اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{۞وَٱتۡلُ عَلَيۡهِمۡ نَبَأَ ٱبۡنَيۡ ءَادَمَ بِٱلۡحَقِّ إِذۡ قَرَّبَا قُرۡبَانٗا فَتُقُبِّلَ مِنۡ أَحَدِهِمَا وَلَمۡ يُتَقَبَّلۡ مِنَ ٱلۡأٓخَرِ قَالَ لَأَقۡتُلَنَّكَۖ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ ٱللَّهُ مِنَ ٱلۡمُتَّقِينَ} (27)

واتل{[11443]} عليهم نبأ ابني آدم الآية .

في تعَلُّقِ هذه الآية بما قبلها وُجُوهٌ :

أحدها : أنه تعالى قال فيما تَقدَّمَ :

{ يَأَيُّهَآ الَّذِينَ آمَنُواْ اذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَن يَبْسُطُواْ إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ } [ المائدة : 11 ] فذكر أنَّ الأعْدَاءَ يُرِيدُونَ إيْقَاعَ الْبَلاَء بِهِمْ ، لَكِنَّهُ تعالى يَحْفَظُهُمْ [ بِفَضْلِهِ ] ويمنع أعداءهم من إيصالِ الشَّرِّ إلَيْهِمْ ، ثم ذكر قِصَصاً تَدُلُّ في أنَّ كُلَّ مَنْ خَصَّهُ اللَّهُ به - تعالى - من النِّعَمِ العظيمة في الدِّينِ والدُّنْيَا فإنَّ الناس يتنازعونه حسداً ، فَذَكَرَ قِصةَ النُّقَبَاءِ الاثْنَيْ عَشَرَ ، وأخذ الميثاق منهم ، ثم إنَّ اليهود نقضوا ذلك الميثاق حتى وقعوا في اللَّعْنِ والقساوة ، وذكر بعد شِدَّة إصْرَارِ النصارى على الكفر ، وقولهم ب " التَّثْلِيث " بعد ظهور الدَّلاَئِل الواضحة القاطعة على فساد اعْتِقَادِهِمْ ، وما ذلك إلا حسداً لمحمد صلى الله عليه وسلم فيما آتاه الله من الدِّينِ الْحَقِّ{[11444]} ثم ذكر قصَّه موسى في مُحَاربَةِ الجبَّارِينَ ، وإصْرار قومه على التَّمَرُّدِ والْعِصْيَانِ ، ثم ذكر بعد قِصَّة ابْنَيْ آدم ، وأنَّ أحدهما قتل الآخر حسداً على قَبُولِ قُرْبَانِهِ ، وكل هذه الْقَصَصِ دالَّةٌ على أنَّ كل ذي نِعْمَة محسود ، فلما كانت نِعَمُ الله على محمَّد صلى الله عليه وسلم أعْظَمَ النعم لم يبعد اتِّفَاق الأعداء على كَيْدِهِ ، فكان ذكر هذه القصص تسلية له فيما هدّده به اليَهُود من المكر والكَيد{[11445]} .

ثانيها : أنَّهُ مُتَعَلِّقٌ بقوله : { يَأَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَآءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِّمَّا كُنتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُواْ عَن كَثِيرٍ } [ المائدة : 15 ] .

وهذه القصص مَذْكورة في التَّوْراة{[11446]} .

وثالثها : أنَّها متعلِّقَة بقصة [ محاربة ]{[11447]} الجبَّارين ، أي : ذكِّروا اليَهُود بحديث ابْنَيْ آدم ؛ ليعلموا أن سَبِيل أسْلاَفهم في النَّدامة والحسرة الحاصلة بسبب إقدامهم على المعاصي ، مثل سَبِيل ابْنَيْ آدم في نَدَامة أحَدهما على قَتْلِ الآخَر{[11448]} .

