اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{أَوۡ كَصَيِّبٖ مِّنَ ٱلسَّمَآءِ فِيهِ ظُلُمَٰتٞ وَرَعۡدٞ وَبَرۡقٞ يَجۡعَلُونَ أَصَٰبِعَهُمۡ فِيٓ ءَاذَانِهِم مِّنَ ٱلصَّوَٰعِقِ حَذَرَ ٱلۡمَوۡتِۚ وَٱللَّهُ مُحِيطُۢ بِٱلۡكَٰفِرِينَ} (19)

اعلم أنّ هذا مثل ثانٍ للمنافقين ، وكيفية المشابهة من وجوه :

أحدها : أنه إذا حصل السحاب والرعد والبرق ، واجتمع مع ظلمة السّحاب ظلمة الليل ، وظلمة المَطَرِ عند ورود الصواعق عليهم يجعلون أصابعهم في آذانهم من الصَّوَاعق حَذَرَ الموت ، وأن البرق يكاد يخطف أبصارهم ، فإذا أضاء لهم مَشَوْا فيه ، وإذا ذهب بَقَوا في ظلمة عظيمة ، فوقفوا متحيّرين ؛ لأنّ من أصابه البرق في هذه الظلمات الثلاث ثم ذَهَبَ عنه تشتدّ حيرته ، وتعظم الظُّلمة في عينيه أكثر من الذي لم يزل في الظلمة ، فشبّه المنافقين في حيرتهم وجهلهم بالدِّين بهؤلاء الذين وصفهم ، إذا كانوا لا يرون طريقاً ، ولا يهتدون .

وثانيها : أن المَطَرَ وإن كان نافعاً إلاّ أنه لما وجد في هذه الصُّورة مع هذه الأحوال الضَّارة صار النفع به زائلاً ، فكذا إظهار الإيمان نافعٌ للمنافقين لو وافقه الباطن ، فإذا فقد منه الإخلاص ، وحصل معه النفاق كان ضرراً في الدِّينِ .

وثالثها : أن من هذا حاله ، فقد بلغ النهاية في الحَيْرَةِ لاجتماع أنواع الظلمات ، وحصول أنواع المَخَافَةِ ، فحصلت في المنافقين نهاية الحَيْرَةِ في الدين ، ونهاية الخوف في الدنيا ؛ لأنّ المنافق يتصور في كل وقت أنه لو حصل الوقوف على باطنه لقتل ، فلا يزال الخَوْفُ في قلبه مع النفاق .

ورابعها : المراد من الصَّيِّب هو الإيمان والقرآن ، والظلمات والرعد والبرق هي الأشياء الشَّاقة على المنافقين من التكاليف كالصَّلاة والصوم وترك الرِّيَاسات ، والجهاد مع الآباء والأمّهات ، وترك الأديان القديمة ، والانقياد لمحمد - عليه الصَّلاة والسَّلام - مع شدّة استنكافهم عن الانقياد ، فكأنّ الإنسان يبالغ في الاحتراز عن المَطَرِ الصَّيِّب{[736]} الذي [ هو ]{[737]} أشَدُّ الأشياء نفعاً بسبب هذه الأُمُور المُقَارنة ، كذلك هؤلاء . والمراد من قوله : { كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُم مَّشَوْاْ فِيهِ } أنّه متى حصل لهم شيء من المَنَافع ، وهي عصمة أموالهم ودمائهم ، وحصول الغنائم ، فإنهم يرغبون في الدِّين .

قوله : { وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُواْ } أي متى لم يجدوا شيئاً من تلك المنافع ، فحينئذ يكرهون الإيمان ، ولا يرغبون فيه .

فصل في " أو "

في " أ " خمسة أقوال :

أظهرها : أنها للتفصيل بمعنى : أنَّ الناظرين في حال هؤلاء منهم من يشبههم بحال المُسْتَوْقد ، ومنهم من يشبههم بأَصْحَاب{[738]} صَيِّبٍ هذه صفته .

قال ابن الخطيب : " والثاني أبلغ ؛ لأنه أدلُّ على فرط الحيرة " .

والثاني : أنها للإبهام ، أي : أن الله أَبْهَمَ على عباده تشبيههم بهؤلاء أو بهؤلاء .

والثالث : أنها للشَّك ، بمعنى : أنَّ الناظر يشكُّ في تشبيههم .

الرابع : أنها للإباحة .

