اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{۞مُنِيبِينَ إِلَيۡهِ وَٱتَّقُوهُ وَأَقِيمُواْ ٱلصَّلَوٰةَ وَلَا تَكُونُواْ مِنَ ٱلۡمُشۡرِكِينَ} (31)

والثاني : أنه منصوب بإضمار فعل{[42032]} . قال الزمخشري : وإنما أضمره على خطاب الجماعة لقوله : «مُنِيبِينَ إِلَيْهِ » وهو حال من الضمير في «الْزَمُوا »{[42033]} .

وقوله : { واتَّقُوهُ وأَقِيمُوا . . . وَلاَ تَكُونُوا } معطوف على هذا المضمر ، ثم قال : «أو عليكم فطرةَ الله »{[42034]} ورد أبو حيان بأن كلمة الإغراء لا تضمر ، إذ هي عِوَضٌ عن الفعل فلو حذفها لزم حذف العِوَضِ والمُعَوَّضِ عنه وهو إجحاف{[42035]} . قال شهاب الدين : هذا رأي البصريين وأما الكسائي وأتباعه فيجيزون ذلك{[42036]} .

فصل :

ومعنى فطرة الله : دين الله وهو التوحيد{[42037]} فإن الله فطر الناس عليه حيث أخرجهم من ظهر آدم وسألهم : { أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بلى } [ الأعراف : 172 ] وقال عليه السلام «مَا مِنْ مَوْلُودِ إِلاَّ وَهُوَ يُولَدُ عَلى الفِطْرَةِ وَإِنَّمَا أَبَواهُ يُهَوِّدانِهِ ويُنَصِّرانه ويمجّسانه »{[42038]} ، فقوله : «على الفطرة » ، يعني على العهد الذي أخذه عليهم بقوله : { ألست بربكم قالوا بلى } وكل مولود في العالم على ذلك الإقرار وهي الفطرة التي وقع الخلق عليها وإن عبد غيره قال الله تعالى : { وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ الله } [ الزخرف : 87 ] { مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى الله زلفى } [ الزمر : 3 ] ولكن لا عبرة بالإيمان الفِطْريِّ في أحكام الدنيا ، وإنما يعتبر الإيمان الشرعُ المأمور به ، وهذا قول ابن عباس وجماعة من المفسرين{[42039]} . وقيل : الآية مخصوصة بالمؤمنين وهم الذين فطرهم الله على الإسلام ، روي عن عبد الله بن المبارك قال معنى الحديث : إن كل مولود يولد على فِطرته أي على خلقته التي جُبِلَ عليها في علم الله تعالى من السعادة والشقاوة فكل منهم صائر في العاقبة إلى ما فطر عليها وعامل في الدنيا بالعمل المشاكل لها فمن أمارات الشقاء أن يُولَد بين يَهْودِيَّيْنِ أو نَصْرَانِيَّيِْنِ فيحملانه لشقائه على اعتقاده دينهما ، وقيل : معنى الحديث أن كل مولود في مَبْدأ الخلقة على الفطرة أي على الجبلّة السليمة والطبع المنهيّ لقبول الدين ، فلو ترك عليها لاستمر على لزومها ؛ لأن هذا الدين موجود حُسْنُهُ في العقول ، وإنما يَعْدِلُ عنه من يَعْدِلُ إلى غيره لآفة من النُّشوءِ والتقليد فمن يَسْلَمْ من تلك الآفات لم يعتقد غيره ، ذكر هذه المعاني أبو سليمان الخَطَّابيُّ في كتابه .

قوله : { لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ الله } فمن حمل الفِطرة على الدين قال معناه : لا تبديل لدين الله ، فهو خبر بمعنى النهي ، أي لا تُبَدِّلُوا دين الله ، قاله مجاهد{[42040]} وإبراهيم{[42041]} والمعنى الزموا فطرة الله أي دين الله فاتبعوه ، ولا تبدلوا التوحيد بالشرك . وقيل : هذا تسلية للنبي - صلى الله عليه وسلم – عن الحزن حيث لم يؤمن قومه فقال : هم خلقوا للشقاوة ، ومن كتب شقياً لا يسعد ، وقال عكرمة ومجاهد : معناه{[42042]} تحريم إخصاء البهائم ، ثم قال : { ذَلِكَ الدين القيم } المستقيم الذي لا عوج فيه { ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَعْلَمُونَ } أن ذلكَ هُوَ الدينُ المستقيمُ{[42043]} .

