واتل{[11443]} عليهم نبأ ابني آدم الآية .
في تعَلُّقِ هذه الآية بما قبلها وُجُوهٌ :
أحدها : أنه تعالى قال فيما تَقدَّمَ :
{ يَأَيُّهَآ الَّذِينَ آمَنُواْ اذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَن يَبْسُطُواْ إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ } [ المائدة : 11 ] فذكر أنَّ الأعْدَاءَ يُرِيدُونَ إيْقَاعَ الْبَلاَء بِهِمْ ، لَكِنَّهُ تعالى يَحْفَظُهُمْ [ بِفَضْلِهِ ] ويمنع أعداءهم من إيصالِ الشَّرِّ إلَيْهِمْ ، ثم ذكر قِصَصاً تَدُلُّ في أنَّ كُلَّ مَنْ خَصَّهُ اللَّهُ به - تعالى - من النِّعَمِ العظيمة في الدِّينِ والدُّنْيَا فإنَّ الناس يتنازعونه حسداً ، فَذَكَرَ قِصةَ النُّقَبَاءِ الاثْنَيْ عَشَرَ ، وأخذ الميثاق منهم ، ثم إنَّ اليهود نقضوا ذلك الميثاق حتى وقعوا في اللَّعْنِ والقساوة ، وذكر بعد شِدَّة إصْرَارِ النصارى على الكفر ، وقولهم ب " التَّثْلِيث " بعد ظهور الدَّلاَئِل الواضحة القاطعة على فساد اعْتِقَادِهِمْ ، وما ذلك إلا حسداً لمحمد صلى الله عليه وسلم فيما آتاه الله من الدِّينِ الْحَقِّ{[11444]} ثم ذكر قصَّه موسى في مُحَاربَةِ الجبَّارِينَ ، وإصْرار قومه على التَّمَرُّدِ والْعِصْيَانِ ، ثم ذكر بعد قِصَّة ابْنَيْ آدم ، وأنَّ أحدهما قتل الآخر حسداً على قَبُولِ قُرْبَانِهِ ، وكل هذه الْقَصَصِ دالَّةٌ على أنَّ كل ذي نِعْمَة محسود ، فلما كانت نِعَمُ الله على محمَّد صلى الله عليه وسلم أعْظَمَ النعم لم يبعد اتِّفَاق الأعداء على كَيْدِهِ ، فكان ذكر هذه القصص تسلية له فيما هدّده به اليَهُود من المكر والكَيد{[11445]} .
ثانيها : أنَّهُ مُتَعَلِّقٌ بقوله : { يَأَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَآءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِّمَّا كُنتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُواْ عَن كَثِيرٍ } [ المائدة : 15 ] .
وهذه القصص مَذْكورة في التَّوْراة{[11446]} .
وثالثها : أنَّها متعلِّقَة بقصة [ محاربة ]{[11447]} الجبَّارين ، أي : ذكِّروا اليَهُود بحديث ابْنَيْ آدم ؛ ليعلموا أن سَبِيل أسْلاَفهم في النَّدامة والحسرة الحاصلة بسبب إقدامهم على المعاصي ، مثل سَبِيل ابْنَيْ آدم في نَدَامة أحَدهما على قَتْلِ الآخَر{[11448]} .
رابعها : أنه مُتَّصِل بحكاية قول اليَهُود والنَّصَارَى : { نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ } [ المائدة : 18 ] أي : لا ينفعهم كَوْنُهُم أولاد الأنْبِيَاء{[11449]} مع كُفْرِهِم ، كما لم يَنْتَفِع ولد آدم بقَتْلِ أخيه بكون أبيه نَبِيّاً معظماً عند الله - تعالى - .
وخامسها : لما كَفَرَ أهل الكِتَاب بمحمَّد - عليه الصلاة والسلام - حَسَداً أخْبَرَهُم الله - تعالى - بخبر ابْنَيْ آدم ، وأنَّ الحسد أوْقَعَهُ في سُوءِ الخَاتِمة ، والمقصود منه التَّحْذِير عن الحَسَدِ{[11450]} .
الضَّمِير في " عَلَيْهِم " فيه قولان :
والثاني : واتْلُ على أهل الكِتَاب .
