قوله : «لاهيةً » يجوز{[27749]} أن تكون حالاً من فاعل «اسْتَمَعُوهُ » عند من يجيز{[27750]} تعدد الحال{[27751]} ، فيكون الحالان مترادفين{[27752]} .
وأن يكون حالاً من فاعل «يلعبون » فيكون الحالان متداخلين{[27753]} وعبر الزمخشري عن ذلك فقال : { وَهُمْ يَلْعَبُونَ لاَهِيَةً قُلُوبُهُمْ } حالان مترادفان أو متداخلتان{[27754]} وإذا جعلناهما حالين مترادفين ففيه تقديم الحال غير الصريحة على الصريحة{[27755]} وفيه من البحث ما في باب النعت{[27756]} .
( و «قلوبهم » مرفوع ب «لاَهِيَةً » ){[27757]} {[27758]} .
وقال البغوي : «لاَهِيَة » نعت تقدم{[27759]} الاسم ، ومن حق النعت أن يتبع الاسم في الإعراب ، فإذا تقدم النعت الاسم فله حالتان فصل ووصل ، فحالته في الفصل النصب كقوله تعالى { خاشِعاً أَبْصَارُهُمْ }{[27760]} { وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلاَلُهَا }{[27761]} و { لاَهِيَةً قُلُوبُهُمْ } ، وفي الوصل حالة ما قبله من الإعراب كقوله : { أَخْرِجْنَا مِنْ هذه القرية الظالم أَهْلُهَا }{[27762]} {[27763]} والعامة على «لاَهِيَة » ، وابن أبي عبلة على الرفع{[27764]} على أنها خبر ثان لقوله «وهُمْ » عند من يُجوِّز ذلك ، أو خبر مبتدأ محذوف عند من لا يجوّزه{[27765]} .
قوله : { وَأَسَرُّواْ النجوى الذين ظَلَمُواْ } يجوز في محل «الذين » ثلاثة أوجه :
أحدها : أنه بدل من ( واو ) «أسَرُّوا »{[27766]} تنبيهاً على اتصافهم بالظلم الفاحش وعزاه ابن عطية لسيبويه{[27767]} ، وغيره للمبرد{[27768]} .
الثاني : أنه فاعل ، والواو علامة جمع دلت على جمع الفاعل{[27769]} كما تدل التاء على تأنيثه ، وكذلك يفعلون في التثنية فيقولون : قاما أخواك{[27770]} وأنشدوا :
3704- يَلُومُونَنِي فِي اشْتِرَاءِ النَّخ *** خِيلِ أَهْلِي وَكُلُّهُمُ أَلُوَمُ{[27771]}
وإليه ذهب الأخفش{[27772]} وأبو عبيدة{[27773]} ، وضعف بعضهم هذه اللغة وبعضهم حسنها فنسبها{[27774]} لأَزْدِ شَنُوءَة{[27775]} .
وتقدمت هذه المسألة في المائدة عند قوله تعالى : { ثُمَّ عَمُواْ وَصَمُّواْ كَثِيرٌ مِّنْهُمْ }{[27776]} .
الثالث : أن يكون «الذين » مبتدأ «وأسَرُّوا » جملة خبرية قدمت على المبتدأ ويعزى للكسائي{[27777]} .
الرابع : أن يكون «الذين »{[27778]} مرفوعاً بفعل مقدر فقيل تقديره : يقول الذين{[27779]} ، واختاره النحاس ، قال : والقول كثيراً ما يضمر ، ويدل عليه قوله بعد ذلك : { هَلْ هاذآ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ }{[27780]} . وقيل : تقديره : أسرها الذين ظلموا{[27781]} .
الخامس : أنه خبر مبتدأ مضمر تقديره : هم الذين ظلموا{[27782]} .
السادس : أنه مبتدأ وخبره الجملة من قوله : { هَلْ هذا إِلاَّ بَشَرٌ } ( ولا بد من إضمار القول على هذا القول تقديره : الذين ظلموا يقولون هل هذا إلا بشر ){[27783]} والقول يضمر كثيراً{[27784]} . والنصب من وجهين :
أحدهما : الذم{[27785]} .
والثاني : إضمار «أعني »{[27786]} .
أحدهما : النعت{[27787]} .
والثاني : البدل من «للناس »{[27788]} ، ويعزى هذا للفراء{[27789]} ، وفيه بعد{[27790]} .
قوله : «هَلْ هذَا » إلى قوله : «تُبْصِرونَ » يجوز في هاتين الجملتين الاستفهاميتين أن تكونا في محل نصب بدلاً من «النَّجْوَى » وأن تكونا{[27791]}في محل نصب بإضمار القول . قالهما الزمخشري{[27792]} .
