اعلم أنّ هذا مثل ثانٍ للمنافقين ، وكيفية المشابهة من وجوه :
أحدها : أنه إذا حصل السحاب والرعد والبرق ، واجتمع مع ظلمة السّحاب ظلمة الليل ، وظلمة المَطَرِ عند ورود الصواعق عليهم يجعلون أصابعهم في آذانهم من الصَّوَاعق حَذَرَ الموت ، وأن البرق يكاد يخطف أبصارهم ، فإذا أضاء لهم مَشَوْا فيه ، وإذا ذهب بَقَوا في ظلمة عظيمة ، فوقفوا متحيّرين ؛ لأنّ من أصابه البرق في هذه الظلمات الثلاث ثم ذَهَبَ عنه تشتدّ حيرته ، وتعظم الظُّلمة في عينيه أكثر من الذي لم يزل في الظلمة ، فشبّه المنافقين في حيرتهم وجهلهم بالدِّين بهؤلاء الذين وصفهم ، إذا كانوا لا يرون طريقاً ، ولا يهتدون .
وثانيها : أن المَطَرَ وإن كان نافعاً إلاّ أنه لما وجد في هذه الصُّورة مع هذه الأحوال الضَّارة صار النفع به زائلاً ، فكذا إظهار الإيمان نافعٌ للمنافقين لو وافقه الباطن ، فإذا فقد منه الإخلاص ، وحصل معه النفاق كان ضرراً في الدِّينِ .
وثالثها : أن من هذا حاله ، فقد بلغ النهاية في الحَيْرَةِ لاجتماع أنواع الظلمات ، وحصول أنواع المَخَافَةِ ، فحصلت في المنافقين نهاية الحَيْرَةِ في الدين ، ونهاية الخوف في الدنيا ؛ لأنّ المنافق يتصور في كل وقت أنه لو حصل الوقوف على باطنه لقتل ، فلا يزال الخَوْفُ في قلبه مع النفاق .
ورابعها : المراد من الصَّيِّب هو الإيمان والقرآن ، والظلمات والرعد والبرق هي الأشياء الشَّاقة على المنافقين من التكاليف كالصَّلاة والصوم وترك الرِّيَاسات ، والجهاد مع الآباء والأمّهات ، وترك الأديان القديمة ، والانقياد لمحمد - عليه الصَّلاة والسَّلام - مع شدّة استنكافهم عن الانقياد ، فكأنّ الإنسان يبالغ في الاحتراز عن المَطَرِ الصَّيِّب{[736]} الذي [ هو ]{[737]} أشَدُّ الأشياء نفعاً بسبب هذه الأُمُور المُقَارنة ، كذلك هؤلاء . والمراد من قوله : { كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُم مَّشَوْاْ فِيهِ } أنّه متى حصل لهم شيء من المَنَافع ، وهي عصمة أموالهم ودمائهم ، وحصول الغنائم ، فإنهم يرغبون في الدِّين .
قوله : { وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُواْ } أي متى لم يجدوا شيئاً من تلك المنافع ، فحينئذ يكرهون الإيمان ، ولا يرغبون فيه .
أظهرها : أنها للتفصيل بمعنى : أنَّ الناظرين في حال هؤلاء منهم من يشبههم بحال المُسْتَوْقد ، ومنهم من يشبههم بأَصْحَاب{[738]} صَيِّبٍ هذه صفته .
قال ابن الخطيب : " والثاني أبلغ ؛ لأنه أدلُّ على فرط الحيرة " .
والثاني : أنها للإبهام ، أي : أن الله أَبْهَمَ على عباده تشبيههم بهؤلاء أو بهؤلاء .
والثالث : أنها للشَّك ، بمعنى : أنَّ الناظر يشكُّ في تشبيههم .
الخامس : أنها للتخيير ، قالوا : لأن أصلها تساوي شيئين فصاعداً في الشك ، ثم اتسع فيها ، فاستعيرت للتساوي في غير الشك كقولك : " جالس الحسن أو ابن سيرين " يريد أنهما سيّان ، وأن يجالس أيهما شاء ، ومنه قوله تعالى : { وَلاَ تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً } [ الإنسان : 24 ] ، أي : الإثم والكفر متساويان في وجوب عصيانهما ، وزاد الكوفيون فيها معنيين آخرين :
أحدهما : كونها بمعنى " الواو " ؛ وأنشدوا : [ البسط ]
نَال الخِلاَفَةَ أوْ كَانَتْ لَهُ قَدَراً *** كَمَا أَتَى رَبَّهُ مُوسَى عَلَى قَدَرِ{[739]}
وقال تعالى : { تَأْكُلُواْ مِن بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ }
وَقَدْ زَعَمَتْ لَيْلَى بِأَنِّيَ فَاجِرٌ *** لِنَفْسِي تُقَاهَا أوْ عَلَيْهَا فُجُورُهَا{[740]}
قال ابن الخطيب{[741]} : وهذه الوجوه مطردة في قوله : { ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً } [ البقرة : 74 ] .