الخامس : أنها للتخيير ، قالوا : لأن أصلها تساوي شيئين فصاعداً في الشك ، ثم اتسع فيها ، فاستعيرت للتساوي في غير الشك كقولك : " جالس الحسن أو ابن سيرين " يريد أنهما سيّان ، وأن يجالس أيهما شاء ، ومنه قوله تعالى : { وَلاَ تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً } [ الإنسان : 24 ] ، أي : الإثم والكفر متساويان في وجوب عصيانهما ، وزاد الكوفيون فيها معنيين آخرين :

أحدهما : كونها بمعنى " الواو " ؛ وأنشدوا : [ البسط ]

نَال الخِلاَفَةَ أوْ كَانَتْ لَهُ قَدَراً *** كَمَا أَتَى رَبَّهُ مُوسَى عَلَى قَدَرِ{[739]}

وقال تعالى : { تَأْكُلُواْ مِن بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ }

[ النور : 61 ] .

وقال : [ الطويل ]

وَقَدْ زَعَمَتْ لَيْلَى بِأَنِّيَ فَاجِرٌ *** لِنَفْسِي تُقَاهَا أوْ عَلَيْهَا فُجُورُهَا{[740]}

قال ابن الخطيب{[741]} : وهذه الوجوه مطردة في قوله : { ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً } [ البقرة : 74 ] .

المعنى الثاني : كونها بمعنى : " بل " ؛ قال تعالى : { وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ } [ الصافات : 147 ] وأنشدوا : [ الطويل ]

بَدَتْ مِثْلَ قَرْنِ الشَّمْسِ في رَوْنَقِ الضُّحَى *** وَصُورَتِهَا أوْ أَنْتِ في العَيْنِ أمْلَحُ{[742]}

أي : بل أنت .

و " كصيب " معطوف على " كَمَثَلِ " ، فهو في محل رفع ، ولا بد من حذف مضافين ؛ ليصح المعنى ، التقدير يراد : " أو كمثل ذوي صيّب " ولذلك رجع عليه ضمير الجمع في قوله : { يَجْعَلُونَ أَصْابِعَهُمْ فِي آذَانِهِم } ، لأن المعنى على تشبيههم بأصحاب الصَّيِّب لا بالصيب نفسه .

و " الصَّيب " المَطَرُ سمي بذلك لنزوله ، يقال : صاب يصوب إذا نزل ؛ ومنه : صوَّب رأسه : إذا خفضه ؛ قال [ الطويل ]

فَلَسْتُ لإنْسِيٍّ ولَكِنْ لِمَلأَكٍ *** تَنَزَّلَ مِنْ جَوِّ السَّمَاءِ يَصُوبُ{[743]}

وقال آخر : [ الطويل ]

فَلاَ تَعْدِلِي بَيْنِي وَبَيْنَ مُغَمَّرٍ *** سَقَتْكِ رَوَايَا المُزْنِ حَيْثُ تَصُوبُ{[744]}

وقيل : إنه من صَابَ يَصُوب : إذا قصد ، ولا يقال : صَيّب إلا للمطر الجَوَاد ، كان - عليه الصلاة والسلام - يقول : " اللهم اجعله صَيِّباً هَنِيئاً " {[745]} أي : مطراً جواداً ، ويقال أيضاً للسحاب : صَيّب ؛ قال الشماخ : [ الطويل ]

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . *** وَأَسْحَمَ دَانٍ صَادِقِ الرَّعْدِ صَيِّبِ{[746]}

وتنكير " صيب " يدلّ على نوع زائد من المطر شديد هائلٍ كما نكرت " النَّار " في التمثيل الأول .

وقرئ " كصائب " ، والصَّيب أبلغ .

واختلف في وزن " صَيِّب " .

فقد ذهب البصرون أنه " فَيْعِل " ، والأصل : صَيْوِب أدغم ك " مَيّت " و " هَيّن " ، والأصل : مَيوت وهَيْوِن .

وقال بعض الكوفيين : وزنه " فَعِيل " والأصل : صَوِيب بزنة طويل .

قال النحاس : وهذا خطأ ؛ لأنه كان ينبغي أن يصح ولا يُعَلّ كطويل ، وكذا أبو البقاء .

وقيل وزنه : " فَعْيِل " فقلب وأُدغم .

