اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{فِيهِ ءَايَٰتُۢ بَيِّنَٰتٞ مَّقَامُ إِبۡرَٰهِيمَۖ وَمَن دَخَلَهُۥ كَانَ ءَامِنٗاۗ وَلِلَّهِ عَلَى ٱلنَّاسِ حِجُّ ٱلۡبَيۡتِ مَنِ ٱسۡتَطَاعَ إِلَيۡهِ سَبِيلٗاۚ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ ٱللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ ٱلۡعَٰلَمِينَ} (97)

قوله : { فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ } يجوز أن تكون هذه الجملة في محل نصب على الحال ، إما من ضمير " وُضِعَ " وفيه ما تقدم من الإشكال .

وأمَّا من الضمير في " بِبَكَّةَ " وهذا على رأي مَنْ يُجِيز تعدد الحال لذي حالٍ واحدٍ .

وإما من الضمير في " للعالمِينَ " ، وإما من " هُدًى " ، وجاز ذلك لتخصُّصِه بالوَصْف ، ويجوز أن يكون حالاً من الضمير في " مُبَارَكاً " .

ويجود أن تكون الجملة في محل نصب ؛ نعتاً لِ " هُدًى " بعد نعته بالجار قبله . ويجوز أن تكون هذه الجملة مستأنفةً ، لا محل لها من الإعراب ، وإنما جِيء بها بياناً وتفسيراً لبركته وهُداه ، ويجوز أن يكون الحال أو الوصف على ما مر تفصيله هو الجار والمجرور فقط ، و " آياتٌ " مرفوع بها على سبيل الفاعلية لأن الجار متى اعتمد على أشياء تقدمت أول الكتاب رفع الفاعل ، وهذا أرجح مِنْ جَعْلِها جملةً من مبتدأ وخبر ؛ لأن الحالَ والنعتَ والخبرَ أصلها : أن تكون مفردة ، فما قَرُب منها كان أولى ، والجار قريب من المفرد ، ولذلك تقدَّم المفردُ ، ثم الظرفُ ، ثم الجملة فيما ذكرنا ، وعلى ذلك جاء قوله تعالى : { وَقَالَ رَجُلٌ مُّؤْمِنٌ مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ } [ غافر : 28 ] ، فقدم الوصف بالمفرد " مُؤمِنٌ " ، وثَنَّى بما قَرُبَ منه وهو { مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ } [ البقرة : 49 ] ، وثلَّث بالجملة وهي { يَكْتُمُ إِيمَانَهُ } وقد جاء في الظاهر عكس هذا ، وسيأتي الكلام عليه - إن شاء الله - عند قوله : { بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ } [ المائدة : 45 ] .

قوله : { مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً } فيه أوْجُه :

أحدها : أن " مَقَام " : بدل من " آيَاتٌ " وعلى هذا يقال : إن النحويين نَصُّوا على أنه متى ذكر جَمع لا يُبْدَل منه إلا ما يُوَفِّي بالجمع ، فتقول : مررت برجال زيد وعمرو وبكر ؛ لأن أقل الجمع - على الصحيح - ثلاثة ، فإن لم يُوَفِّ ، قالوا : وجب القطع عن البدلية ، إما إلى النصب بإضمار فِعْل ، وإما إلى الرفع ، على مبتدأ محذوف الخبر ، كما تقول - في المثال المتقدم - زيداً وعمراً ، أي : أعني زيداً وعمراً ، أو زيد وعمرو ، أي : منهم زيد وعمرو .

ولذلك أعربوا قول النابغة الذبياني : [ الطويل ]

تَوَهَّمْتُ آيَاتٍ لَهَا فَعَرَفْتُهَا *** لِسِتَّةِ أعْوَامٍ وَذَا العَامُ سَابِعُ

رَمَادٌ كَكُحْلِ الْعَيْنِ لأْياً أبينُهُ *** وَنُؤيٌ كَجِذْمِ الْحَوْضِ أثْلَمُ خَاشِعُ{[9]}

على القطع المتقدم ، أي : فمنها رمادٌ ونؤي ، وكذا قوله تعالى : { هَلُ أَتَاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ } [ البروج : 17-18 ] أي : أعني فرعون وثمود ، أو أذُمّ فرعونَ وثمودَ ، على أنه قد يُقال : إن المراد بفرعون وثمودَ ؛ هما ومَنْ تبعهما من قومهما ، فذكرهما وافٍ بالجمعيَّةِ .

وفي الآية الكريمة - هنا - لم يُذْكَر بعد الآيات إلا شيئان : المقام ، وأمن داخله ، فكيف يكون بَدَلاً ؟

وهذا الإشكال - أيضاً - وارد على قول مَنْ جعلَه خبرَ مبتدأ محذوفٍ ، أي : هي مقام إبراهيم ، فكيف يُخْبِر عن الجمع باثنين ؟

وفيه أجوبة :

أحدها : أن أقلَّ الجمع اثنان - كما ذهب إليه بعضهم .

قال الزمخشري : ويجوز أن يُراد : فيه آيات مقام إبراهيم ، وأمن من دخله ؛ لأن الاثنين نَوْعٌ من الجَمْع ، كالثلاثة والأربعة ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم : " الاثْنَانِ فَمَا فَوْقَهُمَا جَمَاعَةٌ " .

قال الزجَّاج : ولفظ الجمع قد يُستعمل في الاثنين ، قال تعالى : { إِن تَتُوبَآ إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا } [ التحريم : 4 ] .

وقال بعضهم : تمام الثلاثة قوله : { وَللَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ } وتقدير الكلام : مقام إبراهيم ، وأن من دخله كان آمناً ، وأن لله على الناس حَجَّ البيت ، ثم حذف " أن " اختصاراً ، كما في قوله : { قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ } [ الأعراف : 29 ] أي : أمر ربي أن اقسطوا .