المعنى الثاني : كونها بمعنى : " بل " ؛ قال تعالى : { وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ } [ الصافات : 147 ] وأنشدوا : [ الطويل ]
بَدَتْ مِثْلَ قَرْنِ الشَّمْسِ في رَوْنَقِ الضُّحَى *** وَصُورَتِهَا أوْ أَنْتِ في العَيْنِ أمْلَحُ{[742]}
و " كصيب " معطوف على " كَمَثَلِ " ، فهو في محل رفع ، ولا بد من حذف مضافين ؛ ليصح المعنى ، التقدير يراد : " أو كمثل ذوي صيّب " ولذلك رجع عليه ضمير الجمع في قوله : { يَجْعَلُونَ أَصْابِعَهُمْ فِي آذَانِهِم } ، لأن المعنى على تشبيههم بأصحاب الصَّيِّب لا بالصيب نفسه .
و " الصَّيب " المَطَرُ سمي بذلك لنزوله ، يقال : صاب يصوب إذا نزل ؛ ومنه : صوَّب رأسه : إذا خفضه ؛ قال [ الطويل ]
فَلَسْتُ لإنْسِيٍّ ولَكِنْ لِمَلأَكٍ *** تَنَزَّلَ مِنْ جَوِّ السَّمَاءِ يَصُوبُ{[743]}
فَلاَ تَعْدِلِي بَيْنِي وَبَيْنَ مُغَمَّرٍ *** سَقَتْكِ رَوَايَا المُزْنِ حَيْثُ تَصُوبُ{[744]}
وقيل : إنه من صَابَ يَصُوب : إذا قصد ، ولا يقال : صَيّب إلا للمطر الجَوَاد ، كان - عليه الصلاة والسلام - يقول : " اللهم اجعله صَيِّباً هَنِيئاً " {[745]} أي : مطراً جواداً ، ويقال أيضاً للسحاب : صَيّب ؛ قال الشماخ : [ الطويل ]
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . *** وَأَسْحَمَ دَانٍ صَادِقِ الرَّعْدِ صَيِّبِ{[746]}
وتنكير " صيب " يدلّ على نوع زائد من المطر شديد هائلٍ كما نكرت " النَّار " في التمثيل الأول .
وقرئ " كصائب " ، والصَّيب أبلغ .
فقد ذهب البصرون أنه " فَيْعِل " ، والأصل : صَيْوِب أدغم ك " مَيّت " و " هَيّن " ، والأصل : مَيوت وهَيْوِن .
وقال بعض الكوفيين : وزنه " فَعِيل " والأصل : صَوِيب بزنة طويل .
قال النحاس : وهذا خطأ ؛ لأنه كان ينبغي أن يصح ولا يُعَلّ كطويل ، وكذا أبو البقاء .
وقيل وزنه : " فَعْيِل " فقلب وأُدغم .
واعلم أنه إذا قيل بأن الجملة من قوله : { ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ } استئنافية ، ومن قوله : { صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ } إنها من وصف المنافقين كانتا جملتي اعتراض بين المتعاطفين ، أعني قوله : " كَمَثَل " و " كَصَيِّبٍ " وهي مسألة خلاف منعها الفارسي ورد عليه بقول الشاعر : [ الوافر ]
لَعَمْرِكَ والخُطُوبُ مُغَيِّرَاتٌ *** وَفِي طُولِ المُعَاشَرَةِ التَّقَالِي
لَقَدْ بَالَيْتُ مَظْعَنَ أُمِّ أَوْفَى *** وَلَكِنْ أُمُّ أَوْفَى لا تُبَالِي{[747]}
ففصل بين القسم ، وهو " لعمرك " وبين جوابه ، وهو " لَقَدْ بَالَيْتُ " {[748]} بجملتين إحداهما : " والخطوب مغيرات " .