رابعها : أنه مُتَّصِل بحكاية قول اليَهُود والنَّصَارَى : { نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ } [ المائدة : 18 ] أي : لا ينفعهم كَوْنُهُم أولاد الأنْبِيَاء{[11449]} مع كُفْرِهِم ، كما لم يَنْتَفِع ولد آدم بقَتْلِ أخيه بكون أبيه نَبِيّاً معظماً عند الله - تعالى - .

وخامسها : لما كَفَرَ أهل الكِتَاب بمحمَّد - عليه الصلاة والسلام - حَسَداً أخْبَرَهُم الله - تعالى - بخبر ابْنَيْ آدم ، وأنَّ الحسد أوْقَعَهُ في سُوءِ الخَاتِمة ، والمقصود منه التَّحْذِير عن الحَسَدِ{[11450]} .

الضَّمِير في " عَلَيْهِم " فيه قولان :

أحدهما : واتل على النَّاس .

والثاني : واتْلُ على أهل الكِتَاب .

وفي " ابْنَيْ آدَمَ " قولان :

أحدهما : أنها ابْنَا آدم لِصُلْبِهِ ، وهما : قَابِيل ، وهَابِيل ، وفي سبب [ وقوع ] المُنَازَعة بينهما قولان :

أحدهما : أنَّ هَابِيلَ كان صاحب غَنَمٍ ، وقابيلَ صاحب زَرْع{[11451]} فقرَّب كل واحد منهما قُرْبَاناً ، فطلب هابيل أحْسَنَ شاة كانت في غنمه وجعلها قرباناً ، وطلب قابيل شَرَّ حِنْطة كانت عنده وجعلها قُرْبَاناً ، فنزلت نارٌ مِنَ السَّمَاءٍ فَاحْتَمَلَتْ قُرْبَانَ هَابيلَ ولم تَحْتَمِل قُرْبان قابيل ، فعلم قابيل أنَّ الله تعالى قبل قُرْبَان أخِيهِ ولم يقبل قُرْبَانه ، فحَسَده وقصد قَتْلَهُ .

قال سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ : ولم يُحْتَمَلْ{[11452]} قربان قَابيل ، فَعَلِمَ قَابِيلُ أنَّ الله قَبِلَ قربان أخيه ولم يقبل قربانه ؛ لأنَّه كان كافراً فقال قابيل لأخيه هابيل - وكان مُؤمِناً - : أتَمْشِي على الأرض يراك النَّاس أفْضَلَ مِنِّي به ، فَحَسَدَه وَقَصَدَ قَتْلَهُ .

وثانيهما : رُوِيَ أنَّ آدم - عليه السلام - كان يُولَدُ له [ في كل بطن ]{[11453]} غلام وجارية وكان يزوِّج [ تلك ]{[11454]} البِنْت من البَطْن بالغلام من بَطْن آخر ، فولد له قَابِيل [ وتوأمته ، ]{[11455]} قال الْكَلْبيُّ : وكان اسْمُهَا " إقْلِيمِياء " {[11456]} - ، وبعدهما هَابِيل وتَوْأمَته وكانت تَوْأمَةُ قابيل أحْسَنَ النَّاسِ وجهاً ، فأراد آدَم - عليه السلام - أن يُزَوِّجَهَا من هَابِيل ، فأبى قَابِيل وقال : أنا أحَقُّ بِهَا وهو أحق بأخته وليس هذا من اللَّه وَإنَّمَا هو رَأيُكَ ، فقال آدمُ - عليه السلام - لهما : قَرِّبَا قرباناً فأيُّكُمَا قبل قُرْبانه زَوَّجْتُها منه ، فَقَرَّبَا قُرْبَانَيْن ، فَقَبِلَ اللَّهُ قُرْبَانَ هَابِيلَ بأن أنْزل على قُرْبَانه ناراً فازداد قابيل حَسَداً له{[11457]} .