الثاني : أن { مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ } وإن كان مفرداً لفظاً إلا أنه يشتمل على آياتٍ كثيرةٍ ، بمعنيين :

أحدهما : أن أثر القدمين في الصخرة الصَّمَّاء آية ، وغَوصَهما فيها إلى الكعبين آية أخْرَى ؛ وبعض الصخرة دون بعض آيةٌ ، وإبقاؤه على مر الزمان ، وحفظه من الأعداء الكثيرة آية ، واستمراره دون آيات سائر الأنبياء خلا نبينا صلى الله عليه وعلى سائرهم آية ، قال معناه الزمخشري .

وثانيهما : أن { مقام إبراهيم } بمنزلة آيات كثيرة لأن ما كان معجزة لنبي فهو دليل على وجود الصانع وعلمه وقدرته وإرادته وحياته ، وكونه غنيا منزها ، مقدسا عن مشابهة المحدثات ، فمقام إبراهيم وإن كان شيئا واحدا إلا أنه لما حصل فيه هذه الوجوه الكثيرة بمنزلة الآيات ، كقوله تعالى : { إن إبراهيم كان أمة قانتا لله حنيفا } ( النحل : 120 ) قاله ابن الخطيب .

الثالث : أن يكون هذا من باب الطي ، وهو أن يذكر جمع ، ثم يؤتى ببعضه ، ويسكت عن ذكر باقيه لغرض للمتكلم ، ويسمى طيا .

وأنشد الزمخشري عليه قول جرير : [ البسيط ]

كانت حنيفة أثلاثا فثلثهم *** من العبيد ، وثلث من مواليها{[10]}

وأورد منه قوله صلى الله عليه وسلم : " حبب إلى من دنياكم ثلاث : الطيب والنساء ، وجعلت قرة عيني في الصلاة " ذكر اثنين –وهما الطيب والنساء- وطوى ذكر الثالثة .

لا يقال إن الثالثة قوله صلى الله عليه وسلم : " جعلت قرة عيني في الصلاة " {[11]} لأنها ليست من دنياهم ، إنما هي من الأمور الأخروية .

وفائدة الطي –عندهم- تكثير ذلك الشيء ، كأنه تعالى لما ذكر من جملة الآيات هاتين الآيتين قال : وكثير سواهما .

وقال ابن عطية : " والأرجح –عندي- أن المقام ، وأمن الداخل ، جعلا مثالا مما في حرم الله- تعالى- من الآيات ، وخصا بالذكر ؛ لعظمهما ، وأنهما تقوم بهما الحجة على الكفار ؛ إذ هم مدركون لهاتين الآيتين بحواسهم " .

الوجه الثاني : أن يكون { مقام إبراهيم } عطف بيان ، قاله الزمخشري .

ورد عليه أبو حيان هذا من جهة تخالفهما تعريفا وتنكيرا ، فقال : وقوله مخالف لإجماع البصريين والكوفيين ، فلا يلتفت إليه ، وحكم عطف البيان عند الكوفيين حكم النعت ، فيتبعون النكرة نكرة ، والمعرفة معرفة ، ويتبعهم في ذلك أبو علي الفارسي . وأما البصريون ، فلا يجوز –عندهم- إلا أن يكونا معرفتين ، ولا يجوز أن يكونا نكرتين ، وعلى شيء أورده الكوفيون مما يوهم جواز كونه عطف بيان جعله البصريون بدلا ، ولم يقم دليل للكوفيين ؛ وستأتي هذه المسألة إن شاء الله- عند قوله : { من ماء صديد } ( إبراهيم 16 ) وقوله : { من شجرة مباركة زيتونة } ( النور 35 ) ولما أول الزمخشري مقام إبراهيم وأمن داخله –بالتأويل المذكور –اعترض على نفسه بما ذكرناه من إبدال غير الجمع من الجمع- وأجاب بما تقدم ، واعترض- أيضا- على نفسه بأنه كيف تكون الجملة عطف بيان للأسماء المفردة ؟ فقال : " فإن قلت : كيف أجزت أن يكون مقام إبراهيم والأمن عطف بيان للآيات . وقوله : { ومن دخله كان آمنا } جملة مستأنفة ، إما ابتدائية وإما شرطية ؟

قلت : أجزت ذلك من حيث المعنى ؛ لأن قوله : { ومن دخله كان آمنا } دل على أمن من دخله ، وكأنه قيل : فيه آيات بينات مقام إبراهيم وأمن من دخله ، ألا ترى أنك لو قلت : فيه آية بينة ، من دخله كان آمنا صح ؛ لأن المعنى : فيه آية بينة أمن من دخله " .

قال أبو حيان : " وليس بواضح ؛ لأن تقديره - وأمنَ الداخل - هو مرفوع ، عطفاً على " مَقَام إبراهيم " وفسر بهما الآيات ، والجملة من قوله : { وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً } لا موضع لها من الإعراب ، فتدافعا ، إلا إن اعتقد أن ذلك معطوف على محذوف ، يدل عليه ما بعده ، فيمكن التوجيه ، فلا يجعل قوله : { وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً } في معنى : وأمن داخله ، إلا من حيث تفسير المعنى ، لا تفسير الإعراب " .

قال شهاب الدين : " وهي مُشَاحَّةٌ لا طائلَ تحتَها ، ولا تدافع فيما ذكر ؛ لأن الجملة متى كانت في تأويل المفرد صح عطفُها عليه " .

الوجه الثالث : قال المبرد : " مَقَامُ " مصدر ، فلم يُجْمَع ، كما قال : { خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ } [ البقرة : 7 ] والمراد : مقامات إبراهيم ، وهي ما أقامه إبراهيم من أمور الحج ، وأعمال المناسك ، ولا شك أنها كثيرة ، وعلى هذا ، فالمراد بالآيات : شعائر الحج ، كما قال تعالى : { وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ }

[ الحج : 32 ] .

