اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{قَالَا رَبَّنَآ إِنَّنَا نَخَافُ أَن يَفۡرُطَ عَلَيۡنَآ أَوۡ أَن يَطۡغَىٰ} (45)

قوله : { قَالاَ رَبَّنَآ إِنَّنَا نَخَافُ أَن يَفْرُطَ عَلَيْنَآ أَوْ أَن يطغى } قد تقدم أن هارون لم يكن حاضراً هناك ، فكيف قال : { قَالاَ رَبَّنَآ } وتقدم جوابه{[24518]} .

فإن قيل : إن موسى -عليه السلام{[24519]}- قال : { قَالَ رَبِّ اشرح لِي صَدْرِي }{[24520]} وأجابه ( الله تعالى ){[24521]} بقوله : { قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يا موسى }{[24522]} وهذا يدل أنه شرح صدره ، ويسر{[24523]} ، وعيّن له ذلك الأمر ، فكيف قال بعده : " إنَّنَا{[24524]} نَخَافُ " ، فإن حصول الخوف يمنع من حصول شرح الصدر ، فالجواب : أن{[24525]} شرح الصدر عبارة عن قوته على ضبط تلك الأوامر والنواهي وحفظ تلك الشرائع على وجه لا يتطرق إليها السَّهو تلك والتحريف{[24526]} ، وذلك شيء آخر غير زوال{[24527]} الخوف{[24528]} . فإن قيل : أما علم موسى وهارون -عليهما السلام{[24529]}- وقد حمَّلهما الله تعالى الرسالة أنه تعالى يؤمنهما من القتل .

فالجواب قد أمِنا ذلك وإن جوزا أن ينالهما من قبل الأداء أو بعده ، وأيضاً فإنهما استظهرا بأن سألا{[24530]} ربهما ما يزيد في ثبات قلبهما{[24531]} على دعائه ، وذلك بأن ينضاف الدليل النقلي إلى العقلي زيادة في الطمأنينة كما في قوله تعالى{[24532]} : { وَلَكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي{[24533]} }{[24534]} .

فإن قيل : لمَّا تكرر الأمر من الله -تعالى- بالذهاب ، فعدم الذهاب والتعلل بالخوف هل يدل على المعصية ؟

فالجواب : إن اقتضى الأمر الفور كان كذلك من أقوى الدلائل على المعصية ، لا سيما وقد أكثر الله -تعالى- من أنواع التشريف ، وتقوية القلب ، وإزالة الغم ، ولكن الأمر ليس على الفور{[24535]} ، فزال السؤال ، وهذا من أقوى الدلائل على أن الأمر لا يقتضي الفور{[24536]} إذا ضممت إليه ما يدل على أن المعصية غير جائزة على الرسل{[24537]} .

قوله : { أَن يَفْرُطَ عَلَيْنَآ } مفعول " يَخَافُ " ، ويقال : فَرَطَ يَفْرُط سبق وتقدم ، ومنه الفارط{[24538]} وهو الذي يتقدم الواردة إلى الماء ، وفرس فرط تسبق الخيل ، أي : نَخَاف{[24539]} أن يعجل علينا بالعقوبة ويبادرنا بها . قاله الزمخشري{[24540]} . ومن ورود الفارط بمعنى المتقدم على الواردة قول الشاعر :

وَاسْتَعْجَلُونَا وَكَانُوا مِنْ صَحَابَتِنَا *** كمَا تَقَدَّم فُرَّاطٌ لِوُرَّادِ{[24541]}

وفي الحديث : " أنَا فَرَطُكُمْ عَلَى الحَوْضِ " {[24542]} أي سابقكم ومتقدمكم .

وقرأ يحيى بن وثاب وابن محيصن وأبو نوفل{[24543]} " يُفْرَط " بضم حرف المضارعة وفتح الراء على البناء للمفعول{[24544]} ، والمعنى : خافَا أن يسبق في العقوبة أي يحمله حامل عليها وعلى المعاجلة بها إما قومه وإما الشيطان وإما حبه الرياسة ، وإما ادعاؤه الإلهية .

وقرأ ابن محيصن في رواية الزعفراني{[24545]} : " أن يُفْرِط " بضم المضارعة وكسر الراء من أفرط{[24546]} .

قال الزمخشري : من أفرَطَهُ غيره ، إذا حمله على العجلة خَافَا{[24547]} أن يحمله حامل على المعاجلة بالعقاب{[24548]} .

وقال كعب بن زهير{[24549]} :

تَنْفِي{[24550]} الرِّيَاحُ القَذَى عنْهُ وَأفْرَطَهُ *** مِنْ صَوْبِ سَارِيَةٍ بِيضٌ يَعَالِيلُ{[24551]}

أي سبقت هذه البيض لتملاه .

وفاعل{[24552]} يفرط ضمير فرعون ، وهذا هو الظاهر الذي ينبغي أن لا يعدل عنه ، وجعله أبو البقاء مضمراً لدلالة الكلام عليه ، فقال : فيجوز أن يكون التقدير : أن يَفْرُط{[24553]} علينا{[24554]} منه قولٌ فأضمر القول لدلالة الحال عليه كما تقول : فَرَط منِّي قول ، وأن يكون الفاعل ضمير فرعون كما كان في " يَطْغَى " {[24555]} .