أحدهما : أنها ابْنَا آدم لِصُلْبِهِ ، وهما : قَابِيل ، وهَابِيل ، وفي سبب [ وقوع ] المُنَازَعة بينهما قولان :
أحدهما : أنَّ هَابِيلَ كان صاحب غَنَمٍ ، وقابيلَ صاحب زَرْع{[11451]} فقرَّب كل واحد منهما قُرْبَاناً ، فطلب هابيل أحْسَنَ شاة كانت في غنمه وجعلها قرباناً ، وطلب قابيل شَرَّ حِنْطة كانت عنده وجعلها قُرْبَاناً ، فنزلت نارٌ مِنَ السَّمَاءٍ فَاحْتَمَلَتْ قُرْبَانَ هَابيلَ ولم تَحْتَمِل قُرْبان قابيل ، فعلم قابيل أنَّ الله تعالى قبل قُرْبَان أخِيهِ ولم يقبل قُرْبَانه ، فحَسَده وقصد قَتْلَهُ .
قال سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ : ولم يُحْتَمَلْ{[11452]} قربان قَابيل ، فَعَلِمَ قَابِيلُ أنَّ الله قَبِلَ قربان أخيه ولم يقبل قربانه ؛ لأنَّه كان كافراً فقال قابيل لأخيه هابيل - وكان مُؤمِناً - : أتَمْشِي على الأرض يراك النَّاس أفْضَلَ مِنِّي به ، فَحَسَدَه وَقَصَدَ قَتْلَهُ .
وثانيهما : رُوِيَ أنَّ آدم - عليه السلام - كان يُولَدُ له [ في كل بطن ]{[11453]} غلام وجارية وكان يزوِّج [ تلك ]{[11454]} البِنْت من البَطْن بالغلام من بَطْن آخر ، فولد له قَابِيل [ وتوأمته ، ]{[11455]} قال الْكَلْبيُّ : وكان اسْمُهَا " إقْلِيمِياء " {[11456]} - ، وبعدهما هَابِيل وتَوْأمَته وكانت تَوْأمَةُ قابيل أحْسَنَ النَّاسِ وجهاً ، فأراد آدَم - عليه السلام - أن يُزَوِّجَهَا من هَابِيل ، فأبى قَابِيل وقال : أنا أحَقُّ بِهَا وهو أحق بأخته وليس هذا من اللَّه وَإنَّمَا هو رَأيُكَ ، فقال آدمُ - عليه السلام - لهما : قَرِّبَا قرباناً فأيُّكُمَا قبل قُرْبانه زَوَّجْتُها منه ، فَقَرَّبَا قُرْبَانَيْن ، فَقَبِلَ اللَّهُ قُرْبَانَ هَابِيلَ بأن أنْزل على قُرْبَانه ناراً فازداد قابيل حَسَداً له{[11457]} .
قال القُرْطُبِيُّ{[11458]} : وَرُوِيَ عن جَعْفَرٍ الصَّادِقِ - رَضي الله عَنْهُ - " أنَّ آدم - عليه السلام - لم يكن يُزَوِّجُ ابنته من ابنه ، ولو فعل ذلك ما رَغِبَ عنه النَّبي صلى الله عليه وسلم ، ولا كان دين آدم عليه السلام إلاَّ دين النبي صلى الله عليه وسلم . . . " ، وذكر قَصَّته . قال القُرْطُبِيُّ{[11459]} : وهذه القِصَّة عن جَعْفَرٍ ما أظُنُّهَا تَصِحُّ ، وأنه يزوِّجُ غلام هذا البَطْن إلى البَطْن الآخر ، بدليل قوله تعالى : { يَأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَآءً } [ النساء : 1 ] ، وهذا كالنصِّ ثم نسخ ذلك على ما تقدم بيانه في " سورة البقرة " وكان جميع ما ولدته حَوَّاءُ أربعين ولداً ذكراً ، وأنثى : عِشْرين بطناً أوَّلُهُم قابيل ، وتوأمته إقليمياء وآخرهم عَبْدُ المُغِيثِ ، ثم بارك الله في نسل آدم - عليه الصلاة والسلام - .
وعن ابن عبَّاسٍ{[11460]} - رضي الله عنهما - : لم يمت آدم - عليه السَّلام - حتى بلغ ولده وولد ولده أربعين ألْفاً .
والقول الثاني : وهو قول الْحَسَنِ والضَّحَّاك : أنَّ ابْنَيْ آدَمَ اللذين قَرَّبا القربان ما كانا ابْنَيْ آدم لِصُلْبِهِ ، وإنما كانا رَجُلَيْن من بني إسرائيل [ كانت بينهما خُصُومة ، ولم تكن القرابين إلا في بني إسرائيل ]{[11461]} ؛ لقوله تعالى في آخر القصَّة : { مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً } [ المائدة : 32 ] .