قال القُرْطُبِيُّ{[11458]} : وَرُوِيَ عن جَعْفَرٍ الصَّادِقِ - رَضي الله عَنْهُ - " أنَّ آدم - عليه السلام - لم يكن يُزَوِّجُ ابنته من ابنه ، ولو فعل ذلك ما رَغِبَ عنه النَّبي صلى الله عليه وسلم ، ولا كان دين آدم عليه السلام إلاَّ دين النبي صلى الله عليه وسلم . . . " ، وذكر قَصَّته . قال القُرْطُبِيُّ{[11459]} : وهذه القِصَّة عن جَعْفَرٍ ما أظُنُّهَا تَصِحُّ ، وأنه يزوِّجُ غلام هذا البَطْن إلى البَطْن الآخر ، بدليل قوله تعالى : { يَأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَآءً } [ النساء : 1 ] ، وهذا كالنصِّ ثم نسخ ذلك على ما تقدم بيانه في " سورة البقرة " وكان جميع ما ولدته حَوَّاءُ أربعين ولداً ذكراً ، وأنثى : عِشْرين بطناً أوَّلُهُم قابيل ، وتوأمته إقليمياء وآخرهم عَبْدُ المُغِيثِ ، ثم بارك الله في نسل آدم - عليه الصلاة والسلام - .

وعن ابن عبَّاسٍ{[11460]} - رضي الله عنهما - : لم يمت آدم - عليه السَّلام - حتى بلغ ولده وولد ولده أربعين ألْفاً .

والقول الثاني : وهو قول الْحَسَنِ والضَّحَّاك : أنَّ ابْنَيْ آدَمَ اللذين قَرَّبا القربان ما كانا ابْنَيْ آدم لِصُلْبِهِ ، وإنما كانا رَجُلَيْن من بني إسرائيل [ كانت بينهما خُصُومة ، ولم تكن القرابين إلا في بني إسرائيل ]{[11461]} ؛ لقوله تعالى في آخر القصَّة : { مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً } [ المائدة : 32 ] .

وصدور الذنب من ابني آدم ، لا يصلح أن يكون سَبَباً لإيجاب القِصَاص عليهم زَجْراً لهم عن المُعَاوَدَة إلى مثل هذا الذَّنب ، ويَدُلُّ عليه أيضاً أنَّ المقصود من هذه القِصَّة : بيان أنَّ اليَهُود من قديم الدَّهر مُصِرُّونَ على التَّمَرُّدِ والحسد حتى بلغ بهم هذا الحَسَد إلى أن أحدهما لما قَبِلَ اللَّهُ قربانه حَسَدَه الآخر وقتله ، ولا شكَّ أن هذا ذَنْبٌ عَظِيمٌ . فإنَّ قَبُولَ الْقُرْبَانِ ممَّا يدل [ عليه أن صَاحِبَه ]{[11462]} حسن الاعتقاد [ وأنه ]{[11463]} مقبول عند اللَّه - تعالى - فَتَجِبُ المُبَالَغَةُ في تَعْظِيمه ، فلما أقدم على قَتْلِهِ [ وَقَتَلَهُ ]{[11464]} مع هذه الحالة دَلَّ ذلك على أنَّهُ قد بَلَغَ في الحَسَد أقصى الغايات ، وإذا كان المرادُ أنَّ الحسَد داءٌ قديمٌ في بَنِي إسْرَائِيلَ ، وجب أن يقال : [ هذان الرَّجلان ]{[11465]} كانا من بَنِي إسْرَائيلَ ، والصَّحيح الأول ؛ لأنَّ القاتل جهل ما يَصْنَع بالمقَتُول ، حتى تعلَّم ذلك من عَمَل الغراب ولو كان من بَنِي إسرائيلَ لما خَفِي عليه هذا الأمْر - والله سبحانه أعلم{[11466]} - .

فصل

قوله تعالى : " بالحقِّ " فيه ثلاثةُ أوجهٍ :

أحدُها : أنه حَالٌ من فاعل " اتْلُ " أي : اتلُ ذلك حال كونك مُلْتَبساً بالحقِّ أي : بالصِّدق ، وموافقاً لما في التَّوْراة والإنْجِيل .