واعلم أنه إذا قيل بأن الجملة من قوله : { ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ } استئنافية ، ومن قوله : { صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ } إنها من وصف المنافقين كانتا جملتي اعتراض بين المتعاطفين ، أعني قوله : " كَمَثَل " و " كَصَيِّبٍ " وهي مسألة خلاف منعها الفارسي ورد عليه بقول الشاعر : [ الوافر ]

لَعَمْرِكَ والخُطُوبُ مُغَيِّرَاتٌ *** وَفِي طُولِ المُعَاشَرَةِ التَّقَالِي

لَقَدْ بَالَيْتُ مَظْعَنَ أُمِّ أَوْفَى *** وَلَكِنْ أُمُّ أَوْفَى لا تُبَالِي{[747]}

ففصل بين القسم ، وهو " لعمرك " وبين جوابه ، وهو " لَقَدْ بَالَيْتُ " {[748]} بجملتين إحداهما : " والخطوب مغيرات " .

والثانية : " وفي طول المُعَاشرة التَّقالي " .

و " من السماء " يحتمل وجهين :

أحدهما : أن يتعلّق ب " صيب " ؛ لأنه يعمل عمل الفعل ، والتقدير : كمطر يَصُوب من السماء ، و " مِنْ " لابتداء الغاية .

والثَّاني : أن يكون في محلّ جر صفة ل " صيب " ، فيتعلّق بمحذوف ، وتكون " من " للتبغيض ، ولا بُدّ حينئذ من حذف مضاف تقديره : كصيّب كائن من أمطار السَّماءِ .

والسماء : هذه المطلّة ، وهي في الأصل كل ما عَلاكَ من سَقْفٍ ونحوه ، مشتقة من السُّمو ، وهو الإرتفاع ، والأصل : سَمَاو ، وإنما قُلبت الواو همزة لوقوعها طرفاً بعد ألف زائدة وهو بدل مُطّرد ، نحو : " كساء ورداء " ، بخلاف " سقاية وشقاوة " لعدم تطرف حرف العلّة ، ولذلك لما دخلت عليها تاء التأنيث صحَّت ؛ نحو : " سماوة " .

قال الشاعر : [ الرجز ]

طَيَّ اللَّيَالِي زُلَفاً فَزُلَفَا *** سَمَاوَةَ الهِلاَلِ حَتَّى احْقَوْقَفَا{[749]}

والسماء مؤنث قال تعالى : { إِذَا السَّمَاءُ انفَطَرَتْ } [ الانفطار : 1 ] وقد تذكَّر ؛ قال تعالى : { السَّمَاءُ مُنفَطِرٌ بِهِ } [ المزمل : 18 ] ؛ وأنشد : [ الوافر ]

وَلَوْ رَفَعَ السَّمَاءَ إلَيْهِ قَوْماً *** لَحِقْنَا بَالسَّمَاءِ مَعَ السَّحَابِ{[750]}

فأعاد الضَّمير من قوله : " إلَيْهِ " على " السَّمَاء " مذكَّراً ، ويجمع على " سَمَاوَاتٍ ، وأَسْمِيَة ، وَسُمِيّ " ، والأصل " فعول " ، إلا أنه أعلّ إعلال " عِصِيّ " بقلب الواوين ياءين ، وهو قلب مطّرد في الجمع ، ويقلّ في المفرد نحو : عتا - عُتِيًّا ، كما شذ التصحيح في الجمع قالوا : " إنكم لتنظرون في نُحُوٍّ كثيرة " ، وجمع أيضاً على " سماء " ، ولكن مفرده " سَمَاوة " ، فيكون من باب تَمْرَةٍ وتَمْرٍ ، ويدلّ على ذلك قوله : [ الطويل ]

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . *** . . . . . . . . . . فَوْقَ سَبْعِ سَمَائِيَا{[751]}

ووجه الدّلالة أنه مُيِّز به " سَبْع " ولا تُمَيَّزُ هي وأخواتها إلاّ بجمع مجرور .

وفي قوله : " من السَّمَاءِ " ردّ على من قال : إن المطر إنما يحصل من ارتفاع أبخرة رطبة من الأَرْض إلى الهواء ، فتنعقد هناك من شدّة برد الهواء ، ثم ينزل مرة أخرى ، فذاك هو المطر ؛ فأبطل الله هذا المذهب بأن بَيّن أن الصَّيب نزل من السَّمَاء ، وقال : { وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُوراً } [ الفرقان : 48 ] .

وقال : { وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِن جِبَالٍ فِيهَا مِن بَرَدٍ } [ النور : 43 ] .

قوله : { فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ } [ البقرة : 19 ] يحتمل أربعة أوجه :

أحدها : أن يكون صفة ل " صَيّب " .

الثاني : أن يكون حالاً منه ، وإن كان نكرة لتخصصه ، إما بالعمل في الجار بعده ، أو بصفة بالجار بعده .