وصدور الذنب من ابني آدم ، لا يصلح أن يكون سَبَباً لإيجاب القِصَاص عليهم زَجْراً لهم عن المُعَاوَدَة إلى مثل هذا الذَّنب ، ويَدُلُّ عليه أيضاً أنَّ المقصود من هذه القِصَّة : بيان أنَّ اليَهُود من قديم الدَّهر مُصِرُّونَ على التَّمَرُّدِ والحسد حتى بلغ بهم هذا الحَسَد إلى أن أحدهما لما قَبِلَ اللَّهُ قربانه حَسَدَه الآخر وقتله ، ولا شكَّ أن هذا ذَنْبٌ عَظِيمٌ . فإنَّ قَبُولَ الْقُرْبَانِ ممَّا يدل [ عليه أن صَاحِبَه ]{[11462]} حسن الاعتقاد [ وأنه ]{[11463]} مقبول عند اللَّه - تعالى - فَتَجِبُ المُبَالَغَةُ في تَعْظِيمه ، فلما أقدم على قَتْلِهِ [ وَقَتَلَهُ ]{[11464]} مع هذه الحالة دَلَّ ذلك على أنَّهُ قد بَلَغَ في الحَسَد أقصى الغايات ، وإذا كان المرادُ أنَّ الحسَد داءٌ قديمٌ في بَنِي إسْرَائِيلَ ، وجب أن يقال : [ هذان الرَّجلان ]{[11465]} كانا من بَنِي إسْرَائيلَ ، والصَّحيح الأول ؛ لأنَّ القاتل جهل ما يَصْنَع بالمقَتُول ، حتى تعلَّم ذلك من عَمَل الغراب ولو كان من بَنِي إسرائيلَ لما خَفِي عليه هذا الأمْر - والله سبحانه أعلم{[11466]} - .
قوله تعالى : " بالحقِّ " فيه ثلاثةُ أوجهٍ :
أحدُها : أنه حَالٌ من فاعل " اتْلُ " أي : اتلُ ذلك حال كونك مُلْتَبساً بالحقِّ أي : بالصِّدق ، وموافقاً لما في التَّوْراة والإنْجِيل .
والثاني : أنه حال من مَفْعُوله وهي " نَبَأ " ، أي : اتلُ نبأهُمَا مُلْتَبساً بالصِّدْقِ مُوافِقاً لما في كُتُب الأوَّلين لتثبت عليهم الحُجَّةُ برسالتك .
الثالث : أنه صِفَةٌ لمصدر " اتْلُ " ، أي : اتْلُ ذلك تلاوةً مُلْتَبِسة بالحقِّ والصِّدق كافَّة .
وَالزَّمَخْشَرِيُّ{[11467]} به بدأ ، وعلى الأوْجُهِ الثلاثة ف " البَاءُ " للمُصَاحبة وهي متعلِّقَة بمحذُوف .
وقَرَأ أبُو عَمْرٍو{[11468]} بتسكين الميم من " آدَم " قبل بَاءِ " بالْحَقِّ " ، وكذا كل مِيمٍ قبلها مُتَحرك ، وبعدها بَاء ، ومعنى الكلام : واتْلُ عليهم نبأ ابْنَيْ آدم بالغَرض [ الصحيح ]{[11469]} ، وهو تَقْبِيح الحسد ، والبَغْي وقيل : لِيَعْتَبِرُوا به لا لِيَحْمِلُوهُ على اللَّعِبِ ، كالأقاصيص التي لا فائدة فيها ، وهذا يَدُلُّ على أنَّ المقصود من ذكر القصص العبرةُ لا مجرَّد الحكاية ، لقوله تعالى : { لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُوْلِي الأَلْبَابِ } [ يوسف : 111 ] .
قوله تعالى : { إِذْ قَرَّبَا [ قُرباناً ] } {[11470]} فيه ثلاثةُ أوجهٍ :
أحدها : وبه بدأ الزَّمخشريُّ{[11471]} ، وأبو البقاء{[11472]} : أن يكون متعلِّقاً بنفس النَّبأ ، أي : قصّتُهما ، وحديثهما في ذلك الوَقْت ، وهذا وَاضِح .
والثاني : أنه بَدلٌ من " نبأ " على حَذْف مضافٍ ، تقديره : " واتْلُ " عَلَيْهِم النَّبأ ذلك الوقت ، كذا قدَّره الزَّمَخْشَرِيُّ{[11473]} .