والثاني : أنه حال من مَفْعُوله وهي " نَبَأ " ، أي : اتلُ نبأهُمَا مُلْتَبساً بالصِّدْقِ مُوافِقاً لما في كُتُب الأوَّلين لتثبت عليهم الحُجَّةُ برسالتك .

الثالث : أنه صِفَةٌ لمصدر " اتْلُ " ، أي : اتْلُ ذلك تلاوةً مُلْتَبِسة بالحقِّ والصِّدق كافَّة .

وَالزَّمَخْشَرِيُّ{[11467]} به بدأ ، وعلى الأوْجُهِ الثلاثة ف " البَاءُ " للمُصَاحبة وهي متعلِّقَة بمحذُوف .

وقَرَأ أبُو عَمْرٍو{[11468]} بتسكين الميم من " آدَم " قبل بَاءِ " بالْحَقِّ " ، وكذا كل مِيمٍ قبلها مُتَحرك ، وبعدها بَاء ، ومعنى الكلام : واتْلُ عليهم نبأ ابْنَيْ آدم بالغَرض [ الصحيح ]{[11469]} ، وهو تَقْبِيح الحسد ، والبَغْي وقيل : لِيَعْتَبِرُوا به لا لِيَحْمِلُوهُ على اللَّعِبِ ، كالأقاصيص التي لا فائدة فيها ، وهذا يَدُلُّ على أنَّ المقصود من ذكر القصص العبرةُ لا مجرَّد الحكاية ، لقوله تعالى : { لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُوْلِي الأَلْبَابِ } [ يوسف : 111 ] .

قوله تعالى : { إِذْ قَرَّبَا [ قُرباناً ] } {[11470]} فيه ثلاثةُ أوجهٍ :

أحدها : وبه بدأ الزَّمخشريُّ{[11471]} ، وأبو البقاء{[11472]} : أن يكون متعلِّقاً بنفس النَّبأ ، أي : قصّتُهما ، وحديثهما في ذلك الوَقْت ، وهذا وَاضِح .

والثاني : أنه بَدلٌ من " نبأ " على حَذْف مضافٍ ، تقديره : " واتْلُ " عَلَيْهِم النَّبأ ذلك الوقت ، كذا قدَّره الزَّمَخْشَرِيُّ{[11473]} .

قال أبُو حَيَّان{[11474]} : " ولا يجُوز ما ذكر ؛ لأن " إذْ " لا يُضَاف إليها إلا الزَّمانُ و " نبأ " ليس بزمان .

الثالث : ذكره أبُو البَقَاءِ{[11475]} [ أنه حال من " نبأ " [ وعلى هذا فيتعلق بِمَحذُوف ] ، لكنَّ هذا الوجه غَيْر وَاضِح ] .

قال أبو البَقَاء{[11476]} : ولا يجوز أن يكون ظرفاً ل " اتْلُ " ؛ قلت : لأنَّ الفعل مستقبل ، و " إذ " وقت ماضٍ ، فكيف يَتلاقَيَان ؟ و " الْقُرْبَانُ " فيه احْتِمَالان :

أحدهما : وبه قال الزَّمَخْشَرِيُّ{[11477]} : " أنه اسم لما يُتَقَرَّبُ به ، كما أنَّ الْحُلْوَانَ اسم ما يُحَلَّى أو يُعْطى " .

يقال : " قَرَّبَ صَدَقةً وتقرَّب بها " ؛ لأن " تقرَّب " مطواع " قرَّب " .

قال الأصْمَعِيُّ : [ تقربوا ]{[11478]} " قِرْفَ القَمع " فيعدَّى بالباء حتى يكون بمعنى : قَرَّبَ ، أي : فيكون قوله : { إِذْ قَرَّبا قُرْباناً } يَطْلُبُ مُطَاوِعاً له ، والتَّقْدِير إذْ قَرَّبَاهُ ، فتقرَّبا بِهِ وفيه بُعْدٌ .