فصل

قال ابن عباس : " يَفْرُطَ عَلَيْنَآ " يعجل علينا بالقتل والعقوبة . يقال : فَرَطَ عَلَيْنَا فلان إذا عجل بمكروه ، وفَرَط منه أي بدر وسبق{[24556]} { أَوْ أَن يطغى } يجاوز الحد بالتخطي{[24557]} إلى أن يقول فيك ما لا ينبغي لجرأته عليك . واعلم أن من أمر بشيء فحاول دفعه لأعذار يذكرها فلا بد أن يختم كلامه بما هو الأقوى ، كما أن الهُدْهُدَ ختم عذره بقوله : { وَجَدتُّهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِن دُونِ الله }{[24558]} ، فكذا هاهنا بدأ موسى بقوله { أَن يَفْرُطَ عَلَيْنَآ } ، وختم بقوله { أَوْ أَن يطغى } لما كان طغيانه في حق الله -تعالى- أعظم من إفراطه في حق موسى وهارون{[24559]} .


[24518]:عند قوله تعالى: {اذهبا إلى فرعون إنه طغى}.
[24519]:في ب: عليه الصلاة والسلام.
[24520]:[طه: 25].
[24521]:ما بين القوسين سقط من ب.
[24522]:[طه: 36].
[24523]:ويسر: سقط من ب.
[24524]:في ب: أنا. وهو تحريف.
[24525]:أن: سقط من ب.
[24526]:في ب: التحريف والسهو.
[24527]:زوال: سقط من ب.
[24528]:الفخر الرازي 22/60.
[24529]:في ب: عليهما الصلاة والسلام.
[24530]:في ب: مثلا. وهو تحريف.
[24531]:في الأصل: قلوبهما.
[24532]:تعالى: سقط من ب.
[24533]:[البقرة: 260].
[24534]:الفخر الرازي 22/60.
[24535]:في ب: الفوز. وهو تصحيف.
[24536]:الكشاف 2/435.
[24537]:الفخر الرازي 22/60.
[24538]:الفارط: الذي يتقدم القوم فيصلح لهم الدلاء والأرشية وما أشبه ذلك من أمرهم حتى يردوا. الكامل 3/1364 – 1365 اللسان (فرط).
[24539]:أي نخاف: مكررة في الأصل.
[24540]:الكشاف 2/435.
[24541]:البيت من بحر البسيط قاله القطامي. تفسير ابن عطية 10/34، اللسان (فرط) والبحر المحيط 6/246.
[24542]:أخرجه البخاري (الرقاق) 4/141، (الفتن) 4/221، ومسلم (طهارة) 1/218، (فضائل) 4/1792، 1793 وابن ماجة (مناسك) 2/1016، (فتن) 2/1300، 1301 (زهد) 2/4139 – 6440 والنسائي (طهارة) 1/93- 95، وأحمد 1/425، 2/408، 4/313، 5/41، 86، 88، 89.
[24543]:هو أبو نوفل العرنجي، اسمه مسلم، أو عمرو بن مسلم، أخذ عن عائشة وابن عمر، وأخذ عنه عبد الملك بن عمير، وابن جدعان. خلاصة تذهيب تهذيب الكمال 3/251.
[24544]:انظر المختصر (87)، والمحتسب 2/52، والبحر المحيط 6/246، والإتحاف 303.
[24545]:هو عبد الله بن محمد بن هشام أبو محمد الزعفراني، روى القراءة عرضا عن خلف ودحيم الدمشقي، والدوري وغيرهم، وروى القراءة عنه عرضا علي بن الحسين الغضائري طبقات القراء 1/454 – 455.
[24546]:انظر المختصر (87)، الكشاف 2/435، البحر المحيط 6/246.
[24547]:في ب: خاف.
[24548]:الكشاف 2/435.
[24549]:هو كعب بن زهير بن أبي سلمى، صحابي، كان شاعرا مجودا كثير الشعر، مقدما في طبقته. الخزانة 9/153 – 155.
[24550]:في ب: تبقى وهو تصحيف.
[24551]:البيت من بحر البسيط قاله كعب بن زهير، وهو في ديوانه (7) واللسان (فرط) (علل).
[24552]:في ب: وفا. وهو تحريف.
[24553]:في ب: فيفرط. وهو تحريف.
[24554]:علينا: سقط من ب.
[24555]:انظر التبيان 2/891 ـ 892.
[24556]:انظر البغوي 5/434، وفي اللسان (فرط): الفرط: العجلة، وقال الفراء في قوله تعالى: "إنا نخاف أن يفرط علينا" قال: يعجل إلى عقوبتنا، والعرب تقول: فرط منه أمر، أي: بدر وسبق.
[24557]:من هنا نقله ابن عادل عن الفخر الرازي 22/60.
[24558]:[النمل: 24].
[24559]:آخر ما نقله عن الفخر الرازي 22/60.