الوجه الرابع : أن قوله : { مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ } خبر مبتدأ مضمر ، تقديره : أحدها ، أي : أحد تلك الآيات البينات مقام إبراهيم ، أو مبتدأ محذوف الخبر ، تقديره : منها ، أي : من الآيات البيِّنات " مقام إبراهيم " .

وقال بعضهم : { مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ } لا تعلُّقَ له بقوله : { فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ } ، فكأنه - تعالى - قال : { فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ } ومع ذلك فهو { مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ } ومَقَرُّه ، والموضع الذي اختاره ، وعَبَدَ الله فيه ؛ لأن كل ذلك من الخِلال التي بها تَشَرَّف وتَعَظَّم .

وقرأ أبَيّ وعُمَر وابنُ عباس ومُجَاهِدٌ وأبو جعفر المديني - في رواية قتيبة - آية بيِّنة - بالتوحيد{[12]} ، وتخريج " مَقَامُ " - على الأوجه المتقدِّمة - سَهْل ، من كونه بدلاً ، أو بياناً - عند الزمخشري - أو خبر مبتدأ محذوف وهذا البدل متفق عليه ؛ لأن البصريين يُبْدِلون من النكرة مطلقاً ، والكوفيون لا يبدلون منها إلا بشرط وَصْفها ، وقد وُصِفَتْ .

فصل

قال المفسرون : الآيات منها مقام إبراهيم ، وهو الحَجَر الذي وضعه إبراهيم تحت قدميه ، لمَّا ارتفع بنيان الكعبة ، وضَعُفَ إبراهيم عن رَفْع الحجارة ، قام على هذا الحجر ، فغاصت فيه قدماه .

وقيل : إنه جاء زائراً من الشام إلى مكة وكان قَدْ حلف لامرأته أن لا ينزلَ بمكة حتى يرجع ، فَلَمَّا رجع إلى مكة قالت له أم إسماعيل : انزل حتى تغسل رأسك ، فلم ينزل ، فجاءته بهذا الحجر ، فوضعته على الجانب الأيمن ، فوضع قدمه عليه حتى غسلت أحد جانبي رأسه ، ثم حولته إلى الجانب الأيسر ، حتى غسلت الجانبَ الآخرَ ، فبقي أثرُ قدميه عليه ، فاندرس من كَثْرَةِ المَسْحِ بالأيدي .

وقيل : هو الحجر الذي قام عليه إبراهيم - عليه السلام - عند الأذان بالحج .

قال القفّال : " ويجوز أن يكون إبراهيم قام على ذلك الحجر في هذه المواضع كلِّها " .

وقيل : مقام إبراهيم ؛ هو جميع الحرم ، كما تقدم عن المبرد .

ومن الآيات - أيضاً - الحجر الأسود ، وزمزم ، والحطيم ، والمشاعر كلها .

ومن الآيات ما تقدم ذكره من أمر الطير والصيد ، وأنه بلد صدر إليها الأنبياء والمرسلون ، والأولياء والأبرار ، وأن الطاعة والصدقة فيه ، يُضاعف ثوابُها بمائة ألف .

والمقام هو في المسجد الحرام ، قُبالَة باب البيت .

وروي عن ابن عباس وعبد الله بن عمرو بن العاص أنهما قالا : الحجر الأسود ، والمقام من الجنة .

قال الأزرقي : ذرع المقام ذراع ، وسعة أعلاه أربعة عشر إصْبَعاً في أربعة عشر إصبعاً ، ومن أسفله مثل ذلك ، وفي طرفيه - من أعلاه وأسفله - طوقان من ذهب ، وما بين الطوقين من الحجر من المقام بارز ، لا ذهب عليه ، طوله من نواحيه كلها تِسعة أصابع ، وعرضه عشر أصابع في عشر أصابع طولاً ، وعرض حجر المقام من نواحيه ، إحدى وعشرون إصبعاً ، ووسطه مربع ، والقدمان داخلتان في الحجر سبع أصابع ، ودخولهما منحرفتان ، وبين القدمين من الحجر أصبعان ، ووسطه قد استدق من التمسُّح به ، والمقام في حوض من ساج مربع ، حوله رصاص ، وعلى الحوض صفائح رصاص ليس بها ، وعلى المقام صندوق ساج مسقف ، ومن وراء المقام ملبن ساج في الأرض ، في ظهره سلسلتان يدخلان في أسفل الصندوق ، فيقفل عليهما قفلان ، وهذا الموضع فيه المقام اليوم ، وهو الموضع الذي كان فيه في زمن الجاهلية ، ثم في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم وبعده ، ولم يُغَيَّر موضعه ، إلا أنه جاء سَيْل في زمن عمر بن الخطاب - يقال له : سيل أم نهشل ؛ لأنه ذهب بأمِّ نَهْشَلٍ بِنْتِ عُبَيْدَةَ بْنِ أبِي رُجَيْحَة ، فماتت ، فاحتمل ذلك السيل المقام من موضعه هذا ، فذهب به إلى أسفل مكة فأتي به ، فربطوه في أستار الكعبة - في وجهها - وكتبوا بذلك إلى عمر ، فأقبل عمر من المدينة فزعاً ، فدخل بعمرة في شهر رمضان ، وقد غُبِّيَ موضعُه ، وعفاه السيل ، فجمع عمر الناس ، وسألهم عن موضعه ، وتشاوروا عليه حتى اتفقوا على موضعه الذي كان فيه ، فجعله فيه ، وعمل عمر الردم ، لمنع السيل ، فلم يعله سيل بعد ذلك إلى الآن .

ثم بعث أمير المؤمنين المهدي ألف دينار ليضبّبوا بها المقام - وكان قد انثلم - ثم أمَرَ المتوكل أن يجعل عليه ذهب فوق ذلك الذهب - أحْسِنْ بذلك العمل - فعمل في مصدر الحاج سنة ست وثلاثين ومائتين ، فهو الذهب الذي عليه اليوم ، وهو فوق الذي عمله المهدي .

فصل

قوله : { وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً } .

قال الحسن وقتادة : كانت العرب - في الجاهلية - يقتل بعضهم بعضاً ، ويُغير بعضهم على بعض ، ومن دخل الحرم أمِنَ مِن القتل والغارة{[13]} ، وهذا قول أكثر المفسرين ، لقوله تعالى : { أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا جَعَلْنَا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ } [ العنكبوت : 67 ] .

وقيل : أراد به أن مَنْ دخله عام عمرة القضاء مع رسول الله صلى الله عليه وسلم كان آمِناً ، كما قال تعالى : { لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِن شَآءَ اللَّهُ آمِنِينَ } [ الفتح : 27 ] .

وقال الضَّحَّاكُ : من حَجَّه كان آمناً من الذنوب التي اكتسبها قبل ذلك .

وقيل : معناه من دَخَلَه مُعَظِّماً له ، متقرِّباً إلى الله - عز وجل - كان آمناً يوم القيامة من العذاب .

وقيل : هو خبر بمعنى الأمر ، تقديره : ومن دخله فأمِّنوه ، كقوله تعالى : { فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ } [ البقرة : 197 ] ، أي : لا ترفثوا ، ولا تفسقوا ، ولا تجادلوا .

فصل

قال أبو بكر الرازي : لما كانت الآيات المذكورة عقيب قوله : { إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ } موجودة في جميع الحرم ، ثم قال : { وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً } ، وجب أن يكون مراده جميع الحرم ، وأجمعوا على أنه لو قَتَل في الحرم ، فإنه يُسْتَوْفَى القصاص منه في الحرم ، وأجمعوا على أن الحرَم لا يفيد الأمان فيما سوى النفس ، إنما الخلاف فيما إذا وجب القصاص عليه خارج الحرم ، فالتجأ إلى الحرم ، فهل يُستوفى منه القصاص في الحرم ؟

فقال الشافعي : يستوفى .

وقال أبو حنيفة : لا يستوفى ، بل يمنع منه الطعام ، والشراب ، والبيع والشراء ، والكلام حتى يخرج ، ثم يستوفى منه القصاصُ ، واحتج بهذه الآية فقال : ظاهر الآية الإخبار عن كونه آمِناً ، ولا يُمكن حمله على الخبر ؛ إذْ قد لا يصير آمِناً في حق مَنْ أتى بالجناية في الحَرَم ، وفي القصاص فيما دون النفس ، فوجب حمله على الأمر ، وتركنا العمل به في الجناية التي دون النفس ؛ لأن الضرر فيها أخف من ضرر القتل ، وفي القصاص بالجناية في الحرم ؛ لأنه هو الذي هتك حُرْمة الحَرَم ، فيبقى في محل الخلاف على مقتضى ظاهر الآية .

وأجيب بأنَّ قوله : { كَانَ آمِناً } إثبات لمُسَمَّى الآية ، ويكفي في العمل به ، في إثبات الأمن من بعض الوجوه ، ونحن نقول به ، وبيانه من وجوه :

الأول : أن من دخله للنُّسُكِ ، تقرُّباً إلى الله تعالى ، كان آمِناً من النار يوم القيامة ، قال صلى الله عليه وسلم " مَنْ صَبَرَ عَلَى حَرِّ مكةَ سَاعةً من نَهَارِ تَبَاعَدَتْ عَنْهُ النَّارُ مَسِيرَةَ مِائَتَيْ عَامٍ{[14]} " ، وقال صلى الله عليه وسلم " مَنْ حَجَّ فَلَمْ يَرْفُثْ وَلَمْ يفْسقْ خَرَجَ من ذُنُوبِهِ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أمُّه " {[15]} .

الثاني : يحتمل أن يكونَ المراد : ما أودعه الله في قلوب الخَلْق من الشفقة على كل من التجأ إليه ، ودفع المكروه عنه ، ولما كان الأمر واقعاً على هذا الوجه - في الأكثر - أخبر بوقوعه على هذا الوجه مطلقاً ، وهذا أولى مما قالوه ، لوجهين :

الأول : أنا - على هذا التقدير - لا نجعل الخبر قائماً مقامَ الأمر ، وهم جعلوه قائماً مقامَ الأمر .

الثاني : أنه - تعالى - إنما ذكر هذا ، لبيان فضيلةِ البيتِ ، وذلك إنما يحصل بشيءٍ كان معلوماً للقوم حتى يصيرَ ذلك حجةً على فضيلة البيت ، فأما الحكم الذي بينه الله في شرع محمد صلى الله عليه وسلم ، فإنه لا يصير ذلك حجةً على اليهود والنصارى في إثبات فضيلة الكعبة .

الوجه الثالث : قد تقدم أن هذا إنما ورد في عمرة القضاء .

الرابع : ما تقدم - أيضاً - عن الضَّحَّاكِ أنه يكون آمِناً من الذنوب التي اكتسبها .

وملخّص الجواب : أنه حكم بثبوت الأمن ، ويكفي في العمل به إثبات الأمن من وَجْهٍ وَاحدٍ ، وفي صورة واحدة ، فإذا حملناه على بعض هذه الوجوه فقد عملنا بمقتضى هذا النَّصّ ، فلا يبقى في النص دلالة على قولهم ، ويتأكد هذا بأن حمل النَّصِّ على هذا الوجه ، لا يفضي إلى تخصيص النصوص الدالة على وجوب القصاص ، وحمله على ما قالوه يُفْضِي إلى ذلك ، فكان قولُنا أوْلَى .

قوله : " ولله على الناس حج البيت " لمَّا ذكر فضائلَ البيت ومناقبه ، أردفه بذكر إيجاب الحج إليه .