الثالث : أن يكون حالاً من الضمير المُسْتَكِنّ في " من السماء " إذا قيل : إنه صفة ل " صَيّب " ، فيتعلّق في التقادير الثلاثة بمحذوف ، إلاّ أنه على القول الأوّل في محلّ جر لكونه صفة لمجرور ، وعلى القولين الأخيرين في مَحَلّ نَصْب على الحال .

و " ظلمات " على جميع هذه الأقوال فاعل به ؛ لأنَّ الجار والمجرور والظرف متى اعتمدا على موصوف ، أو ذي حالٍ ، أو ذي خبر ، أو على نَفْي ، أو استفهام عملا عمل الفعل ، والأخفش يُعْمِلُهُمَا مطلقاً كالوصف ، وسيأتي تحرير ذلك .

الرابع : أن يكون خبراً مقدماً ، و " ظلمات " مبتدأ ، والجملة تحتمل وجهين :

الأول : الجر على أنها صفة ل " صيب " .

والثاني : النَّصْب على الحال ، وصاحب الحال يحتمل أن يكون " كصيب " ، وإن كان نكرة لتخصيصه بما تقدّمه ، وأن يكون الضَّمير المستكن في " من السَّماء " إذا جعل وصفاً ل " صيّب " ، والضمير في " فيه " ضمير " الصيب " ، واعلم أن جعل الجار صفة أو حالاً ، ورفع " ظلمات " على الفاعلية به أَرْجَحُ من جعل { فِيهِ ظُلُمَاتٌ } جملة برأسها في محلّ صفة أو حال ؛ لأنّ الجار أقرب إلى المفرد من الجملة ، وأصل الصفة والحال أن يكونا مفردين .

و " رَعْدٌ وبَرْقٌ " : معطوفان على " ظلمات " بالاعتبارين المتقدّمين ، وهما في الأصْل مصدران تقول : رَعَدَتِ السماء تَرْعَدُ رَعْداً ، وبَرَقَتْ بَرْقاً .

قال أبو البقاء : وهما على ذلك مُوَحَّدَتَانِ هنا يعني على المصدرية ويجوز أن يكونا بمعنى الرَّاعد والبارق ، نحو : رجل عَدْل .

والظاهر أنهما في الآية ليس المُرَاد بهما المصدر ، بل جعلا اسماً [ للهز واللمعان ] .

والبرق : اللَّمَعَان ، وهو مقصود الآية ، ولا حاجة حينئذ إلى جعلهما بمعنى اسم فَاعِلٍ .

وقال علي وابن عباس -رضي الله عنهما - وأكثر المفسرين : الرعد : اسم ملك يسوق السَّحاب ، والبرق : لَمَعَانُ سَوْطٍ من نور يزجر به الملك السحاب .

وقيل : الرعد صوت انضغاط السّحاب .

وقيل : تسبيح الملك .

وقيل : الرعد نطق الملك ، والبرق ضحكه .

وقال مجاهد : الرعد اسم الملك ؛ ويقال لصوته أيضاً : رعد ، والبرق اسم ملك يسوق السحاب .

وقال شهر بن حَوْشَبٍ : الرعد ملك يُزْجِي السحاب ، فإذا تبددت ضمها فإذا اشتد غضبه طارت من فيه النَّار فهي الصواعق .

وقيل : الرعد صوت انحراق الريح بين السحاب . فإن قيل : لم جمع " الظّلمات " ، وأفرد " الرعد والبرق " ؟

فالجواب : أن في " ظلمات " اجتمع أنواع من الظُّلمة ، وهي ظلمة الليل ، وظلمة السحاب ، وظلمة تَكَاثف المطر ، وأما الرعد والبرق فكلّ واحد منهما نوح واحد .

ونكرت ؛ لأن المراد أنواع منها ، كأنه قيل : فيه ظلمات داجيةٌ ، ورعد قاصف ، وبرق خاطف .

{ يَجْعَلُونَ أَصْابِعَهُمْ } ، وهذه الجملة الظاهر أنها لا محلّ لها لاستئنافها كأنه قيل : ما حالهم ؟ فقيل : يجعلون .

وقيل : بل لها محلّ ، ثم اختلف فيه فقيل : جرّ ؛ لأنها صفة للمجرور ، أي : أصحاب صيب جاعلين ، والضمير محذوف .

أو نابت الألف واللام منابه ، تقديره : يجعلون أصابعهم في آذانهم من الصواعق منه أو من صواعقه .