والثانية : " وفي طول المُعَاشرة التَّقالي " .
أحدهما : أن يتعلّق ب " صيب " ؛ لأنه يعمل عمل الفعل ، والتقدير : كمطر يَصُوب من السماء ، و " مِنْ " لابتداء الغاية .
والثَّاني : أن يكون في محلّ جر صفة ل " صيب " ، فيتعلّق بمحذوف ، وتكون " من " للتبغيض ، ولا بُدّ حينئذ من حذف مضاف تقديره : كصيّب كائن من أمطار السَّماءِ .
والسماء : هذه المطلّة ، وهي في الأصل كل ما عَلاكَ من سَقْفٍ ونحوه ، مشتقة من السُّمو ، وهو الإرتفاع ، والأصل : سَمَاو ، وإنما قُلبت الواو همزة لوقوعها طرفاً بعد ألف زائدة وهو بدل مُطّرد ، نحو : " كساء ورداء " ، بخلاف " سقاية وشقاوة " لعدم تطرف حرف العلّة ، ولذلك لما دخلت عليها تاء التأنيث صحَّت ؛ نحو : " سماوة " .
طَيَّ اللَّيَالِي زُلَفاً فَزُلَفَا *** سَمَاوَةَ الهِلاَلِ حَتَّى احْقَوْقَفَا{[749]}
والسماء مؤنث قال تعالى : { إِذَا السَّمَاءُ انفَطَرَتْ } [ الانفطار : 1 ] وقد تذكَّر ؛ قال تعالى : { السَّمَاءُ مُنفَطِرٌ بِهِ } [ المزمل : 18 ] ؛ وأنشد : [ الوافر ]
وَلَوْ رَفَعَ السَّمَاءَ إلَيْهِ قَوْماً *** لَحِقْنَا بَالسَّمَاءِ مَعَ السَّحَابِ{[750]}
فأعاد الضَّمير من قوله : " إلَيْهِ " على " السَّمَاء " مذكَّراً ، ويجمع على " سَمَاوَاتٍ ، وأَسْمِيَة ، وَسُمِيّ " ، والأصل " فعول " ، إلا أنه أعلّ إعلال " عِصِيّ " بقلب الواوين ياءين ، وهو قلب مطّرد في الجمع ، ويقلّ في المفرد نحو : عتا - عُتِيًّا ، كما شذ التصحيح في الجمع قالوا : " إنكم لتنظرون في نُحُوٍّ كثيرة " ، وجمع أيضاً على " سماء " ، ولكن مفرده " سَمَاوة " ، فيكون من باب تَمْرَةٍ وتَمْرٍ ، ويدلّ على ذلك قوله : [ الطويل ]
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . *** . . . . . . . . . . فَوْقَ سَبْعِ سَمَائِيَا{[751]}
ووجه الدّلالة أنه مُيِّز به " سَبْع " ولا تُمَيَّزُ هي وأخواتها إلاّ بجمع مجرور .
وفي قوله : " من السَّمَاءِ " ردّ على من قال : إن المطر إنما يحصل من ارتفاع أبخرة رطبة من الأَرْض إلى الهواء ، فتنعقد هناك من شدّة برد الهواء ، ثم ينزل مرة أخرى ، فذاك هو المطر ؛ فأبطل الله هذا المذهب بأن بَيّن أن الصَّيب نزل من السَّمَاء ، وقال : { وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُوراً } [ الفرقان : 48 ] .
وقال : { وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِن جِبَالٍ فِيهَا مِن بَرَدٍ } [ النور : 43 ] .
قوله : { فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ } [ البقرة : 19 ] يحتمل أربعة أوجه :
أحدها : أن يكون صفة ل " صَيّب " .
الثاني : أن يكون حالاً منه ، وإن كان نكرة لتخصصه ، إما بالعمل في الجار بعده ، أو بصفة بالجار بعده .
الثالث : أن يكون حالاً من الضمير المُسْتَكِنّ في " من السماء " إذا قيل : إنه صفة ل " صَيّب " ، فيتعلّق في التقادير الثلاثة بمحذوف ، إلاّ أنه على القول الأوّل في محلّ جر لكونه صفة لمجرور ، وعلى القولين الأخيرين في مَحَلّ نَصْب على الحال .
