اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{وَمَن يَعۡشُ عَن ذِكۡرِ ٱلرَّحۡمَٰنِ نُقَيِّضۡ لَهُۥ شَيۡطَٰنٗا فَهُوَ لَهُۥ قَرِينٞ} (36)

قوله : { وَمَن يَعْشُ } العامة على ضم الشين من عَشَا يَعْشُو ، أي يَتَعَامَى ، ويَتَجَاهَلُ .

وعن ابن عباس وقتادة ويَحْيَى بْنِ سَلاَّم{[49819]} بفتح الشين بمعنى يَعْمَ ، يقال : عَشِيَ يَعْشَى عَشاً إذَا عَمِيَ ، فَهُوَ أَعْشَى ، وامرأَةٌ عَشْوَاء{[49820]} . وزيد بن علي يَعْشُو بإثبات الواو{[49821]} . وقال الزمخشري : على أن من موصولة ، وحق هذا أن يقرأ نُقَّيِّضُ بالرفع{[49822]} . قال أبو حيان : ولا يتعين موصوليتُها ، بل يخرج على وجهين ، إما تقدير حذف حركة حرف العلة ، وقد حكاها الأخفش لغةً ، وتقدم منه في سورة يُوسُفَ شواهدُ .

وإما على أنه جُزِمَ بمَنْ المَوْصُولَة تشبيهاً لها بمَنْ الشَّرْطيَّة{[49823]} .

قال{[49824]} : وإذا كانوا قد جزموا بالذي وليس بشرط قَط فأولى بما استعمل شرطاً وغير شرط{[49825]} {[49826]} ، وأنشد :

4402 وَلاَ تَحْفِرَنْ بئْراً تُريدُ أَخاً بِهَا *** فَإنَّكَ فِيهَا أَنْتَ مِنْ دُونِهِ تَقَعْ

كَذَلِكَ الَّذِي يَبْغِي عَلَى النَّاسِ ظَالِمًا *** تُصِبْهُ عَلَى رَغْمٍ عَواقِبُ مَا صَنَعْ{[49827]}

قال : وهو مذهب الكوفيين ، وله وجه من القياس ، وهو أنَّ «الذي » أشْبَهَتْ اسم الشرط في دخول الفاء في خبرها ، واسم الشرط في الجزم أيضاً ، إلا أن دخول الفاء منقاسٌ بشرطه{[49828]} وهذا لا يَنْقَاسُ{[49829]} .

ويقال{[49830]} : عَشَا يَعْشُوا ، وَعشِيَ يَعْشَى ، فبعضهم{[49831]} جعلهما بمعنًى . وبعضهم فرق بأن عَشِيَ يَعْشَى ، إذا جعلت الآفة في بصره ، وأصله الواو . وإنما قبلت ياء ، لانكسار ما قبلها ، كَرَضِيَ يَرْضَى . وعَشَا يَعْشُو أي تفاعل ذلك ، ونَظَرَ نَظَرَ العُشْي ، ولا آفة ببصره .

كما قال : عَرِجَ لمن به آفة العرج . وعَرَجَ لمن تعارج ومشى مِشْيَة العرْجَانِ{[49832]} . قال ( رحمةُ اللهِ عليه{[49833]} ) :

4403 أَعْشُو إِذَا مَا جَارَتِي بَرَزَتْ *** حَتَّى يُوارِي جَارَتِي الخِدْرُ{[49834]}

أي أنظر نظر العُشْي ، وقال آخر :

4404 مَتَى تَأْتِهِ تَعْشُوا إلى ضَوْءِ نَارِهِ *** تَجِدْ خَيْرَ نَارٍ عِنْدَهَا خَيْرُ مُوقِدِ{[49835]}

أي ينظر نظر العُشي لضعف بصره من كثرة الوقُود . وفرّق بعضهم : بأن عشوت إلى النار إذَا استدللت عليها{[49836]} بنظر ضعيف . وقال الفَرَّاء عَشَا يَعْشُوا : يُعْرِضُ ، وعَشِيَ يَعْشَى عَمِيَ{[49837]} ، إلا أن ابن قتيبةَ قال : لم نَرَ أحداً حكى : عَشَوْتُ عَنِ الشيء ، أعْرَضْتُ عنه ، وإنما يقال : تَعَاشَيْتُ عن كَذَا ، إذا تَغَافَلْت عنه وتَعَامَيْت{[49838]} .