وقرأ حمزة والكسائي وحفص عن عاصم : " حِجّ البيت {[16]} " - بكسر الحاء في هذا الحرف خاصة ، وتقدم في البقرة في الشاذ بكسر الحاء - وتقدم هنا اشتقاق المادة - والباقون بفتحها - وهي لغة أهل الحجاز والعالية والكسر لغة نجد ؛ وهما جائزان مطلقاً في اللغة مثل رَطل ورِطل ، وبَذْر وبِذْر ، وهما لغتان فصيحتان بمعنى واحدٍ .

وقيل : المكسور اسم للعمل ، والمفتوح المصدر .

وقال سيبويه : يجوز أن تكون المكسورة - أيضاً - مصدراً كالذِّكر والعِلْم .

فصل

الحج أحد أركان الإسلام ؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " بُنِيَ الإسلامُ عَلَى خَمْسٍ : شَهَادَة أنْ لاَ إله إلاَّ اللهُ ، وأنَّ مُحَمَّداً رَسُولُ اللهِ ، وإقَامِ الصَّلاةِ ، وإيتَاءِ الزَّكَاةِ ، وَصَوْمِ رمضانَ ، وحَجَّ البيتِ لمن اسْتَطَاعَ إليه سبيلاً " {[17]} .

ويشترط لوجوبه خمسة شروط : الإسلام ، والبلوغ ، والعقل ، والحُرِّيَّة ، والاستطاعة .

فصل

احتجوا بهذه الآية على أن الكُفَّارَ مخاطبون بفروع الإسلام ؛ لأن ظاهر قوله تعالى { وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ } يعم المؤمنَ والكافرَ ، وعدم الإيمان لا يصلح معارضاً ، ومخصِّصاً ، لهذا العموم ؛ لأن الدهريّ مكلَّف بالإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم مع أن الإيمان بالله الذي هو شرط لصحة الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم ، غير حاصل ، والمُحْدِث مكلَّف بالصلاة ، مع أن الوضوء الذي هو شرط لصحة الصلاة ، غير حصل ، لم يكن عدم الشرط مانعاً من كونه مكلَّفاً بالمشروط .

فكذا هاهنا .

فصل

قال القرطُبي : دلَّ الكتاب والسنة على أن الحَجَّ على التراخي ، وهو أحد قولي مالك ، والشافعي ، ومحمد بن الحسن ، وأبي يوسف في رواية عنه ، وذهب بعض المتأخرين من المالكية إلى أنه على الفَوْر ، وهو قول داود ، والصحيح الأول ؛ لأنَّ الله تعالى قال في سورة الحج- : { وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً } [ الحج : 27 ] ، وسورة الحج مكيّة ، وقال هاهنا : { وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ } وهذه السورة نزلت عام أحد بالمدينة ، سنة ثلاثٍ من الهجرة ، ولم يحجّ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم إلى سنة عشر ، وأجمع العلماء على ترك تفسيق القادر على الحج ، إذا أخَّرَهُ عامداً .

فصل

روي أنه لما نزلت هذه الآيةُ قيل : " يا رسولَ اللهِ ، أكتبَ علينا الحَجُّ في كل عام ؟ ذكروا ذلك ثلاثاً ، فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم قال في الرابعة : " لَوْ قُلتُ : نَعَمْ لَوَجَبَتْ ، وَلَوْ وَجَبَتْ مَا قُمتمُ بها ، وَلَو لَمْ تَقُومُوا بِهَا لَكَفَرْتُمْ ، ألا فَوَادِعونِي ما وَادَعْتُكم وَإذَا أمَرْتُكُمْ بِأمْرٍ فَأتُوا مِنْهُ ما اسْتَطَعْتُمْ ، وَإذَا نَهَيْتُكُمْ عَنْ أمْرٍ فَانْتَهُوا عَنْهُ ، فَإنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بِكَثْرَةِ مَسَائِلِهِمْ ، وَاخْتِلاَفِهِمْ على أنْبِيَائِهِمْ " .

فصل

احتج العلماء بهذا الخبر ، على أن الأمر لا يفيد التكرار من وجهين :

الأول : أن الأمر ورد بالحج ، ولم يُفِد التكرار .

والثاني : أن الصحابة استفهموا ، هل يوجب التكرار أم لا ؟ ولو كانت هذه الصيغة تفيد التكرار لما استفهموا مع علمهم باللغة .

قوله : { مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً } فيه ستة أوجُه :

أحدها : أن " مَنْ " بدل من " النَّاس " بدل بعض من كل ، وبدل البعض وبدل الاشتمال لا بد في كل منهما من ضميرٍ يعود على المُبْدَل منه ، نحو : أكَلْتُ الرَّغِيفَ ثُلُثَه ، وسُلِب زيدٌ ثوبُه ، وهنا ليس من ضمير . فقيل : هو محذوف تقديره من استطاع منهم .

الثاني : أنه بدلُ كُلٍّ من كُلٍّ ، إذ المراد بالناس المذكورين : خاصٌّ ، والفرق بين هذا الوجه ، والذي قبله ، أن الذي قبله يقال فيه : عام مخصوص ، وهذا يقال فيه : عامٌّ أريد به الخاص ، وهو فرق واضح وهاتان العبارتان للشافعي .

الثالث : أنها خبر مبتدأ مُضْمَر ، تقديره : هم من استطاع .

الرابع : أنها منصوبة بإضمار فعل ، أي : أعني من استطاع .

وهذان الوجهان - في الحقيقة - مأخوذان من وجه البدل ؛ فإنَّ كل ما جاز إبداله مما قبله ، جاز قطعه إلى الرفع ، أو إلى النصب المذكورين آنفاً .

الخامس : أن " مَنْ " فاعل بالمصدر وهو " حَجُّ " ، والمصدر مضاف لمفعوله ، والتقدير : ولله على الناس أن يحج من استطاع منهم سبيلاً البيت .

