا أن كلمة " لو " إنما تفيد الربط .
و " شاء " أصله : " شيء " على " فعِل " بكسر العين ، وإنما قلبت " الياء " " ألفاً " للقاعدة الممهدة ومفعوله محذوف تقديره : ولو شاء الله إذهاباً ؛ وكثر{[72]} حذف مفعوله ومفعول " أراد " ، حتى لا يكاد ينطق به إلا في الشيء المستغرب ؛ كقوله تعالى : { لَّوْ أَرَادَ اللَّهُ أَن يَتَّخِذَ وَلَداً }
[ الزمر : 4 ] ؛ وأنشدوا : [ الطويل ]
وَلَوْ شِئْتُ أَنْ أَبْكِي دَماً لَبَكَيْتُهُ *** عَلَيْهِ وَلَكِنْ سَاحَةُ الصَّبْرِ أَوْسَعُ{[73]}
واللام في " لذهب " جواب " لو " .
واعلم أن جوابها يكثر دخول " اللام " عليه مثبتاً ، وقد تحذف ؛ قال تعالى : { لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجاً } [ الواقعة : 70 ] .
ويقلّ دخولها عليه منفياً ب " مَا " ، ويمتنع دخولها عليه منفيًّا بغير " مَا " ؛ نحو : " لو قمت لَمْ أَقُمْ " ؛ لتوالي لامين{[74]} فيثقل ، وقد يحذف ؛ كقوله : [ الكامل ]
لا يُلْفِكَ الرَّاجُوكَ إِلاَّ مُظْهِراً *** خُلُقَ الكِرَامِ وَلَوْ تكُونُ عَدِيمَا{[75]}
و " بسمعهم " متعلّق ب " ذهب " .
وقرئ{[76]} : " لأَذْهَبَ " فتكون " الياء " زائدة أو تكون فَعَل وأَفْعَل بمعنى ، ونحوه { تَنبُتُ بِالدُّهْنِ } [ المؤمنون : 20 ] والمراد من السمع : الأسماع ، أي : لذهب بأسماعهم وأبصارهم الظاهرة كما ذهب بأسماعهم وأبصارهم الباطنة .
وقيل : لذهب بما استفادوا من العِزِّ{[77]} والأمان الذي لهم بمنزلة السمع والبصر .
وقرأ ابن عامر وحمزة{[78]} " شاء " و " جاء " حيث كان بالإمالة .
قوله : { إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } .
هذه جملة مؤكّدة لمعنى ما قبلها ، و " كُلّ شيء " متعلّق ب " قدير " وهو " فعيل " بمعنى " فاعل " ، مشتق من القُدْرة ، وهي القوة والاستطاعة ، وفعلها " قَدَرَ " بفتح العين ، وله ثلاثة عشر مصدراً : " قدْرَة " بتثليث القاف ، و " مَقْدرَة " بتثليث الدال ، و " قَدْراً " ، و " قَدَراً " ، و " قُدَراً " ، و " قَدَاراً " ، و " قُدْرَاناً " ، و " مَقْدِراً " و " مَقْدَراً " و " قدير " أبلغ من " قادر " ، قاله الزَّجاج .
وقيل : هما بمعنى واحد ؛ قاله الهَرَوِيّ{[79]} .
والشيء : ما صحّ أن يعلم من وَجْه ويخبر عنه ، وهو في الأصل مصدر " شاء يشاء " ، وهل يطلق على المعدوم والمستحيل ؟ خلاف مشهور .
استدلّ بعضهم بهذه الآية على أن المعدوم شيء ، قال : " لأنه - تعالى - أثبت القدرة على الشيء ، والموجود لا قدرة عليه ؛ لاستحالة إيجاد الموجود ، فالذي عليه القُدْرة معدوم وهو شيء ، فالمعدوم شيء " .
والجواب : لو صَحّ هذا الكلام لزم أنَّ ما لا يقدر عليه ألا يكون شيئاً ، فالموجود إذا لم يقدر الله عليه وجب ألا يكون شيئاً .
فصل في بيان وصف الله تعالى بالشيء
قال ابن الخطيب : احتج جَهْمٌ بهذه الآية على أنه - تعالى - ليس بشيء لأنه - تعالى - ليس بمقدور له ، فوجب إلاَّ يكون شيئاً ، واحتج أيضاً بقوله تعالى : { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ } [ الشورى : 11 ] .
قال : " لو كان الله - تعالى - شيئاً ، لكان - تعالى - مثل نفسه ، فكان قوله : { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ } كذب ، فوجب ألا يكون شيئاً ؛ حتى لا تتناقض هذه الآية " .
قال ابن الخطيب{[80]} : وهذا الخلاف في الاسم ؛ لأنه لا واسطة بين الموجود والمعدوم ، قال : واحتج أصحابنا بقوله تعالى : { قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ } [ الأنعام : 19 ] .
وبقوله : { كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ } [ القصص : 88 ] والمستثنى داخل في المستثنى منه ، فوجب أن يكون شيئاً .
فصل في أن مقدور العبد مقدور لله تعالى
قال ابن الخطيب{[81]} : احتج أصحابنا بهذه الآية على أن مقدور العبد مقدور لله تعالى ، خلافاً لأبي هَاشِم وأبي عَلِيّ .
وجه الاستدلال : أن مقدور العَبْدِ شيء ، وكلّ شيء مقدور لله - تعالى - بهذه الآية ، فيلزم أن يكون مقدور العبد مقدوراً لله تعالى .
تخصيص العام جائز في الجملة{[82]} ، وأيضاً تخصيص العام بدليل العقل{[83]} ، فإن قيل : إذا كان اللَّفظ موضوعاً للكل ، ثم تبين أن الكل غير مراد كان كذباً ، وذلك يوجب الطَّعن في كلّ القرآن .
والجواب : أن لفظ " الكُلّ " كما أنه يستعمل في المجموع ، فقد يستعمل مجازاً في الأكثر ، وإذا كان ذلك مجازاً مشهوراً في اللَّغة لم يكن استعمال اللفظ فيه كذباً ، والله أعلم .