اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{تَبَارَكَ ٱلَّذِي نَزَّلَ ٱلۡفُرۡقَانَ عَلَىٰ عَبۡدِهِۦ لِيَكُونَ لِلۡعَٰلَمِينَ نَذِيرًا} (1)

مقدمة السورة:

1سورة الفرقان

مكية{[1]} وهي سبع وسبعون آية ، وثمانمائة واثنتان وسبعون كلمة ، وعدد حروفها ثلاثة آلاف وسبعمائة وثمانون حرفا .

قوله تعالى : { تَبَارَكَ الذي نَزَّلَ الفرقان على عَبْدِهِ } الآية . اعلم أنه تعالى تكلم في هذه السورة في التوحيد والنبوة وأحوال القيامة ثم ختمها بذكر العباد المخلصين المؤمنين . قال الزجاج : «تبارك » تفاعل من البركة{[35263]} . والبركة كثرة الخيرة وزيادته ، وفيه معنيان :

أحدهما : تزايد خيره وتكاثره . قال ابن عباس : معناه : جاء بكل بركة ، قال تعالى : { وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ الله لاَ تُحْصُوهَا } [ إبراهيم : 34 ] .

والثاني : قال الضحاك : تعظّم الذي نزل الفرقان ، أي : القرآن على عبده . وقيل{[35264]} : الكلمة تدل على البقاء ، وهو مأخوذ من بروك البعير ، ومن بروك الطير على الماء . وسميت البركة بركة ، لثبوت الماء فيها ، والمعنى : أنه سبحانه باق{[35265]} في ذاته أزلاً وأبداً ممتنع التغير ، وباق{[35266]} في صفاته ممتنع التبدل{[35267]} .

فإن قيل : كلمة «الذي » موضوعة في اللغة للإشارة إلى الشيء عند محاولة تعريفه بقضية معلومة ، وإذا كان كذلك فالقوم ما كانوا عالمين بأنه - سبحانه - الذي نزل الفرقان . فالجواب : أنه لما ظهر الدليل على كونه من عند الله ، فلقوة الدليل وظهوره أجراه مجرى المعلوم {[35268]} .

فصل

وصف القرآن بالفرقان ، لأنه فرق بين الحق والباطل في نبوة محمد - عليه السلام {[35269]}- وبين الحلال والحرام ، أو{[35270]} لأنه فرق في النزول كقوله : { وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى الناس على مُكْثٍ } [ الإسراء : 106 ] ، وهذا أقرب ، لأنه قال : { نَزَّلَ الفرقان على عَبْدِهِ } ولفظة «نزل » تدل على التفريق ، ولفظة «أنزل » تدل على الجمع ، ولهذا قال في سورة آل عمران : { نَزَّلَ عَلَيْكَ الكتاب بالحق ( مُصَدِّقاً لمَا بَيْنَ يَدَيْهِ{[35271]} ) } [ آل عمران : 3 ] { وَأَنْزَلَ التوراة والإنجيل }{[35272]} [ آل عمران : 3 ] . والمراد بالعبد ههنا محمد - صلى الله عليه وسلم{[35273]}- .

قوله : «ليكون » . اللام متعلقة ب «نزَّل » ، وفي اسم «يكون » ثلاثة أوجه :

أحدها : أنه ضمير يعود على «الَّذِي نزّل » ، أي : ليكون الذي نزل الفرقان نذيراً{[35274]} .

الثاني : أنه يعود على «الفرقان » وهو القرآن ، أي : ليكون الفرقان نذيراً{[35275]} ( أضاف الإنذار إليه كما أضاف الهداية إليه في قوله : { إِنَّ هذا القرآن يِهْدِي } [ الإسراء : 9 ] وهذا بعيد ؛ لأن المنذر والنذير من صفات الفاعل للتخويف ، ووصف القرآن به مجاز ، وحمل الكلام على الحقيقة أولى{[35276]} ){[35277]} .

الثالث : أنه يعود على «عبده » ، أي : ليكون عبده محمد - صلى الله عليه وسلم - نذيراً{[35278]} . وهذا أحسن الوجوه معنى وصناعة ، لقربه مما يعود عليه الضمير على أقرب مذكور . و «لِلعَالَمِين » متعلق ب «نَذِيراً » ، وإنما قدم لأجل الفواصل ، ودعوى إفادة الاختصاص بعيدة ، لعدم تأتيها هنا ، ورجح أبو حيان عوده على «الذي » ، قال : لأنه العمدة المسند إليه الفعل ، وهو من وصفه تعالى كقوله : { إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ } [ الدخان : 3 ] ، و «نذيراً » الظاهر فيه أنه بمعنى منذر ، وجوَّزوا أن يكون مصدراً بمعنى الإنذار كالنكير بمعنى الإنكار ، ومنه { فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ }{[35279]} [ القمر : 16 ] فإن قوله : «تبارك » يدل على كثرة الخير والبركة ، فالمذكور عقيبه لا بد وأن يكون سبباً لكثرة الخير والمنافع ، والإنذار يوجب الغم والخوف ، فكيف يليق ذكره بهذا الموضع ؟ فالجواب : أن الإنذار يجري مجرى تأديب الولد{[35280]} ، كما أنه كلما كانت المبالغة في تأديب الولد أكثر ( كان الإحسان إليه أكثر ، لما أن ذلك يؤدي في المستقبل إلى المنافع العظيمة ، فكذا ههنا كلما كان الإنذار كثيراً ) {[35281]} كان رجوع الخلق إلى الله أكثر ، وكانت السعادة الأخروية أتم وكثر ، وهذا كالتنبيه على أنه لا التفات إلى المنافع العاجلة ؛ لأنه تعالى لما وصف نفسه بأنه معطي الخيرات الكثيرة لم يذكر إلا منافع الدين ، ولم يذكر منافع الدنيا البتّة{[35282]} .


[1]:في النسختين تقدم. وندم تصحيح من الرازي. وانظر تصحيح ذلك وغيره في تفسير الإمام 28/117.
[35263]:معاني القرآن وإعرابه 4/57.
[35264]:وقيل: سقط من ب.
[35265]:في النسختين: باقي.
[35266]:في النسختين: باقي.
[35267]:انظر الفخر الرازي 24 /44- 45.
[35268]:انظر الفخر الرازي 24/45.
[35269]:في ب: صلى الله عليه وسلم وشرف وكرم وبجل ومجد وعظم.
[35270]:أو: سقط من ب.
[35271]:ما بين القوسين سقط من النسختين.
[35272]:انظر الفخر الرازي 24/45.
[35273]:المرجع السابق.
[35274]:انظر التبيان 2/980.
[35275]:انظر مشكل إعراب القرآن 2/129، الكشاف 3/88، تفسير ابن عطية 11/3، التبيان 2/980.
[35276]:انظر الفخر الرازي 24/45.
[35277]:ما بين القوسين سقط من الأصل.
[35278]:انظر مشكل إعراب القرآن 2/129، الكشاف 3/88، تفسير ابن عطية 11/3، التبيان 2/980.
[35279]:البحر المحيط 6/480.
[35280]:في النسختين الولد. والتصويب من الفخر الرازي.
[35281]:ما بين القوسين تكملة من الفخر الرازي.
[35282]:انظر الفخر الرازي 24/ 45 – 46.