وهذا الوجه قد رَدَّه جماعةٌ من حيث الصناعة ، ومن حيث المعنى ؛ أما من حيث الصناعة ؛ فلأنه إذا اجتمع فاعل ومفعول مع المصدر العامل فيهما ، فإنما يُضَاف المصدر لمرفوعه - دون منصوبة - فيقال : يعجبني ضَرْبُ زيدٍ عمراً ، ولو قلتَ : ضَرْبُ عمرٍو زيدٌ ، لم يجزْ إلا في ضرورة ، كقوله : [ البسيط ]

أفْنَى تِلاَدِي وَمَا جَمَّعْتُ مِنْ نَشَبٍ *** قَرْعُ الْقَوَاقِيزِ أفْوَاهُ الأبَارِيقِ{[18]}

يروى بنصب " أفواه " على إضافة المصدر - وهو " قَرْع " - إلى فاعله ، وبالرفع على إضافته إلى مفعوله . وقد جوَّزَ ، بعضُهم في الكلام على ضَعْفٍ ، والقرآن لا يُحْمَل على ما في الضرورة ، ولا على ما فيه ضعف ، أمَّا من حيث المعنى ؛ فلأنه يؤدي إلى تكليف الناس جميعهم - مستطيعهم وغير مستطيعهم - بأن يحج مستطيعهم ، فيلزم من ذلك تكليف غير المُسْتَطِيعِ بأن يَحُجَّ ، وهو غير جائز - وقد التزم بعضُهم هذا ، وقال : نعم ، نقول بموجبه ، وأن الله - تعالى - كلَّف الناسَ ذلك ، حتى لو لم يحج المستطيعون لزم غير المستطيعين أن يأمروهم بالحج حسب الإمكان ؛ لأن إحجاج الناس إلى الكعبة وعرفة فرضٌ واجب . و " مَنْ " - على هذه الأوجه الخمسة - موصولة بمعنى : الذي .

السادس : أنها شرطية ، والجزاء محذوف ، يدل عليه ما تقدم ، أو هو نفس المتقدم - على رأي - ولا بد من ضمير يعود من جملة الشرط على " النَّاسِ " ، تقديره : من استطاع منهم إليه سبيلاً فللّه عليه .

ويترجح هذا بمقابلته بالشرط بعده ، وهو قوله : { وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ } .

وقوله : { وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ } جملة من مبتدأ - وهو { حِجُّ الْبَيْتِ } - وخبر - وهو قوله : " لله " - و " عَلَى النَّاسِ " متعلق بما تعلق به الخبر ، أو متعلق بمحذوف ؛ على أنه حال من الضمير المستكن في الجار ، والعامل فيه - أيضاً - ذلك الاستقرار المحذوف ، ويجوز أن يكون على الناس هو الخبر ، و " لِلَّهِ " متعلق بما تعلق به الخبر ، ويمتنع فيه أن يكون حالاً من الضمير في " عَلَى النَّاسِ " وَإنْ كان العكس جائزاً - كما تقدم- .

والفرق أنه يلزم هنا تقديم الحال على العامل المعنوي ، والحال لا يتقدم على العامل المعنوي - بخلاف الظرف وحرف الجر ، فإنهما يتقدمان على عاملهما المعنوي ؛ للاتساع فيهما ، وقد تقدم أن الشيخ جمال الدين بن مالك ، يجوز تقديمها على العامل المعنوي - إذا كانت هي ظرفاً ، أو حرف جر ، والعامل كذلك ، ومسألتنا في الآية الكريمة من هذا القبيل . وقد جيء في هذه الآيات بمبالغاتٍ كثيرة .

منها قوله : { وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ } يعني : أنه حق واجب عليهم لله في رقابهم ، لا ينفكون عن أدائه والخروج عن عُهدته .

ومنها : أنه ذكر " النَّاسَ " ، ثم أبدل منهم { مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً } ، وفيه ضربان من التأكيد .

أحدهما : أن الإبدال تثنية المراد وتكرير له .

والثاني : أن التفصيل بعد الإجمال ، والإيضاح بعد الإبهام ، إيراد له في صورتين مختلفتين ، قاله الزمخشري ، على عادة فصاحته ، وتلخيصه المعنى بأقرب لفظ ، والألف واللام في " البَيْتِ " للعهد ؛ لتقدم ذكره ، وهو أعلم بالغلبة كالثريا والصعيد . فإذا قيل : زار البيتَ ، لم يَتَبَادر الذهن إلا إلى الكعبة شرفها الله .

وقال الشاعر : [ الطويل ]

لَعَمْرِي لأنْتَ الْبَيْتُ أكْرِمُ أهْلَهُ *** وَأقْعُدُ فِي أفْيَائِهِ بِالأصَائِلِ{[19]}

أنشد هذا البيت أبو حيان في هذا المعرض .

قال شهابُ الدين{[20]} : " وفيه نظر ، إذْ ليس في الظاهر الكعبة " .

الضمير في : " إلَيْهِ " الظاهر عوده على الحَجِّ ؛ لأنه محدَّث عنه .

قال الفراء : إن نويت الاستئناف ب " مَنْ " كانت شرطاً ، وأسقط الْجَزاء لدلالة ما قبله عليه ، والتقدير : من استطاع إلى الحج سبيلاً ، فللَّه عليه حجُّ البيت .

وقيل : يعود على " الْبَيْتِ " ، و " إلَيْهِ " متعلق ب " اسْتَطَاعَ " ، و " سَبِيلاً " مفعول به ؛ لأن استطاع متعدٍّ ، ومنه قوله تعالى : { لاَ يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ } [ الأعراف : 197 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .

فصل

قال أبو العباس المقرئ : ورد لفظ الاستطاعة بإزاء معنيين في القرآن :

الأول : سَعَة المال ، قال تعالى : { وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً } [ آل عمران : 97 ] أي : سعة في المال ومنه قوله تعالى : { لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ } [ التوبة : 42 ] أي : لو وجدنا سعة في المال .

الثاني : بمعنى الإطاقة ، قال تعالى : { وَلَن تَسْتَطِيعُواْ أَن تَعْدِلُواْ بَيْنَ النِّسَآءِ } [ النساء : 129 ] ، وقال : { فَاتَّقُواْ اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ } [ التغابن : 16 ] .