وقيل : محلُّها نصب على الحال من الضمير في " فيه " .

والكلام في العائد كما تقدّم ، والجَعْل - هنا - بمعنى الإلقاء ، ويكون بمعنى الخَلْق ، فيتعدّى لواحد ، ويكون بمعنى " صَيَّرَ " أو " سمى " ، فيتعدى لاثنين ، ويكون للشروع ، فيعمل عمل " عسى " .

و " أَصَابِعَهُمْ " جمع إصبع ، وفيها عشر لُغَات : بتثليث الهمزة مع تثليت البَاءِ ، والعاشرة " أصبوع " بضم الهمزة .

والواو في " يَجْعَلُون " تعود لِلْمُضَاف المحذوف ، كما تقدم إيضاحه .

واعلم أنه إذا حذف المضاف جاز فيه اعتباران :

أحدهما : أن يلتفت إليه .

والثاني : ألا يلتفت إليه ، وقد جمع الأمران في قوله تعالى :

{ وَكَم مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتاً أَوْ هُمْ قَائِلُونَ } [ الأعراف : 4 ] ، والتقدير : وكم من أهل قرية فلم يراعه في قوله :

{ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءَهَا } ، ورعاه في قوله تعالى : { أَوْ هُمْ قَائِلُونَ } وذكر الأصابع ، وإن كان المجعول إنما هو رؤوس الأصابع تسمية للبعض باسم الكُلّ كما في قوله تعالى : { فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا } [ المائدة : 38 ] ، و{ فِي آذَانِهِم مِّنَ الصَّوَاعِقِ } كلاهما متعلّق بالجعل ، و " من " معناها التعليل .

و " الصَّوَاعق " : جمع صاعقة ، وهي الضَّجّة الشديدة من صوت الرعد تكون معها القطعة من النار .

ويقال : " ساعقة " بالسِّين ، و " صاعقة " ، و " صاقعة " بتقديم القاف ؛ وأنشد : [ الطويل ]

أَلَمْ تَرَ أَنَّ المُجْرِمِينَ أصَابَهُمْ *** صَوَاقِعُ لاَ بَلْ هُنَّ فَوْق الصَّواقِعِ{[752]}

ومثله قول الآخر : [ الرجز ]

يَحْكُونَ بِالمَصْقُولَةِ القَوَاطِعِ *** تَشَقُّقَ اليَدَيْنِ بِالصَّوَاقِعِ{[753]}

وهي قراءة الحسن .

قال النَّحَّاس : وهي لغة " تميم " ، وبعض " بني ربيعة " ، فيحتمل أن تكون " صاقعة " مقلوبة من " صَاعِقة " ويحتمل ألاّ تكون ، وهو الأظهر لثبوتها لغةً مستقلةً كما تقدم .

ويقال : " صقعة " أيضاً ، وقد قرأ بها الكسَائي{[754]} في " الذاريات " .

يقال : صُعِقَ زيد ، وأصعقه غيره قال : [ الطويل ]

تَرَى النُّعَرَاتِ الزُّرْقَ تَحْتَ لَبَانِهِ *** أُحَادَ وَمَثْنَى أصعَقَتْهَا صَوَاهِلُهْ{[755]}

وقيل : " الصّاعقة " [ قصف رعد ينقض منها شعلة ]{[756]} من نارٍ لطيفة قوية لا تمرُّ بشيء إلاّ أتت عليه إلاّ أنها مع قوتها سريعة الخمود .

وقيل : الصاعقة : قطعة عذاب ينزلها الله على من يَشَاءُ ، وروي عن سالم بن عبد الله ابن عمر عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا سمع صوت الرَّعْدِ والصواعق قال : " اللَّهُمّ لا تقتلنا بغضبك ولا تُهْلكنا بِعَذَابِكَ وَعَافِنَا قبل ذَلِكَ " {[757]} .

قوله : { حَذَرَ الْمَوْتِ } أي : مَخَافَةَ الهلاك ، وفيه وجهان :

أظهرهما : أنه مفعول من أجله ناصبه " يجعلون " ، ولا يضر تعدّد المفعول من أجله ؛ لأن الفعل يعلّل يعلل .

الثاني : أنه منصوب على المصدر وعامله محذوف تقديره يحذرون حذراً مثل حَذَرِ الموت . و " الحَذَرُ " و " الحِذَار " مصدران ل " حذر " أي : خاف خوفاً شديداً .

واعلم أن المفعول من أجله بالنسبة إلى نصبه وجره بالحرف على ثلاثة أقسام :

قسم يكثر نصبه ، وهو ما كان غير معرف ب " أل " ولا مضاف نحو : " جئت إكراماً لك " .