قوله : { نُقَيِّضْ } قراءة العامة بنون العظمة وعَلِيّ بن أبي طالب ، والأعمش ويعقوبُ ، والسُّلَمِيّ ، وأبو عَمْرو ، وعاصمٌ في روايةٍ عنهما : يُقَيِّضْ{[49839]} بالياء من تحت . أي يُقَيِّض الرحمنُ . و«الشيطان » نصب في القراءتين وابن عباس ( رضي الله عنهما ){[49840]} يُقيِّضَّ{[49841]} مبنياً للمفعول شَيْطَانٌ بالرفع قائم مقام الفاعل .

فصل{[49842]}

{ وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرحمن } أي يُعْرِض عن القرآن ، وقيل : يُعرض عن الله ، فلم يخفْ عقابه ولم يرجُ ثَوَابَه{[49843]} ، يقال : عَشَوْت إلى النار ، أَعْشُو عَشْواً ، إذا قصدتها مُبْتَدِياً ، وعَشَوْتُ عَنْهَا إذا أعرضت عنها ، كما يقال : عدلت إلى فُلاَن ، وعدلت عنه أي مِلْتُ إلَيْهِ ، ومِلْتُ عَنْهُ{[49844]} .

قال القرطبي{[49845]} : تولية ظهره ، كقوله : { صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ } [ البقرة : 18 ، 171 ] وقال الخليل : أصل العَشْوِ النظر ببصرٍ ضعيف{[49846]} . وأما القراءة بالضم فمعناه : يَتَعَامَ عن ذكره أي يعرف أنه الحق ويتجاهل ويَتَعَامى ، كقوله تعالى : { وَجَحَدُواْ بِهَا واستيقنتهآ أَنفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً } [ النمل : 14 ] .

{ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً } أي نضمه إليه ، وتسلطه عليه{[49847]} { فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ } لا يفارقه ، يزين له العَمَى ويخيل إليه أنه الهدى .