فصل

استطاعة السبيل إلى الشيء : عبارة عن إمكان الوصول إليه ، قال تعالى :

{ فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِّن سَبِيلٍ } [ غافر : 11 ] ، وقال : { هَلْ إِلَى مَرَدٍّ مِّن سَبِيلٍ }

[ الشورى : 44 ] .

قال عبد الله بن عمر : " سأل رجلٌ النبيُّ صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله ، ما يُوجب الحَجَّ ؟ فقال :الزاد والراحلة ، قال : يا رسول الله ، فما الحاجّ ؟ قال : الشعث ، التَّفِل . فقام آخر فقال : يا رسول الله ، أيُّ الحج أفضل ؟ فقال : الحج والثج ، فقام آخر فقال : يا رسول ما السبيلُ ؟ فقال : " زادٌ ورَاحِلة " {[21]}

ويعتبر في حصول هذا الإمكان صحة البدن ، وزوال خَوف التلف من سبع ، أو عدو ، أو فُقْدان الطعام والشراب ، والقدرة على المال الذي يشتري به الزاد ، والراحلة ، ويقضي جميع الديون التي عليه ، ويَرُدّ ما عنده من الودائع ، ويضع عند مَنْ تجب عليه نفقته من المال ، ما يكفيه لذهابه ومجيئه ، هذا قول الأكثرين .

وروى القفال : عن جُوَيْبِر عن الضحاك أنه قال : إذا كان شاباً صحيحاً ليس له مال ، فعليه أن يؤاجر نفسه حتى يقضي حجه ، فقال له قائل : أكلَّف الله الناس أن يمشوا إلى البيت ؟ فقال : لو كان لبعضهم ميراث بمكة أكان يتركه ؟ قال : لا ، بل ينطلق إليه ولو حبواً ، قال : فكذلك يجب عليه حجّ البيت .

وعن عكرمة - أيضاً - أنه قال : الاستطاعة هي : صحة البدن ، وإمكان المشي إذا لم يجد ما يركبه ؛ لأن الصحيح البدن ، القادر على المشي إذا لم يجد ما يركبه يصدق عليه أنه مستطيع لذلك الفعل ، فتخصيص الاستطاعة بالزاد والراحلة تَرْك لظاهر الآية ، فلا بد من دليل منفصل ، والأخبار المروية أخبار آحاد ، فلا يُتْرَك لها ظاهرُ الكتاب ، ولا سيما وقد طُعِنَ فيها من وجوه :

الأول : من جهة السند .

الثاني : أن حصول الزاد والراحلة قد لا يكفي ، فلا بد من اعتبار صحة البدن ، وعدم الخوف ، وهذا ليس في الأخبار ، فظاهرها يقتضي أن لا يكون شيء من ذلك مُعْتبراً .

الوجه الثالث : اعتبار وفاء الدين ، ونفقة عياله ، ورد الودائع .

وأجيبوا بأنه يُفْضِي إلى معارضة قوله تعالى : { وَمَا جَعَلَ عَلَيْكمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ } [ الحج : 78 ] وقوله : { يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ } [ البقرة : 185 ] .

فصل

احتج جمهورُ المعتزلةِ بهذه الآيةِ على أن الاستطاعة قبلَ الفعل ، فقالوا : لأنه لو كانت الاستطاعة مع الفعل لكان من لم يحج لم يكن مستطيعاً للحج ومن لم يكن مستطيعاً لا يتناوله التكليف المذكور في هذه الآية ، فيلزم منه أن كل من لم يحج لا يصير مأموراً بالحَجِّ بهذه الآية ، وذلك باطل .

وأجيبوا بأن هذا - أيضاً - يلزمهم ؛ لأن القادر إما أن يصير مأموراً بالفعل قبل حصول الداعي إلى الفعل ، أو بعد حصولِه ، أما قبل حصول الداعي ، فمحال ؛ لأن قبلَ حصولِ الداعي يمتنع حصول الفعل ، فيكون التكليف به تكليفاً بما لا يُطاقُ ، وأما بعد حصولِ الداعي ، فالفعل يصيرُ واجب الحصول ، فلا يكون في التكليف به فائدةٌ ، وإذا كانت الاستطاعةُ منفيةً في الحالتين ، وجب ألا يتوجه التكليفُ المذكورُ في هذه الآيةِ على أحدٍ .

فصل

إذا كان عاجزاً بنفسه ؛ لكونه زَمِناً ، أو مريضاً لا يُرْجَى بُرْؤه - وله مال يُمْكِن أن يستأجر مَنْ يَحُجُّ عنه - وجب عليه أن يستأجر ، لما روى عبد الله بن عباس ، قال : " كان الفضل بن عباس ردف النبي صلى الله عليه وسلم فجاءته امرأة من خثعم ، تستفتيه ، فجعل الفضلُ ينظر إليها ، وتنظر إليه ، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يصرف وَجْهَ الفضل إلى الشق الآخرِ ، فقالت : يا رسول الله ، إن فريضة الله على عباده في الحجِّ أدركَتْ أبي شيخاً كبيراً ، لا يستطيع أن يثبت على الراحلة ، أفأحجُّ عنه ؟ قال : نَعَم " .

وقال مالك : لا يجب عليه ، وهذا هو المعضوب ، والعَضْب : القطع ، وبه سُمِّيَ السيف عَضْباً ، فكأن من انتهى إلى ألا يقدر أن يستمسك على الراحلة ، ولا يثبت عليها بمنزلة من قطعت أعضاؤه ، أو لا يقدر على شيء .

وإن لم يكن له مال لكن بذل له ولدُه ، أو أجنبي ، الطاعةَ في أن يحج عنه ، فهل يلزمه [ أن يأمره ] إذا كان يعتمد صدقه ؟

وفي المسألة خلاف ، فالقائل بالوجوب قال : لأن وجوب الحج معلق بالاستطاعة ، وهذا مستطيع ، لأنه يقال - في العُرْف - : فلان مستطيع لبناء دارٍ ، وإن كان لا يفعله بنفسه ، وإنما يفعله بماله ، وبأعوانه- .