وأن تكونا في محل نصب على أنهما محكيتان ب «النَّجْوَى » ، لأَنها{[27793]} في معنى القول{[27794]} «وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ » جملة حالية من فاعل «تَأْتُونَ » .
فصل{[27795]}
اعلم أن الله -تعالى- ذم الكفار بهذا الكلام ، وزجر غيرهم عن مثله ، لأنهم إذا استمعوا وهم يلعبون لم يحصلوا إلى على مجرد الاستماع الذي قد تشارك{[27796]} فيه البهيمة الإنسان ، ثم أكد ذمهم بقوله : «لاَهِيَةً قُلُوبُهُمْ » واللاهية من لهي عنه إذا ذهل وغفل . وقدم ذكر اللعب على اللهو كما في قوله تعالى : { إِنَّمَا الحياة الدنيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ }{[27797]} تنبيهاً على أن اشتغالهم باللعب الذي معناه الذهول والغفلة والسخرية والاستهزاء مُعَلَّل باللهو الذي معناه الذهول ، فإنهم إنما أقدموا على اللعب لذهولهم عن الحق{[27798]} .
وقوله : «وَأسَرُّوا النَّجْوَى » فيه سؤال ، وهو أن النجوى اسم من التناجي ، وهو لا يكون إلا خفية ، فما معنى قوله : «وَأَسَرُّوا » ؟
فالجواب : أنهم بالغوا في إخفائها ، وجعلوها بحيث لا يفطن أحد لتناجيهم{[27799]} .
فإن قيل : لِمَ قال : { وَأَسَرُّواْ النجوى الذين ظَلَمُواْ } ؟
فالجواب : أن إبدال «الَّذِينَ ظَلَمُوا » من «أسَرُّوا » إشعار بأنهم الموسومون بالظلم الفاحش فيما أسروا به . أو جاء{[27800]} على لغة من قال : أكلوني البراغيث{[27801]} وقوله : { هَلْ هاذآ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ } قال الزمخشري : هذا الكلام كله في محل النصب بدلاً من «النَّجْوَى » أي : وَأسروا هذا الحديث{[27802]} ، وهو قولهم : { هَلْ هاذآ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ } . ويحتمل أن يكون التقدير : وَأَسروا النجوى وقالوا هذا الكلام{[27803]} وإِنما أسروا هذا الحديث لوجهين :
أحدهما : إنما كان ذلك شبه التشاور فيما بينهم ، والتحاور في طلب الطريق إلى هدم{[27804]} أمره ، وعادة المتشاورين أن يجتهدوا في كتمان سرهم عن أعدائهم .
الثاني{[27805]} : يجوز أن يسروا نجواهم بذاك ، ثم يقولوا{[27806]} لرسول الله والمؤمنين : إن كان ما{[27807]} تدعونه حقاً ( فَأخْبِرُونا بما أسررناه ){[27808]} {[27809]} .
واعلم أنهم طعنوا في نبوته{[27810]} -عليه السلام{[27811]}- بأمرين :
والثاني : أن الذي أتى به سحر .
وكلا{[27812]} الطعنين فاسد ، أما الأول ، فلأن النبوة تقف صحتها على المعجزات والدلائل لا على الصور ، إذ لو أرسل الملك إليهم لما علم كونه نبياً بصورته ، وإنما كان يعلم بالعلم ، فإذا أظهر ذلك على من هو بشر فيجب أن يكون نبياً ، بل الأولى{[27813]} أن يكون المبعوث إلى البشر بشراً ، لأن المرء إلى القبول من أشكاله{[27814]} أقرب ، وهو به أقيس . وأما الثاني وهو أن ما أتى به الرسول من القرآن ظاهره الوعيد لا مرية فيه ، ولا لبس ، وقد كان عليه السلام{[27815]} يتحداهم بالقرآن مدة من الزمان حالاً بعد حال ، وهم أرباب الفصاحة والبلاغة ، وكانوا في نهاية الحرص على إبطال أمره ، وأقوى الأمور في إبطال أمره معارضة القرآن ، فلو قدروا على المعارضة لامتنع أن لا يأتوا بها ، لأن الفعل عند توفر الدواعي وارتفاع الصارف واجب الوقوع ، فلما لم يأتوا بها ، لأن الفعل عند توفر الدواعي وارتفاع الصارف واجب الوقوع ، فلما لم يأتوا بها دلَّنا ذلك على أنه في نفسه معجز ، وأنهم عرفوا حاله{[27816]} فكيف يجوز أن يقال : إنه سحر والحال ما ذكرناه وكل ذلك يدل على أنهم كانوا عالمين بصدقه إلا أنهم كانوا يموهمون على ضعفائهم بمثل هذا القول ، وإن كانوا فيه مكابرين{[27817]} . والمعنى : «أفَتَأْتُونَ » تحضرون «السِّحْرَ وَأَنْتُم » تعلمون أنه سحر{[27818]} {[27819]} .