قال أبُو حَيَّان{[11479]} : " وليس تقرَّب بصدقة مطاوع{[11480]} " قَرَّب صدقة " {[11481]} لاتحاد فاعل الفعلين ، والمُطاوَعَةُ يَخْتَلِفُ فيها الفاعل يكونُ من أحدهما فعل ، ومن الآخَرِ انفعال ، نحو : كَسَرْتُه فانكسر ، وفَلَقْتُه فانْفَلَق ، فليس قَرَّبَ صَدَقَةً ، وتقرَّبَ بها ، من هذا البَابِ ، فهو غلط فَاحِشٌ " .

قال شهاب الدِّين{[11482]} : وفيما قاله الشَّيْخ نظر ؛ لأنَّا لا نُسَلِّم هذه القاعدة .

والاحتمال الثاني : أن يكون في الأصْل مَصْدراً ، ثم أطلق على الشيء المُتقرّب به ، كقولهم " نَسْج اليَمَن " ، و " ضَرْب الأمير " .

ويُؤيِّد ذلك أنه لم يُثَنِّ ، والموضعُ موضعُ تَثْنِية ؛ لأنَّ كلاً من قَابيل وهَابيل له قُرْبان يَخُصُّه ، فالأصل : إذ قَرَّبا قُرْبَانين ولأنه لم يُثَنِّ [ لأنه مصدر في الأصل ، وللقائل بأنه اسم ما يتقرّب به لا مصدر أن يقول : إنما لم يُثَنِّ ]{[11483]} ؛ لأن المعنى - كما قاله أبو عَلِيّ الفَارسيّ - : إذ قَرَّبَ كلُّ واحدٍ منهما قُرْبَاناً ، كقوله تعالى : { فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً } [ النور : 4 ] أي : كل واحد منهم .

قال ابن الخطيب{[11484]} : جَمَعَهما في الفِعْل ، وأفرد الاسْم ليستدل بِفِعْلهما على أنَّ لكلِّ واحدٍ منهما قُرْباناً .

وقيل : إنَّ القُرْبَان اسم جنس فهو يَصْلُح للوَاحِد والعَدَد .

وقوله تعالى : { فَتُقُبِّلَ مِن أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الأَخَرِ } .

قال أكثر المُفَسِّرِين{[11485]} : كان علامَةُ القبول أن تأكله النَّار ، وقال مُجَاهد : علامة الردِّ أن تأكله النَّار{[11486]} .

وقيل : لم يكن في ذلك الوَقْتِ فقير يُدفَع إليه ما يتقرَّب به إلى الله - تعالى - ، فكانت تَنْزِلُ من السَّمَاء نار تأكلُهُ .

وإنما صار أحد القُرْبَانَيْن مقبولاً والآخر مردوداً ؛ لأنَّ [ حصول ] التَّقوى شرط في قُبُول الأعْمَال لقوله تعالى هاهنا حِكَاية عن المُحِقِّ { إنَّما يَتَقَبَّل اللَّهُ مِنَ المُتَّقِين } ، وقوله تعالى فيما أمَرنا به من القُرْبان بالبدن : { لَن يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلاَ دِمَآؤُهَا وَلَكِن يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنكُمْ } [ الحج : 37 ] فأخبر أنَّ الذي يصل إليه لَيْس إلاَّ التَّقوى ، والتَّقْوى من صفات القُلُوبِ ؛ لقوله - عليه السلام - : " التَّقْوى هَاهُنَا{[11487]} " وأشار إلى القَلْب .

وحقيقة التَّقْوى : أن يكون على خَوْف ووَجَل من تقصير نَفْسه في تلك الطَّاعَة .

وأن يكون في غَايَةِ الاحْتِرَاز من أن يَأتِي بتلك الطَّاعَة لغرض سوى مَرْضَاة الله تعالى .

وألاَّ يكون فيه شركة لِغَيْر الله تعالى{[11488]} .

قيل : إن قابيل جعل قُرْبَانه أرْدَأ ما كان عِنْده ، وأضْمَر في نفسه ألاَّ يُبَالي قُبِلَ أو لم يُقْبَلْ ، وأنه لا يزوِّج أخْتَه من أخِيه أبَداً .