وقسم عكسه ، وهو ما كان معرَّفاً ب " أل " ؛ ومن مجيئه منصوباً قول الشاعر : [ الرجز ]

لا أَقْعُدُ الجُبْنَ عَنِ الهَيْجَاءِ *** وَلَوْ تَوَالَتْ زُمَرُ الأَعْدَاءِ{[758]}

وقسم يستوي فيه الأمران ، وهو المضاف كالآية الكريمة ، ويكون معرفةً ونكرةً ، وقد جمع حاتم الطائي الأمرين في قوله : [ الطويل ]

وَأَغْفِرُ عَوْرَاءَ الكَرِيمِ ادِّخَارَهُ *** وَأُعْرِضُ عَنْ شَتْمِ اللَّئِيمِ تَكَرُّمَا{[759]}

و " حَذَرَ المَوْتِ " مصدر مضاف إلى المفعول ، وفاعله محذوف ، وهو أحد المواضع التي يجوز فيها حذف الفاعل وحده .

والثاني : فعل ما لم يسم فاعله .

والثالث : فاعل " أفعل " في التعجُّب على الصحيح ، وما عدا هذه لا يجوز فيه حذف الفاعل وحده خلافاً للكوفيين .

والموت : ضد الحياة ؛ يقال : مَاتَ يَمُوتُ ويَمَاتُ ؛ قال الشاعر : [ الرجز ]

بُنَيَّتي سَيِّدَةَ البَنَاتِ *** عِيشِي وَلاَ يُؤْمَنُ أَنْ تَمَاتِي{[760]}

وعلى هذه اللّغة قرئ " مِتْنا " و " مِتُّ " - بكسر الميم - ك " خِفْنَا " و " خِفْتُ " ، فوزن " مَاتَ " على اللغة الأولى " فَعَلَ " بفتح العين ، وعلى الثانية " فَعِلَ " بكسرها ، و " المُوَات " : بالضمِّ المَوْت أيضاً ، وبالفتح : ما لا روح فيه ، والمَوَتَان بالتحريك ضد الحيوان ؛ ومنه قولهم : " اشْتَرِ المَوَتَانَ ، ولا تَشْتَرِ الحَيَوَانَ " ، أي : اشتر الأَرَضِينَ ، ولا تَشْتَرِ الرَّقِيق ، فإنه في مَعْرِضِ الهَلاَك ؛ و " المُوتَان " بضمّ " الميم " : وقوع الموت في الماشية ، ومُوِّتَ فلانٌ بالتشديد للمبالغة ؛ قال : [ الوافر ]

فَعُرْوَةُ مَاتَ مَوْتاً مُسْتَرِيحاً *** فَهَا أَنَا ذَا أُمَوَّتُ كُلَّ يَوْمِ{[761]}

و " المُسْتَمِيت " : الأمر المُسْتَرْسِل ؛ قال رؤْبَة : [ الرجز ]

وَزَبَدُ البَحْرِ لَهُ كَتِيتُ *** وَاللَّيْلُ فَوْقَ المَاءِ مُسْتَمِيتُ{[762]}

قوله : { وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ } [ البقرة : 19 ] .

وهو مجاز أي : لا يفوتونه . فقيل : عالم بهم ، كما قال : { أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا } [ الطلاق : 12 ] .

وقيل : جامعهم وقدرته مُسْتولية عليهم ؛ كما قال : { وَاللَّهُ مِن وَرَائِهِمْ مُّحِيطٌ } [ البروج : 20 ] .

وقال مجاهد : " يجمعهم فيعذبهم " {[763]} .

وقيل : يهلكهم ، قال تعالى : { إِلاَّ أَن يُحَاطَ بِكُمْ } [ يوسف : 66 ] أي : تَهْلِكُوا جميعاً .

وقيل : " ثَمَّ " مضافٌ محذوفٌ ، أي : عقابه محيطٌ بهم .

وقال أبو عَمْرو ، والكسَائِيُّ : " الكَافِرِينَ " [ بالإمالة ]{[764]} ولا يميلان

{ أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ } [ البقرة : 41 ] ، وهذه الجملة{[765]} مبتدأ وخبر .

وأصل " مُحِيط " : " مُحْوِط " ؛ لأنه من حَاطَ يَحُوط فأُعِلّ كإِعْلاَلِ " نَسْتَعِين " .