و " ظلمات " على جميع هذه الأقوال فاعل به ؛ لأنَّ الجار والمجرور والظرف متى اعتمدا على موصوف ، أو ذي حالٍ ، أو ذي خبر ، أو على نَفْي ، أو استفهام عملا عمل الفعل ، والأخفش يُعْمِلُهُمَا مطلقاً كالوصف ، وسيأتي تحرير ذلك .
الرابع : أن يكون خبراً مقدماً ، و " ظلمات " مبتدأ ، والجملة تحتمل وجهين :
الأول : الجر على أنها صفة ل " صيب " .
والثاني : النَّصْب على الحال ، وصاحب الحال يحتمل أن يكون " كصيب " ، وإن كان نكرة لتخصيصه بما تقدّمه ، وأن يكون الضَّمير المستكن في " من السَّماء " إذا جعل وصفاً ل " صيّب " ، والضمير في " فيه " ضمير " الصيب " ، واعلم أن جعل الجار صفة أو حالاً ، ورفع " ظلمات " على الفاعلية به أَرْجَحُ من جعل { فِيهِ ظُلُمَاتٌ } جملة برأسها في محلّ صفة أو حال ؛ لأنّ الجار أقرب إلى المفرد من الجملة ، وأصل الصفة والحال أن يكونا مفردين .
و " رَعْدٌ وبَرْقٌ " : معطوفان على " ظلمات " بالاعتبارين المتقدّمين ، وهما في الأصْل مصدران تقول : رَعَدَتِ السماء تَرْعَدُ رَعْداً ، وبَرَقَتْ بَرْقاً .
قال أبو البقاء : وهما على ذلك مُوَحَّدَتَانِ هنا يعني على المصدرية ويجوز أن يكونا بمعنى الرَّاعد والبارق ، نحو : رجل عَدْل .
والظاهر أنهما في الآية ليس المُرَاد بهما المصدر ، بل جعلا اسماً [ للهز واللمعان ] .
والبرق : اللَّمَعَان ، وهو مقصود الآية ، ولا حاجة حينئذ إلى جعلهما بمعنى اسم فَاعِلٍ .
وقال علي وابن عباس -رضي الله عنهما - وأكثر المفسرين : الرعد : اسم ملك يسوق السَّحاب ، والبرق : لَمَعَانُ سَوْطٍ من نور يزجر به الملك السحاب .
وقيل : الرعد صوت انضغاط السّحاب .
وقيل : الرعد نطق الملك ، والبرق ضحكه .
وقال مجاهد : الرعد اسم الملك ؛ ويقال لصوته أيضاً : رعد ، والبرق اسم ملك يسوق السحاب .
وقال شهر بن حَوْشَبٍ : الرعد ملك يُزْجِي السحاب ، فإذا تبددت ضمها فإذا اشتد غضبه طارت من فيه النَّار فهي الصواعق .
وقيل : الرعد صوت انحراق الريح بين السحاب . فإن قيل : لم جمع " الظّلمات " ، وأفرد " الرعد والبرق " ؟
فالجواب : أن في " ظلمات " اجتمع أنواع من الظُّلمة ، وهي ظلمة الليل ، وظلمة السحاب ، وظلمة تَكَاثف المطر ، وأما الرعد والبرق فكلّ واحد منهما نوح واحد .
ونكرت ؛ لأن المراد أنواع منها ، كأنه قيل : فيه ظلمات داجيةٌ ، ورعد قاصف ، وبرق خاطف .
{ يَجْعَلُونَ أَصْابِعَهُمْ } ، وهذه الجملة الظاهر أنها لا محلّ لها لاستئنافها كأنه قيل : ما حالهم ؟ فقيل : يجعلون .
وقيل : بل لها محلّ ، ثم اختلف فيه فقيل : جرّ ؛ لأنها صفة للمجرور ، أي : أصحاب صيب جاعلين ، والضمير محذوف .
أو نابت الألف واللام منابه ، تقديره : يجعلون أصابعهم في آذانهم من الصواعق منه أو من صواعقه .
وقيل : محلُّها نصب على الحال من الضمير في " فيه " .
والكلام في العائد كما تقدّم ، والجَعْل - هنا - بمعنى الإلقاء ، ويكون بمعنى الخَلْق ، فيتعدّى لواحد ، ويكون بمعنى " صَيَّرَ " أو " سمى " ، فيتعدى لاثنين ، ويكون للشروع ، فيعمل عمل " عسى " .