وقيل : كان قابيل لَيْس من أهل التَّقْوى والطَّاعة فلذلك لم يَقْبَل اللَّهُ قُرْبانه{[11489]} .

قوله تعالى : " قال لأقْتُلَنَّك " ، أي : قال الذي لم يتقبل منه للمَقْبُول منه .

وقرأ الجمهور " لأقتلنَّك " بالنون الشديدة ، وهذا جوابُ قسم مَحْذُوف وقرأه زيدٌ بالخفيفة{[11490]} .

قال أبُو حَيَّان : [ إنما يتقبل الله مَفْعُوله مَحْذُوف ]{[11491]} ، لدلالة المعنى عليه ، أي : قرابينهم وأعمالهم ويجُوزُ ألاَّ يراد له مَفْعُول ، كقوله تعالى { فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى } [ الليل : 5 ] ، هذه الجُمْلَة قال ابن عطيَّة{[11492]} : " قبلها كلام محذوف ، تقديرُه : لِمَ تَقْتُلني وأنا لم أجْنِ شيئاً ، ولا ذَنْبَ لي في تَقَبُّلِ الله قرباني بدون قربانك " ؛ وذكر كلاماً كثيراً .

وقال غيرُه : " فيه حذفٌ يَطُول " وذكر نحوه : ولا حَاجَة إلى تقدير ذلك كلّه ؛ إذ المعاني مفهومَةٌ من فَحْوَى الكلام إذا قُدِّرَتْ قَصِيرةً كان أحْسَن ، والمعنى هنا : لأقْتُلَنَّك حَسَداً على تَقَبُّل قُرْبَانك ، فَعَرَّضَ له بأن سَبَبَ التَّقَبُّل التَّقْوى .

وقال الزَّمَخْشَرِيُّ{[11493]} : " فإن قلت : كيف [ كان ]{[11494]} قوله : { إنما يتقَبَّلُ اللَّه مِنَ المُتَّقِين } جواباً لقوله : " لأقْتُلَنَّكَ " ؟ .

قلت : لمَّا كان الحَسَدُ لأخيه على تَقَبُّل قربانه هو الذي حَمَلَهُ على توعُّده بالقَتْل ، قال : إنَّما أتَيْت من قبل نفسك لانْسِلاَخها من لِبَاسِ التَّقْوَى " انتهى .

وهذا ونَحْوه من تَفسِير المَعْنَى لا الإعْرَاب{[11495]} .

وقيل : إن هذه الجملة اعْتِرَاض بَيْن كلام القَاتِل وكلام المَقْتُول والضَّمِير [ في " قال " ]{[11496]} {[11497]} إنَّما يعود إلى الله تعالى ، أي : قال الله ذلك لِرَسُوله ، فَيَكُون قد اعْتَرض بقوله { إنما يَتَقَبَّل اللَّه } بين كلام قابيل وهو : " قال لأقْتُلَنَّكَ " ، وبين كلام هَابِيل وهو : " لَئِنْ بَسَطْتَ " إلى آخره ، وهو في غاية البُعْد لِتَنافُر النَّظْم .