والإحاطة : حصر الشيء من جميع جهاته ، وهذه الجملة قال الزمخشري : " هي اعتراض لا محل لها من الإعراب " كأنه يعني بذلك أن جملة قوله : { يجعلون أصابعهم } ، وجملة قوله : { يكاد البرق } شيء واحد ؛ لأنهما من قصة واحدة ؛ فوقع ما بينهما اعتراضا .


[736]:- في أ: المصب.
[737]:- سقط في أ.
[738]:- في أ: بحال.
[739]:- البيت لجرير ينظر ديوانه: ص 416، الأزهية: ص 114، خزانة الأدب: 11/69، والدرر: 6/118، شرح التصريح: 1/283، شرح شواهد المغني: 1/196، مغني اللبيب: 1/62، 70، المقاصد النحوية: 2/485، 4/145، وأوضح المسالك: 2/124، والجنى الداني: ص 230، وشرح الأشموني: 1/178، وشرح ابن عقيل: ص 499، وشرح عمدة الحافظ: 627، شرح قطر الندى: ص 184، همع الهوامع: 2/134، النكت والعيون: 1/145، الدر المصون: 1/135.
[740]:- البيت لتوبة بن الحمير ينظر خزانة الأدب: 11/18، مغني اللبيب: 1/62، شرح شواهد المغني: 1/194، الأزهية: ص 114، أمالي المرتضى: 2/57، الدرر: 6/117، وبلا نسبة ورد في همع الهوامع: 2/134، لسان العرب (أوا) وصف المباني: ص 132، 427.
[741]:- ينظر الفخر الرازي: 2/71.
[742]:- البيت لذي الرمة. ينظر ملحقات ديوانه: (857)، والخصائص: (2/458)، والإنصاف: (478)، المحتسب: (1/99)، الخزانة: (4/423) ومعاني القرآن: (1/72)، والأزهية: (121)، وحروف المعاني: (52)، واللسان (أوى). وشرح جمل الزجاجي: (1/235) والأضداد (282)، والدر المصون: (1/135).
[743]:- البيت لعقلمة الفحل ينظر صلة ديوانه ص: 118، ولمتمم بن نويرة ينظر ديوانه: ص 87، وشرح أشعار الهذليين: 1/222، أو لرجل من عبد القيس أو لأبي وجزة، او لعلقمة في المقاصد النحوية: 4/532، وينظر لسان العرب (صوب)، (ألك)، (لأك)، (ملك)، والكتاب: 4/380، وشرح شواهد الشافية: ص 287، وشرح شافية ابن الحاجب: 2/346، وجمهرة اللغة: ص 982، وأمالي ابن الحاجب: ص 843، والأشباه والنظائر: 8/69، والاشتقاق: ص 26، وإصلاح المنطق: ص 71، والمنصف: 2/102، والمفضليات: (394)، جمل الزجاجي (60)، ومعاني الزجاج (1/80)، مجاز القرآن (1/33) والتهذيب (ألك)، الطبري (1/182) القرطبي: (1/182)، المحرر الوجيز: (1/116)، والأمالي الشجرية: (2/20، 292)، والدر المصون: (1/135).
[744]:- البيت لعلقمة. ينظر ديوانه: (34)، أمالي ابن الشجري: (2/20)، والمفضليات: (392)، القرطبي: (1/151)، النكت والعيون: (1/81)، والدر المصون: (1/135).
[745]:- أخرجه النسائي في السنن (3/164) عن عائشة ولفظه اللهم اجعلها صبيا نافعا كتاب الاستسقاء (17) باب القول عند المطر (15) حديث رقم (1523). وابن ماجه في السنن (2/1280) كتاب الدعاء باب ما يدعو به الرجل إذا رأى السحاب والمطر حديث رقم (3890). وأحمد في المسند (6/90) - وابن أبي شيبة (10/219) وابن عساكر (2/409). وذكره الزبيدي في الإتحاف (5/104) والهندي في كنز العمال حديث رقم (23551).
[746]:- عجز بيت للشماخ ينظر ديوانه: (432)، وذكره الشيخ محمد عليان المرزوقي في حاشيته على تفسير الكشاف وذكر صدره: عفا آية نسج الجنوب مع الصبا *** ..................... وقيل للنابغة الذبياني، وقيل للهيثم بن خوار. ينظر الكشاف: 1/81، البحر المحيط: 1/218، والرازي: 2/172.
[747]:- البيت لزهير بن أبي سلة ينظر ديوانه: 342، وشرح شواهد المغني: 2/821، واللامات: 84، مغني اللبيب: 2/395، والدر المصون: (1/136).