و " أَصَابِعَهُمْ " جمع إصبع ، وفيها عشر لُغَات : بتثليث الهمزة مع تثليت البَاءِ ، والعاشرة " أصبوع " بضم الهمزة .
والواو في " يَجْعَلُون " تعود لِلْمُضَاف المحذوف ، كما تقدم إيضاحه .
واعلم أنه إذا حذف المضاف جاز فيه اعتباران :
والثاني : ألا يلتفت إليه ، وقد جمع الأمران في قوله تعالى :
{ وَكَم مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتاً أَوْ هُمْ قَائِلُونَ } [ الأعراف : 4 ] ، والتقدير : وكم من أهل قرية فلم يراعه في قوله :
{ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءَهَا } ، ورعاه في قوله تعالى : { أَوْ هُمْ قَائِلُونَ } وذكر الأصابع ، وإن كان المجعول إنما هو رؤوس الأصابع تسمية للبعض باسم الكُلّ كما في قوله تعالى : { فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا } [ المائدة : 38 ] ، و{ فِي آذَانِهِم مِّنَ الصَّوَاعِقِ } كلاهما متعلّق بالجعل ، و " من " معناها التعليل .
و " الصَّوَاعق " : جمع صاعقة ، وهي الضَّجّة الشديدة من صوت الرعد تكون معها القطعة من النار .
ويقال : " ساعقة " بالسِّين ، و " صاعقة " ، و " صاقعة " بتقديم القاف ؛ وأنشد : [ الطويل ]
أَلَمْ تَرَ أَنَّ المُجْرِمِينَ أصَابَهُمْ *** صَوَاقِعُ لاَ بَلْ هُنَّ فَوْق الصَّواقِعِ{[752]}
يَحْكُونَ بِالمَصْقُولَةِ القَوَاطِعِ *** تَشَقُّقَ اليَدَيْنِ بِالصَّوَاقِعِ{[753]}
قال النَّحَّاس : وهي لغة " تميم " ، وبعض " بني ربيعة " ، فيحتمل أن تكون " صاقعة " مقلوبة من " صَاعِقة " ويحتمل ألاّ تكون ، وهو الأظهر لثبوتها لغةً مستقلةً كما تقدم .
ويقال : " صقعة " أيضاً ، وقد قرأ بها الكسَائي{[754]} في " الذاريات " .
يقال : صُعِقَ زيد ، وأصعقه غيره قال : [ الطويل ]
تَرَى النُّعَرَاتِ الزُّرْقَ تَحْتَ لَبَانِهِ *** أُحَادَ وَمَثْنَى أصعَقَتْهَا صَوَاهِلُهْ{[755]}
وقيل : " الصّاعقة " [ قصف رعد ينقض منها شعلة ]{[756]} من نارٍ لطيفة قوية لا تمرُّ بشيء إلاّ أتت عليه إلاّ أنها مع قوتها سريعة الخمود .
وقيل : الصاعقة : قطعة عذاب ينزلها الله على من يَشَاءُ ، وروي عن سالم بن عبد الله ابن عمر عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا سمع صوت الرَّعْدِ والصواعق قال : " اللَّهُمّ لا تقتلنا بغضبك ولا تُهْلكنا بِعَذَابِكَ وَعَافِنَا قبل ذَلِكَ " {[757]} .
قوله : { حَذَرَ الْمَوْتِ } أي : مَخَافَةَ الهلاك ، وفيه وجهان :
أظهرهما : أنه مفعول من أجله ناصبه " يجعلون " ، ولا يضر تعدّد المفعول من أجله ؛ لأن الفعل يعلّل يعلل .
الثاني : أنه منصوب على المصدر وعامله محذوف تقديره يحذرون حذراً مثل حَذَرِ الموت . و " الحَذَرُ " و " الحِذَار " مصدران ل " حذر " أي : خاف خوفاً شديداً .
واعلم أن المفعول من أجله بالنسبة إلى نصبه وجره بالحرف على ثلاثة أقسام :
قسم يكثر نصبه ، وهو ما كان غير معرف ب " أل " ولا مضاف نحو : " جئت إكراماً لك " .