قال أبُو حَيَّان{[11474]} : " ولا يجُوز ما ذكر ؛ لأن " إذْ " لا يُضَاف إليها إلا الزَّمانُ و " نبأ " ليس بزمان .
الثالث : ذكره أبُو البَقَاءِ{[11475]} [ أنه حال من " نبأ " [ وعلى هذا فيتعلق بِمَحذُوف ] ، لكنَّ هذا الوجه غَيْر وَاضِح ] .
قال أبو البَقَاء{[11476]} : ولا يجوز أن يكون ظرفاً ل " اتْلُ " ؛ قلت : لأنَّ الفعل مستقبل ، و " إذ " وقت ماضٍ ، فكيف يَتلاقَيَان ؟ و " الْقُرْبَانُ " فيه احْتِمَالان :
أحدهما : وبه قال الزَّمَخْشَرِيُّ{[11477]} : " أنه اسم لما يُتَقَرَّبُ به ، كما أنَّ الْحُلْوَانَ اسم ما يُحَلَّى أو يُعْطى " .
يقال : " قَرَّبَ صَدَقةً وتقرَّب بها " ؛ لأن " تقرَّب " مطواع " قرَّب " .
قال الأصْمَعِيُّ : [ تقربوا ]{[11478]} " قِرْفَ القَمع " فيعدَّى بالباء حتى يكون بمعنى : قَرَّبَ ، أي : فيكون قوله : { إِذْ قَرَّبا قُرْباناً } يَطْلُبُ مُطَاوِعاً له ، والتَّقْدِير إذْ قَرَّبَاهُ ، فتقرَّبا بِهِ وفيه بُعْدٌ .
قال أبُو حَيَّان{[11479]} : " وليس تقرَّب بصدقة مطاوع{[11480]} " قَرَّب صدقة " {[11481]} لاتحاد فاعل الفعلين ، والمُطاوَعَةُ يَخْتَلِفُ فيها الفاعل يكونُ من أحدهما فعل ، ومن الآخَرِ انفعال ، نحو : كَسَرْتُه فانكسر ، وفَلَقْتُه فانْفَلَق ، فليس قَرَّبَ صَدَقَةً ، وتقرَّبَ بها ، من هذا البَابِ ، فهو غلط فَاحِشٌ " .
قال شهاب الدِّين{[11482]} : وفيما قاله الشَّيْخ نظر ؛ لأنَّا لا نُسَلِّم هذه القاعدة .
والاحتمال الثاني : أن يكون في الأصْل مَصْدراً ، ثم أطلق على الشيء المُتقرّب به ، كقولهم " نَسْج اليَمَن " ، و " ضَرْب الأمير " .
ويُؤيِّد ذلك أنه لم يُثَنِّ ، والموضعُ موضعُ تَثْنِية ؛ لأنَّ كلاً من قَابيل وهَابيل له قُرْبان يَخُصُّه ، فالأصل : إذ قَرَّبا قُرْبَانين ولأنه لم يُثَنِّ [ لأنه مصدر في الأصل ، وللقائل بأنه اسم ما يتقرّب به لا مصدر أن يقول : إنما لم يُثَنِّ ]{[11483]} ؛ لأن المعنى - كما قاله أبو عَلِيّ الفَارسيّ - : إذ قَرَّبَ كلُّ واحدٍ منهما قُرْبَاناً ، كقوله تعالى : { فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً } [ النور : 4 ] أي : كل واحد منهم .
قال ابن الخطيب{[11484]} : جَمَعَهما في الفِعْل ، وأفرد الاسْم ليستدل بِفِعْلهما على أنَّ لكلِّ واحدٍ منهما قُرْباناً .
وقيل : إنَّ القُرْبَان اسم جنس فهو يَصْلُح للوَاحِد والعَدَد .
وقوله تعالى : { فَتُقُبِّلَ مِن أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الأَخَرِ } .
قال أكثر المُفَسِّرِين{[11485]} : كان علامَةُ القبول أن تأكله النَّار ، وقال مُجَاهد : علامة الردِّ أن تأكله النَّار{[11486]} .
وقيل : لم يكن في ذلك الوَقْتِ فقير يُدفَع إليه ما يتقرَّب به إلى الله - تعالى - ، فكانت تَنْزِلُ من السَّمَاء نار تأكلُهُ .