[49819]:ابن أبي ثعلبة البصري صاحب التفسير، روى الحروف عن أصحاب الحسن البصري عن الحسن بن دينار، وغيره، له اختيار في القراءة من طرق الآثار، روى عن حماد بن سلمة، وهمام بن يحيى، كان ثقة، دينا، ثبتا، ذا علم مات سنة 200 هـ انظر الغاية في طبقات القراء 2/1072.
[49820]:وانظر البحر المحيط 8/16، والكشاف 3/487، ومعاني الفراء 30/32.
[49821]:اللسان عشا 2960 و2961.
[49822]:المرجعين السابقين.
[49823]:الكشاف المرجع السابق.
[49824]:بالمعنى من البحر المحيط 8/16.
[49825]:في ب قالوا بالجمعية.
[49826]:البحر المحيط 8/16.
[49827]:البيتان من الطويل أنشدهما أبو حيان في بحره، والسمين في الدر المصون قال أبو حيان: أنشدهما ابن الأعرابي.. والشاهد: "تصبه" فقد جزم جوابا "للذي" من كذلك الذي" تشبيها للموصول باسم الشرط فكما أن الموصول شبه باسم الشرط في دخول الفاء في الخبر كذاك يشبه به في انجزام خبره وهو جواب الشرط الذي هو هنا "تصبه" وهذا منقول عن الكوفيين. من البحر المحيط لأبي حيان 8/16 وانظر الدر المصون 4/783.
[49828]:باللفظ من الدر المصون المرجع السابق وبالمعنى من البحر المحيط 8/16.
[49829]:أقول: قد ذكر ابن هشام في المغني 165 من تنبيهاته في معرض الكلام عن الفاء قوله: كما تربط الفاء للجواب بشرطه كذلك تربط شبه الجواب بشبه الشرط، وذلك في نحو "الذي يأتيني فله درهم" وبدخولها فهم ما أراده المتكلم من ترتب لزوم الدرهم على الإتيان ولو لم تدخل احتمل ذلك وغيره. ثم قال: وهذه الفاء بمنزلة لام التوطئة في نحو: "لكن أخرجوا لا يخرجون معهم" في إيذانها بما أراده المتكلم من معنى القسم، وقد قرئ بالإثبات والحذف قوله "وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم" فلم يتكلم ابن هشام هنا عن الجزم بالنسبة للذي وإنما ذكر الربط فقط، ونجد السيوطي في كتابه الأشباه والنظائر يحدثنا أن الذي لا تجزم وإن تضمنت معنى الشرط لأنها أشبهت لام التعريف فلم تعمل حملا عليها أضف إلى ذلك إلى أن جملة الصلة معلومة شرطا بينما الشرط لا يكون إلا مبهما والموصول وما وصل في تقدير المفرد بينما الشرط جملتان انظر الأشباه والنظائر بتصرف 2/241.
[49830]:في ب لقال.
[49831]:هو الزمخشري في الكشاف 3/487 و488.
[49832]:المرجع السابق.
[49833]:زيادة من أ الأصل.
[49834]:نسبه الزمخشري وأبو حيان في الكشاف والبحر المحيط إلى حاتم الطائي ولم أعثر له في ديوانه على هذا البيت وهو من تمام الكامل، والأصح نسبته لمسكين الدرامي وهو في ديوانه (45) وورد فيه "أعمى" بدل "أعشو" وعليه فلا شاهد. وشاهده: أن أعشو بمعنى أتعامى وأنظر نظر العمي، والخدر هو البيت وانظر البيت في الكشاف 3/488 والبحر المحيط 8/4 والدر المصون 4/784 وشرح شواهد الكشاف 421 وأمالي المرتضى 2/874، وهامش الخزانة 9/92.
[49835]:من الطويل للحطيئة الشاعر الجاهلي المعروف من قصيدة يمدح فيها بغيض بن عامر التميمي وشاهده: تعشو أي تنظر نظر العشي لضعف البصر من كثرة الوقود كما أخبر أعلى وانظر غريب القرآن 398، والبحر المحيط 8/4 والدر المصون 4/784 والخزانة 9/94 والكتاب 3/86 وابن يعيش 2/66، و4/148 و7/45 و53، والكشاف 3/488 وشرح شواهده 387 واللسان "عشا" ومجالس ثعلب 467.
[49836]:نقله في غريب القرآن 398.
[49837]:بالمعنى من المعاني للفراء 3/32.
[49838]:غريب القرآن 398 قال: "ولا أرى القول إلا قول أبي عبيدة وقد عارضه الأزهري وأبو الهيثم"ورجح الإمام القرطبي رأي الأزهري وأبي الهيثم قال: وكذلك قال جميع أهل المعرفة. وهو قول الفراء السابق.
[49839]:انظر المختصر ابن خالويه 135، والكشاف 3/488 والإتحاف 386.
[49840]:زيادة من أ.
[49841]:ذكرها أبو حيان في بحره 85/16 وكلتا القراءتين شاذتان.
[49842]:في ب قوله بدل "فصل".
[49843]:ذكره أبو حيان في البحر 8/16.
[49844]:انظر اللسان عشا.
[49845]:ذكر التاسع في النسختين القرطبي وهو القرظي كما صنعت وانظر رأيه في القرطبي 16/90.
[49846]:المرجع السابق.
[49847]:قاله الزجاج في معاني القرآن وإعرابه 4/412.