وقسم عكسه ، وهو ما كان معرَّفاً ب " أل " ؛ ومن مجيئه منصوباً قول الشاعر : [ الرجز ]
لا أَقْعُدُ الجُبْنَ عَنِ الهَيْجَاءِ *** وَلَوْ تَوَالَتْ زُمَرُ الأَعْدَاءِ{[758]}
وقسم يستوي فيه الأمران ، وهو المضاف كالآية الكريمة ، ويكون معرفةً ونكرةً ، وقد جمع حاتم الطائي الأمرين في قوله : [ الطويل ]
وَأَغْفِرُ عَوْرَاءَ الكَرِيمِ ادِّخَارَهُ *** وَأُعْرِضُ عَنْ شَتْمِ اللَّئِيمِ تَكَرُّمَا{[759]}
و " حَذَرَ المَوْتِ " مصدر مضاف إلى المفعول ، وفاعله محذوف ، وهو أحد المواضع التي يجوز فيها حذف الفاعل وحده .
والثاني : فعل ما لم يسم فاعله .
والثالث : فاعل " أفعل " في التعجُّب على الصحيح ، وما عدا هذه لا يجوز فيه حذف الفاعل وحده خلافاً للكوفيين .
والموت : ضد الحياة ؛ يقال : مَاتَ يَمُوتُ ويَمَاتُ ؛ قال الشاعر : [ الرجز ]
بُنَيَّتي سَيِّدَةَ البَنَاتِ *** عِيشِي وَلاَ يُؤْمَنُ أَنْ تَمَاتِي{[760]}
وعلى هذه اللّغة قرئ " مِتْنا " و " مِتُّ " - بكسر الميم - ك " خِفْنَا " و " خِفْتُ " ، فوزن " مَاتَ " على اللغة الأولى " فَعَلَ " بفتح العين ، وعلى الثانية " فَعِلَ " بكسرها ، و " المُوَات " : بالضمِّ المَوْت أيضاً ، وبالفتح : ما لا روح فيه ، والمَوَتَان بالتحريك ضد الحيوان ؛ ومنه قولهم : " اشْتَرِ المَوَتَانَ ، ولا تَشْتَرِ الحَيَوَانَ " ، أي : اشتر الأَرَضِينَ ، ولا تَشْتَرِ الرَّقِيق ، فإنه في مَعْرِضِ الهَلاَك ؛ و " المُوتَان " بضمّ " الميم " : وقوع الموت في الماشية ، ومُوِّتَ فلانٌ بالتشديد للمبالغة ؛ قال : [ الوافر ]
فَعُرْوَةُ مَاتَ مَوْتاً مُسْتَرِيحاً *** فَهَا أَنَا ذَا أُمَوَّتُ كُلَّ يَوْمِ{[761]}
و " المُسْتَمِيت " : الأمر المُسْتَرْسِل ؛ قال رؤْبَة : [ الرجز ]
وَزَبَدُ البَحْرِ لَهُ كَتِيتُ *** وَاللَّيْلُ فَوْقَ المَاءِ مُسْتَمِيتُ{[762]}
قوله : { وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ } [ البقرة : 19 ] .
وهو مجاز أي : لا يفوتونه . فقيل : عالم بهم ، كما قال : { أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا } [ الطلاق : 12 ] .
وقيل : جامعهم وقدرته مُسْتولية عليهم ؛ كما قال : { وَاللَّهُ مِن وَرَائِهِمْ مُّحِيطٌ } [ البروج : 20 ] .
وقال مجاهد : " يجمعهم فيعذبهم " {[763]} .
وقيل : يهلكهم ، قال تعالى : { إِلاَّ أَن يُحَاطَ بِكُمْ } [ يوسف : 66 ] أي : تَهْلِكُوا جميعاً .
وقيل : " ثَمَّ " مضافٌ محذوفٌ ، أي : عقابه محيطٌ بهم .
وقال أبو عَمْرو ، والكسَائِيُّ : " الكَافِرِينَ " [ بالإمالة ]{[764]} ولا يميلان
{ أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ } [ البقرة : 41 ] ، وهذه الجملة{[765]} مبتدأ وخبر .
وأصل " مُحِيط " : " مُحْوِط " ؛ لأنه من حَاطَ يَحُوط فأُعِلّ كإِعْلاَلِ " نَسْتَعِين " .
والإحاطة : حصر الشيء من جميع جهاته ، وهذه الجملة قال الزمخشري : " هي اعتراض لا محل لها من الإعراب " كأنه يعني بذلك أن جملة قوله : { يجعلون أصابعهم } ، وجملة قوله : { يكاد البرق } شيء واحد ؛ لأنهما من قصة واحدة ؛ فوقع ما بينهما اعتراضا .