[11443]:في أ: بسم الله الرحمن الرحيم. اللهم اختم بخير يا كريم.
[11444]:ينظر: تفسير الرازي 11/160.
[11445]:ينظر: تفسير الرازي 11/160.
[11446]:ينظر: المصدر السابق.
[11447]:سقط في أ.
[11448]:ينظر: تفسير الرازي 11/160.
[11449]:في أ: الله.
[11450]:اعلم أنه لا حسد إلا على نعمة، فإذا أنعم الله على أخيك بنعمة، فلك فيها حالتان: إحداهما: أن تكره تلك النعمة وتحب زوالها، وهذه الحالة تسمى حسدا؛ فالحسد حدّه كراهة النعمة وحب زوالها عن المنعم عليه. الحالة الثانية: ألا تحب زوالها ولا تكره وجودها ودوامها، ولكن تشتهي لنفسك مثلها. وهذه تسمى غبطة، وقد تختص باسم المنافسة. وقد تسمى المنافسة حسدا والحسد منافسة ويوضع أحد اللفظين موضع الآخر، ولا حجر في الأسامي بعد فهم المعاني. وقد قال الفضيل بن عياض: "إن المؤمن يغبط والمنافق يحسد". فأما الأول: فهو حرام بكل حال، إلا نعمة أصابها فاجر أو كافر، وهو يستعين بها على تهييج الفتنة وإفساد ذات البين، وإيذاء الخلق، فلا يضرك كراهتك لها ومحبتك لزوالها؛ فإنك لا تحب زوالها من حيث هي نعمة، بل من حيث هي آلة للفساد، ولو أمنت فساده، لم يغمك بنعمته، ويدل على تحريم الحسد الأخبار، وأن هذه الكراهة تسخط لقضاء الله في تفضيل بعض عباده على بعض، وذلك لا عذر فيه ولا رخصة، وأي معصية تزيد على كراهتك لراحة مسلم من غير أن يكون لك منه مضرة؟ وإلى هذا أشار القرآن بقوله: {إن تمسسكم حسنة تسؤهم وإن تصبكم سيئة يفرحوا بها} وهذا الفرح شماتة، والحسد والشماتة يتلازمان. وقال تعالى: {ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفارا حسدا من عند أنفسهم} فأخبر تعالى أن حبهم زوال نعمة الإيمان حسد. وقال عز وجل: {ودوا لو تكفرون كما كفروا فتكونون سواء} وذكر الله تعالى حسد إخوة يوسف -عليه السلام- وعبر عما في قلوبهم بقوله تعالى: {إذ قالوا ليوسف وأخوه أحب إلى أبينا منا ونحن عصبة إن أبانا لفي ضلال مبين. اقتلوا يوسف أو اطرحوه أرضا يخل لكم وجه أبيكم} فلما كرهوا حب أبيهم له وساءهم ذلك وأحبوا زواله عنه غيبوه عنه وقال تعالى: {ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا} أي: لا تضيق صدورهم به ولا يغتمون، فأثنى عليهم بعدم الحسد. وقال تعالى في معرض الإنكار: {أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله}، وقال تعالى: {كان الناس أمة واحدة} إلى قوله: {إلا الذين أوتوه من بعد ما جاءتهم البينات بغيا بينهم} قيل في التفسير: حسدا وقال تعالى: {وما تفرقوا إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم} فأنزل الله العلم ليجمعهم، ويؤلف بينهم على طاعته، وأمرهم أن يتآلفوا بالعلم فتحاسدوا واختلفوا؛ إذا أراد كل واحد منهم أن ينفرد بالرياسة وقبول القول، فرد بعضهم على بعض. قال ابن عباس: كانت اليهود قبل أن يبعث النبي- صلى الله عليه وسلم- إذا قاتلوا قوما قالوا: نسألك بالنبي الذي وعدتنا أن ترسله، وبالكتاب الذي تنزله إلا ما نصرتنا. فكانوا ينصرون، فلما جاء النبي- صلى الله عليه وسلم- من ولد إسماعيل-عليه السلام- عرفوه وكفروا به بعد معرفتهم إياه فقال تعالى: {وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به} إلى قوله:{أن يكفروا بما أنزل الله بغيا} أي حسدا. وقالت صفية بنت حيي للنبي- صلى الله عليه وسلم- جاء أبي وعمي من عندك يوما، فقال أبي لعمي: ما تقول فيه؟ قال: أقول إنه النبي الذي بشر به موسى. قال: فما ترى؟ قال: أرى معاداته أيام الحياة فهذا حكم الحسد في التحريم. وأما المنافسة: فليست بحرام، بل هي واجبة، وإما مندوبة، وإما مباحة، وقد يستعمل لفظ الحسد بدل المنافسة والمنافسة بدل الحسد. قال قثم بن العباس: لما أراد هو والفضل أن يأتيا النبي صلى الله عليه وسلم صلى الله عليه وآله وسلم- فيسألاه أن يؤمرهما على الصدقة- قالا لعلي حين قال لهما: لا تذهبا إليه فإنه لا يؤمركما عليها- فقالا له: ما هذا منك إلا نفاسة والله لقد زوجك ابنته فما نفسنا ذلك عليك أي: هذا منك حسد، وما حسدناك على تزويجه إياك فاطمة. والمنافسة في اللغة مشتقة من النفاسة. والذي يدل على إباحة المنافسة قوله تعالى: {وفي ذلك فليتنافس المتنافسون} وقال تعالى: {سابقوا إلى مغفرة من ربكم} وإنما المسابقة عند خوف الفوت وهو كالعبدين يتسابقان إلى خدمة مولاهما؛ إذ يجزع كل واحد أن يسبقه صاحبه فيحظى عند مولاه بمنزلة لا يحظى هو بها، فكيف وقد صرح رسول الله- صلى الله تعالى عليه وسلم- بذلك فقال: لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله مالا فسلطه على هلكته في الحق، ورجل آتاه الله تعالى علما فهو يعمل به ويعلمه الناس.
[11451]:ينظر: تفسير الرازي 11/161.
[11452]:في ب: يشتمل.
[11453]:سقط في أ.
[11454]:سقط في أ.
[11455]:ينظر: تفسير الرازي 11/161.
[11456]:في ب: أشليماء.
[11457]:ينظر: تفسير الرازي 11/161.
[11458]:ذكره السيوطي في "الدر المنثور"(2/484) وعزاه لإسحاق بن بشر في "المبتدأ" وابن عساكر من طريق جوبير ومقاتل عن الضحاك عن ابن عباس وينظر: تفسير القرطبي 6/89.
[11459]:ينظر: القرطبي 6/89.
[11460]:ينظر: القرطبي 6/89.
[11461]:أخرجه الطبري في "تفسيره" (4/530) عن الحسن.
[11462]:سقط في أ.
[11463]:سقط في أ.
[11464]:سقط في أ.
[11465]:في أ: أن الرجلين.
[11466]:ينظر: تفسير الرازي 11/161.
[11467]:ينظر: الكشاف 1/624.
[11468]:ينظر: الدر المصون 2/510، السبعة 117.
[11469]:سقط في أ.
[11470]:سقط في أ.
[11471]:ينظر: الكشاف (1/624).
[11472]:ينظر: الإملاء 1/213.
[11473]:ينظر: الكشاف (1/624).
[11474]:ينظر: البحر المحيط 3/476.
[11475]:سقط في أ.
[11476]:ينظر: الإملاء 1/213.
[11477]:ينظر: الكشاف (1/624).
[11478]:سقط في أ.
[11479]:ينظر: البحر المحيط 3/476.
[11480]:في ب: تطوع.
[11481]:في ب: قصده.
[11482]:ينظر: الدر المصون (2/510).
[11483]:سقط في أ.
[11484]:ينظر: تفسير الرازي 11/162.
[11485]:ينظر: المصدر السابق.
[11486]:أخرجه الطبري في "تفسيره"(4/530) عن مجاهد وقتادة وذكره الرازي في "التفسير الكبير" (11/162) عن مجاهد.
[11487]:أخرجه مسلم 4/1987 كتاب البر والصلة: باب تحريم ظلم المسلم (32-2564).
[11488]:ينظر: الرازي 11/162.
[11489]:ينظر: المصدر السابق.
[11490]:ينظر: البحر المحيط 3/476، والدر المصون 2/411.
[11491]:سقط في أ.
[11492]:ينظر: المحرر الوجيز (2/178).
[11493]:ينظر: الكشاف (1/624).
[11494]:سقط في أ.
[11495]:ينظر: الدر المصون آية 28.
[11496]:سقط في أ.
[11497]:ينظر: الدر المصون (2/551).