وإنما صار أحد القُرْبَانَيْن مقبولاً والآخر مردوداً ؛ لأنَّ [ حصول ] التَّقوى شرط في قُبُول الأعْمَال لقوله تعالى هاهنا حِكَاية عن المُحِقِّ { إنَّما يَتَقَبَّل اللَّهُ مِنَ المُتَّقِين } ، وقوله تعالى فيما أمَرنا به من القُرْبان بالبدن : { لَن يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلاَ دِمَآؤُهَا وَلَكِن يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنكُمْ } [ الحج : 37 ] فأخبر أنَّ الذي يصل إليه لَيْس إلاَّ التَّقوى ، والتَّقْوى من صفات القُلُوبِ ؛ لقوله - عليه السلام - : " التَّقْوى هَاهُنَا{[11487]} " وأشار إلى القَلْب .
وحقيقة التَّقْوى : أن يكون على خَوْف ووَجَل من تقصير نَفْسه في تلك الطَّاعَة .
وأن يكون في غَايَةِ الاحْتِرَاز من أن يَأتِي بتلك الطَّاعَة لغرض سوى مَرْضَاة الله تعالى .
وألاَّ يكون فيه شركة لِغَيْر الله تعالى{[11488]} .
قيل : إن قابيل جعل قُرْبَانه أرْدَأ ما كان عِنْده ، وأضْمَر في نفسه ألاَّ يُبَالي قُبِلَ أو لم يُقْبَلْ ، وأنه لا يزوِّج أخْتَه من أخِيه أبَداً .
وقيل : كان قابيل لَيْس من أهل التَّقْوى والطَّاعة فلذلك لم يَقْبَل اللَّهُ قُرْبانه{[11489]} .
قوله تعالى : " قال لأقْتُلَنَّك " ، أي : قال الذي لم يتقبل منه للمَقْبُول منه .
وقرأ الجمهور " لأقتلنَّك " بالنون الشديدة ، وهذا جوابُ قسم مَحْذُوف وقرأه زيدٌ بالخفيفة{[11490]} .
قال أبُو حَيَّان : [ إنما يتقبل الله مَفْعُوله مَحْذُوف ]{[11491]} ، لدلالة المعنى عليه ، أي : قرابينهم وأعمالهم ويجُوزُ ألاَّ يراد له مَفْعُول ، كقوله تعالى { فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى } [ الليل : 5 ] ، هذه الجُمْلَة قال ابن عطيَّة{[11492]} : " قبلها كلام محذوف ، تقديرُه : لِمَ تَقْتُلني وأنا لم أجْنِ شيئاً ، ولا ذَنْبَ لي في تَقَبُّلِ الله قرباني بدون قربانك " ؛ وذكر كلاماً كثيراً .
وقال غيرُه : " فيه حذفٌ يَطُول " وذكر نحوه : ولا حَاجَة إلى تقدير ذلك كلّه ؛ إذ المعاني مفهومَةٌ من فَحْوَى الكلام إذا قُدِّرَتْ قَصِيرةً كان أحْسَن ، والمعنى هنا : لأقْتُلَنَّك حَسَداً على تَقَبُّل قُرْبَانك ، فَعَرَّضَ له بأن سَبَبَ التَّقَبُّل التَّقْوى .
وقال الزَّمَخْشَرِيُّ{[11493]} : " فإن قلت : كيف [ كان ]{[11494]} قوله : { إنما يتقَبَّلُ اللَّه مِنَ المُتَّقِين } جواباً لقوله : " لأقْتُلَنَّكَ " ؟ .
قلت : لمَّا كان الحَسَدُ لأخيه على تَقَبُّل قربانه هو الذي حَمَلَهُ على توعُّده بالقَتْل ، قال : إنَّما أتَيْت من قبل نفسك لانْسِلاَخها من لِبَاسِ التَّقْوَى " انتهى .
وهذا ونَحْوه من تَفسِير المَعْنَى لا الإعْرَاب{[11495]} .
وقيل : إن هذه الجملة اعْتِرَاض بَيْن كلام القَاتِل وكلام المَقْتُول والضَّمِير [ في " قال " ]{[11496]} {[11497]} إنَّما يعود إلى الله تعالى ، أي : قال الله ذلك لِرَسُوله ، فَيَكُون قد اعْتَرض بقوله { إنما يَتَقَبَّل اللَّه } بين كلام قابيل وهو : " قال لأقْتُلَنَّكَ " ، وبين كلام هَابِيل وهو : " لَئِنْ بَسَطْتَ " إلى آخره ، وهو في غاية البُعْد لِتَنافُر النَّظْم .