قوله : { اذهب أَنتَ وَأَخُوكَ بِآيَاتِي{[24373]} } لما قال : { واصطنعتك لِنَفْسِي } عقبه بذكر ما له اصطنعته ، وهو الإبلاغ والأداء ، و " الياء " في " بِآيَاتِي " بمعنى ( مع ){[24374]} ، لأنهما لو ذهبا إليه بدون آيةٍ معهما لم يلزمه الإيمان ، وذلك من أقوى الدلائل على فساد التقليد{[24375]} .
قال ابن عباس : يعني الآيات التسع التي بعث الله بها موسى{[24376]} . وقيل{[24377]} : إنها{[24378]} العصا واليد ، لأنهما{[24379]} اللذان جرى ذكرهما في هذا الموضع ، ولم يذكر أنه -عليه السلام-{[24380]} أوتي قبل مجيئه إلى فرعون ، لا بعد مجيئه حتى لقي فرعون فالتمس منه آية غير هاتين الآيتين ، قال تعالى حكاية عن فرعون { إِن كُنتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِهَآ إِن كُنتَ مِنَ الصادقين فألقى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُّبِينٌ وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَآءُ لِلنَّاظِرِينَ }{[24381]} ، وقال : { فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِن رَّبِّكَ إلى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ }{[24382]} .
فإن قيل : كيف يطلق لفظ الجمع على الاثنين ؟
أحدها{[24383]} : أن العصا كانت آيات ، انقلابُها{[24384]} حيواناً ، ثم إنها كانت في أول الأمر{[24385]} صغيرة ، لقوله{[24386]} تعالى : { تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَآنٌّ }{[24387]} ، ثم كانت تعظم وهذه آية أخرى ، ثم إنه كان عليه السلام يدخل في يده في فمها قلم تضره وهذه آية أخرى{[24388]} ، ثم كانت تنقلب{[24389]} عصا وهذه آية أخرى ، وكذلك اليد فإن بياضها آية ، وشُعَاعَها آية أخرى ، ثم زوالهما بعد ذلك آية أخرى ، فدل ذلك على أنهما كانتا{[24390]} آيات كثيرة .
وثانيها{[24391]} : هَبْ أن العصا أمرٌ واحدٌ ولكن فيها آيات ، لأن{[24392]} انقلابها حيةً يدل على وجود إله{[24393]} قادر على الكل عالم بالكل حكيم ، ويدل على نبوة موسى ، ويدل على جواز الحشر حيث انقلب الجماد حيواناً ، فهذه آيات كثيرة ، ولذلك قال{[24394]} : { إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مباركا }{[24395]} . . . إلى قوله . . . { فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً }{[24396]} فهاهنا أولى .
وثالثها{[24397]} : قال بعضهم : أقل الجمع اثنان{[24398]} .
وقيل : معنى قوله : " بِآيَاتِي " أمُدكُّما بآياتي ، وأظهر على أيديكما من الآيات ما تزاح به العلل من فرعون وقومه ، والمعنى : فإن آياتي معكما كما يقال : اذهب فإن{[24399]} جندي معك{[24400]} أي : إنِّي أمدك بهم من احتجت{[24401]} .
وقيل : الآيات : العصا ، واليد ، وحل العقدة من لسانه ، وذلك أيضاً معجزة{[24402]} .
قوله : { وَلاَ تَنِيَا } يقال : " وَنَى يَنِيَ وَنْيَاً كَوَعَد يَعِدُ وَعْداً ، إذا فَتَرَ{[24403]} .
والوَنْيُ{[24404]} الفُتُور ، ومنه : امرَأةٌ أَنَاةٌ{[24405]} ، وصفوها بفتور القيام كناية عن ضخامتها . قال زهير{[24406]} :
مَنَّا الأَنَاةُ وَبَعْضُ القَوْمِ يَحْسَبُنَا *** أَنَّا بِطَاءٌ وفي إبْطَائِنَا سِرْعُ{[24407]}
بكسر السين وفتح الراء مصدر ( سَرُع ) بفتح السين وضم الراء .
تقول : سَرُعَ سِرَعاً{[24408]} كصَغُرَ صِغَراً .
والأصل : ونَاةٌ ، فأبدلوا الهمزة{[24409]} من الواو كأحَد وليس بالقياس{[24410]} ، وفي الحديث : " إنَّ فِيكَ لَخَصْلَتَيْنِ يُحِبُّهُمَا اللهُ الحِلْمُ والأَنَاةُ " {[24411]} .
والوَانِي : المقصِّر في أمره ، قال الشاعر :
فَمَا اَنَا بالوَانِي وَلاَ الضَّرْع الغُمْرِ{[24412]} *** . . .
ووَنَى{[24413]} فعلٌ لازم يتَعَدى{[24414]} وزعم بعضهم{[24415]} أنه يكون من أخوات ( زال وانفك ) فيعمل بشرط النفي{[24416]} أو شبهه{[24417]} عمل ( كان ) ، فيقال{[24418]} : " مَا وَنِيَ زيدٌ قائماً ، وأنشد ابن مالك{[24419]} شاهداً على ذلك قوله :
لاَ يَنشي الحُبُّ{[24420]} شِيمَةَ الحُبِّ مَا دَا *** مَ فَلاَ يَحْسَبَنَّهُ ذَا ارْعِوَاءِ{[24421]}
أي : لا يزال الحُبُّ{[24422]} بضم الحاء شيمةَ الحِبِّ{[24423]} أي : بكسرها وهو المحب{[24424]} . ومن منع ذلك يتأول{[24425]} البيت على حذف حرف الجر{[24426]} ، لأنَّ{[24427]} هذا الفعل{[24428]} يتعدى تارة ب ( عَنْ ) وتارة ب ( في ){[24429]} يقال : ما ونَيْتُ عن حاجتك ، أو : في حاجتك فالتقدير : لا يفتر الحب في شيمة المحب ، وفيه مجاز بليغ وقد عدي في الآية الكريمة ب ( في ) .
قرأ يحيى بن وثَّاب " وَلاَ تِنِيَا " بكسر التاء{[24430]} إتباعاً لحركة النون ، وسكن الياء في " ذِكْرِي " {[24431]} .
وقرأ أهل الحجاز{[24432]} وأبو عمرو " لِنَفْسِيَ اذْهَبْ " {[24433]} ذِكْرِي اذْهَبَا " {[24434]} و { إِنَّ قَوْمِيَ اتخذوا }{[24435]} و{[24436]} { مِن بَعْدِيَ اسمه }{[24437]} بفتح الياء فيهن وافقهم{[24438]} أبو بكر في { مِن بَعْدِيَ اسمه } .
وقرأ الآخرون بإسكانها{[24439]} .
والمراد بالذكر تبليغ الرسالة . وقيل : لا تفترا عن ذكر الله . ( والحكمة فيه{[24440]} ){[24441]} أنَّ مَنْ ذكر جلالَ الله استخف غيره ، فلا يخاف أحداً ، ويقوى روحه بذلك الذكر فلا يضعف في{[24442]} مقصوده ، ومن ذكر الله فلا بد وأن يكون ذاكراً إحسانه ( وذاكرُ إحسانه ){[24443]} لا يفتر في أداء أوامره .
وقيل : لاَ تَنِيَا في ذِكْرِي عند فرعون ، وكيفية الذكر أن يذكرا{[24444]} لفرعون وقومه أنَّ الله تعالى لا يرضى منهم{[24445]} الكفر ، ويذكرا{[24446]} لهم أمر الثواب والعقاب ، والترغيب والترهيب{[24447]} .