قوله : «مُنِيبِينَ » حال من فاعل «الْزمُوا »{[42044]} المضمر كما تقدم ، أو من فاعل{[42045]} «أَقِمْ » على المعنى لأنه ليس يراد به واحدُ بعينه ، وإنما المراد الجميع ، وقيل : حال من «النَّاسِ{[42046]} » إِذَا أريد بهم المؤمنون ، وقال الزجاج بعد قوله : «وَجْهَكَ » معطوف تقديره «فَأَقِمْ وَجْهَكَ وأُمَّتَكَ » فالحال من الجميع ، وَجَازَ حذل المعطوف لدلالة «مُنِيبِينَ » عليه ، كما جاز حذفه في قوله : { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ } أي والناسُ لدلالة : «إِذَا طَلَّقْتُمْ » عليه ، كذا زعم الزجاج{[42047]} ، في { يا أَيُّهَا النبي } [ الطلاق : 1 ] وقيل : على خبر كان ، أي كُونُوا مُنِيبِينَ ، لدلالة قَوْلِهِ : «وَلاَ تَكُونُوا »{[42048]} .

فصل :

معنى منيبين إليه أي{[42049]} مُقْبِلِينَ عليه بالتوبة والطاعة ، «وَاتَّقُوهُ » إي إِذَا أقبلتم عليه ، وتركتم الدنيا ، فلا تأمنوا فتتركوا عبادته بل خافوه وداوموا على العبادة «وأَقِيمُوا الصَّلاَةَ » ولا تَكُونُوا مِنَ المشركِينَ{[42050]} ؛ بإِعادة العامل .


[42032]:أي الزموا فطرة الله أو عليكم فطرة الله، وانظر هذين الإعرابين في البحر المحيط 7/171، والدر المصون 4/322، ومعاني القرآن 4/184، والتبيان 1040، والكشاف 3/222، وإعراب القرآن للنحاس 4/271.
[42033]:انظر: الكشاف 3/222 وقد قال الزمخشري عند "فطرة" إن التقدير: الزموا فطرة الله أو عليكم فطرة الله.
[42034]:هذا بقية كلام الزمخشري. انظر: الكشاف 3/222.
[42035]:البحر المحيط 7/172 مع تصرف طفيف في عبارته.
[42036]:الدر المصون 4/325.
[42037]:معاني الفراء 2/324.
[42038]:الحديث في الكشاف 3/222 والقرطبي 14/24 برواية أبي هريرة- رضي الله عنه.
[42039]:وهو قول ابن زيد أيضاً، انظر: الطبري 21/26، والقرطبي 14/24 و 25/26.
[42040]:انظر: القرطبي 14/31.
[42041]:السابق وإبراهيم هو: إبراهيم بن سويد النخعيّ الكوفيّ الأعور عن علقمة والأسود، وعنه سلمة بن كهيل وزيد اليامي. انظر: خلاصة الكمال 18.
[42042]:انظر: القرطبي أيضاً 14/31 وهذا عن ابن عباس وعمر بن الخطاب.
[42043]:نقله في القرطبي 14/31.
[42044]:نقله في البحر المحيط 7/172 والدر المصون 4/325 والتبيان 1040، وانظر: إعراب النحاس 3/272 ومعاني القرآن وإعرابه للزجاج كما سيأتي أيضاً 4/185 فضلاً عن الكشاف للزمخشري 3/222.
[42045]:البيان 2/259 والمراجع السابقة.
[42046]:المراجع السابقة.
[42047]:قال في معاني القرآن: زعم جميع النحويين أن هذا فأقيموا وجوهكم منيبين إليه لأن مخاطبة النبي- صلى الله عليه وسلم- يدخل معه فيها الأمة والدليل على ذلك قوله "يأيها النبي إذا طلقتم النساء".
[42048]:ذكر هذا أبو حيان في البحر المحيط 7/173.
[42049]:نقله القرطبي 14/32.
[42050]:في معظم المراجع (من الذين فرقوا- بدل من المشركين) الكشاف 3/222 والبحر المحيط 7/173 والدر المصون 4/325.