وقال أبو حنيفة : لا يجب ببذل الطاعة ، قال : وحديث الخثعميَّة يدل على أنه من باب التطوّعات ؛ وإيصال البر للأموات ، ألا ترى أنه شَبَّه فعل الحج بالدَّيْن ؟ وبالإجماع لو مات ميِّت وعليه دين لم يجب على وليِّه قضاؤه من ماله ، فإن تطوع بذلك تأدَّى عنه الدين ، ويدل على أن الحج في حديث الخثعمية ما كان واجباً قولُها : إن أبي لا يستطيع - ومن لا يستطيع لا يجب عليه ، وهذا تصريح بنفي الوجوب .

وقوله : { وَمَن كَفَرَ } يجوز أن تكون الشرطية - وهو الظاهر - ويجوز أن تكون الموصولة ، ودخلت الفاء ؛ شبهاً للموصول باسم الشرط كما تقدم ، ولا يخفى حال الجملتين بعدها بالاعتبارين المذكورين ، ولا بد من رابط بين الشرط وجزائه ، أو المبتدأ وخبره ، ومن جوَّز إقامة الظاهر مقام المضمر اكتفى بذلك في قوله : { غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ } كأنه قال : غني عنهم .

فصل

في هذا الوعيد قولان :

الأول : قال مجاهد : هلا كلام مستقلٌّ بنفسه ، ووعيد عام في حَقِّ مَنْ كَفَر بالله{[22]} ، ولا تعلُّق له بما قبلَه .

الثاني : قال ابْنُ عباس والحَسَنُ وعَطَاء : مَنْ جَحَد فرض الحَج{[23]} .

وقال آخرون : من ترك الحج ، لقوله صلى الله عليه وسلم : " مَنْ مَات ولم يَحُجَّ حَجَّة الإسْلامِ فَلْيَمُتْ إن شاء يَهُودِيًّا وإن شاء نَصْرَانِيًّا{[24]} " وقوله صلى الله عليه وسلم : " مَنْ مَات ولم يَحُجَّ حَجَّة الإسْلامِ - وَلَمْ تَمْنَعْهُ حَاجَةٌ ظَاهِرَةٌ أوْ مَرَضٌ حَابِسٌ ، أو سُلْطَانٌ جائر - فَلْيَمُتْ على أي حالةٍ شاء - يَهُودِيًّا أو نَصْرَانِيًّا{[25]} " .

وقال سعيد بن جبير : إن مات جارٌ لي لم يحج - وله ميسرة - لم أصَلِّ عليه{[26]} .

فإن قيل : كيف يجوز الحكم عليه بالكفر بسبب تَرْك الحج ؟

فالجواب قال القفال المراد منه التغليظ ، أي : قد قارب الكُفْر ، وعمل ما يعمله مَنْ كفر بالحج كقوله : { وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ } [ الأحزاب : 10 ] أي : كادت تبلغ .

وكقوله عليه السلام - : " مَنْ تَرَك الصلاة متعمِّداً فقد كَفَر{[27]} " وقوله صلى الله عليه وسلم : " مَنْ أتَى حَائِضاً أو امرأة في دبرها فقد كَفَر{[28]} " .

وأما الأكثرون فهم الذين حَمَلُوا هذا الوعيدَ على تارك اعتقاد الحج .

قال الضحاك : لما نزلت آية " الحج " ، جمع الرسولُ صلى الله عليه وسلم أهلَ الأديان الستة : المسلمين ، والنصارى ، واليهود ، والصابئين ، والمجوس ، والمشركين ، فخاطبهم ، وقال : " إن الله كتب عليكم الحج فحجوا " فآمن به المسلمون ، وكفرت به الملل الخمس ، وقالوا : لا نؤمن به ، ولا نصلي إليه ، ولا نحجه ، فأنزل الله تعالى : { وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ } .


[9]:سقط من: ب.
[10]:الجامع لأحكام القرآن 20/91.
[11]:سقط في ب.
[12]:سقط في ب.
[13]:ستأتي في "المؤمنون" 1 وينظر: شرح الطيبة 4/ 145.
[14]:قال سيبويه في الكتاب 3/265 وزعم من يوثق به: أنه سمع من العرب من يقول: "ثلاثة أربعه" طرح همزة أربعه على الهاء ففتحها، ولم يحولها تاء لأنه جعلها ساكتة والساكن لا يتغير في الإدراج، تقول: اضرب، ثم تقول: اضرب زيدا.
[15]:ينظر: الكتاب 4/ 166.
[16]:ينظر: الدر المصون 2/35.
[17]:ينظر: السبعة 200، والكشف 1/334، والحجة، 3/6 والبحر المحيط 2/389، والدر المصون 2/5.
[18]:قال سيبويه 3/25 "فإن قلت: ما بالي أقول: واحد اثنان، فأشم الواحد، ولا يكون ذلك في هذه الحروف فلأن الواحد اسم متمكن، وليس كالصوت، وليست هذه الحروف مما يدرج وليس أصلها الإدراج...".
[19]:ينظر: المشكل 1/ 123.
[20]:ينظر: الكتاب 2/107.
[21]:ينظر: البحر المحيط 2/391.
[22]:سقط في ب.
[23]:ينظر: الدر المصون 2/6.
[24]:ينظر ديوانه ص 216، ولسان العرب (ثور)، وخزانة الأدب 7/210، ورصف المباني ص 41 والمصنف 1/68، والدر المصون 2/6.
[25]:قرأ بها عيسى بن عمر كما في الشواذ 129، وستأتي في سورة "ص" آية 1،2.
[26]:تقدمت.
[27]:سقط في أ.
[28]:سقط في أ.