[748]:- في أ: بالبيت.
[749]:- البيت للعجاج. ينظر ديوانه: (2/232)، والكتاب: (1/359)، والتهذيب واللسان (حقف)، مجاز القرآم: (1/30)، وغريب القرآن: (210)، والبحر المحيط: (1/218)، والدر المصون: (1/136).
[750]:- ينظر البيت في إعراب ثلاثين سورة (98) ، البحر: (1/219)، الدر المصون: (1/136)، روح المعاني: (1/171).
[751]:- جزء من عجز بيت لأمية بن أبي الصلت وتمام البيت: له ما رأت عين البصير وفوقه *** سماء الإله................. ينظر ديوانه: (70)، والكتاب: 2/59، والمقتضب: (1/144)، الخصائص: (1/211)، الخزانة (1/118)، والمخصص: 9/3، والمنصف: (2/66، 68)، واللسان (سما)، والمذكر والمؤنث للمبرد: 1210 والأصول: 2/93، وما ينصرف وما لا ينصرف: 115، والسيرافي: 1/138. والشاهد فيه - سمائيا -؛ حيث حرك الياء في الجر ضرورة، ويضاف إلى هذا ضرورتان أخريان: جمع "سماء" على "فعائل"؛ كشمال وشمائل، والمستعمل فيها "سماوات"، والأخرى: أنه لم يغيرها إلى الفتح والقلب، فيقول: "سمايا"؛ كما يقال: خطايا.
[752]:- ينظر البيت في لسان العرب منسوبا لابن أحمر (صقع)، البحر المحيط: (1/220)، روح المعاني: (1/174)، والدر المصون: (1/138).
[753]:- نسبه القرطبي في الجامع لأحكام القرآن (1/153)لأبي النجم وهو في البحر المحيط (1/220). والدر المصون (1/138).
[754]:- ستأتي في الذاريات آية (44).
[755]:- البيت لابن مقبل في ديوانه 252، وإصلاح المنطق 205، وتذكرة النحاة 1/90، وشرح شواهد الإيضاح 529، والمعاني الكبير 606، وتذكرة النحاة 684، والصاحبي في فقه اللغة 140، ولسان العرب [فرد]، [نعر]، [صعق]، مجالس ثعلب 155، وهمع الهوامع 1/26، الدرر (1/7)، القرطبي (1/153)، والدر المصون (1/138).
[756]:- في ب: الوقعة الشديدة من صوت الرعد معها قطعة.
[757]:- أخرجه الترمذي في السنن (5/469) كتاب الدعوات (49) باب ما يقول إذا سمع الرعد (50) حديث رقم (3450) وقال أبو عيسى هذا حديث غريب لا نعرفه إلال من هذا الوجه وأخرجه النسائي في عمل اليوم والليلة ص 269، باب ما يقول إذا سمع الرعد والصواعق، وذكره الهندي في كنز العمال حديث رقم (18035).
[758]:- ينظر الهمع: (1/195)، الأشموني: (2/125)، والعيني: (3/69)، الدرر: (1/167)، شرح الكافية الشافية: (2/672) وشرح ابن عقيل: (2/187) وشرج الألفية لابن الناظم: (272) وشرح الألفية للمرادي: (2/88) والتصريح: (1/336)، الدر المصون: (1/138).
[759]:- ينظر ديوانه: ص 224، وخزانة الأدب: 3/122، 123، 124، وشرح أبيات سيبويه: 1/45، وشرح شواهد المغني: 2/952، الكتاب: 1/368، وشرح المفصل: 2/54، واللمع: ص 141، والمقاصد النحوية: 3/75، ونوادر أبي زيد: ص 110، أسرار العربية: ص 187، وخزانة الأدب: 3/115، ولسان العرب (عوز)، (خصص)، والعيني: (3/75)، والأشموني: (2/189)، والكشاف (1/85)، وروح المعاني: (1/174)، والدر المصون: (1/138).
[760]:- ينظر البيت في اللسان (موت)، القرطبي: (1/153)، والدر المصون: (1/139).
[761]:- ينظر اللسان: (موت)، والدر المصون: 1/139.
[762]:- ينظر البيت في ديوانه: (26)، القرطبي: (1/154)، الدر المصون: (1/139)، واللسان (موت).
[763]:- ذكره السيوطي في "الدر المنثور" (1/72) وعزاه لعبد بن حميد وابن جرير عن مجاهد.
[764]:- في ب: في محل النصب والخفض.
[765]:- في أ: الجملة من.