قوله تعالى : { عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ } ، هذه الجملة فيها الوجهان :
أعني : الحالية ، والاستئناف وفي هذه الكلمة قراءات شاذة ، وتوجيهات مشكلة .
فقرأ أبو جعفر{[58536]} وطلحة : «تِسعَة عْشرَ » - بسكون العين من «عشر » ؛ تخفيفاً ؛ لتوالي خمس حركات من جنس واحد ، وهذه كقراءة { أَحَدَ عَشْرَ كَوْكباً } [ يوسف : 4 ] وقد تقدمت . وقرأ أنس{[58537]} وابن عباس رضي الله عنهما «تِسعَةُ عشَر » بضم التاء ، «عَشَر » بالفتح .
وهذه حركة بناء ، لا يجوز أن يتوهم كونها إعراباً ، إذ لو كانت للإعراب لجعلت في الاسم الأخير لتنزل الكلمتين منزلة الكلمة الواحدة ، وإنما عدل إلى التسكين كراهة توالي خمس حركات .
وعن المهدوي : «من قرأ : " تِسْعَةُ عَشَرْ " فكأنه من التداخل ، كأنه أراد العطف ، فترك التركيب ، ورفع هاء التأنيث ، ثم راجع البناء ، وأسكن » انتهى .
فجعل الحركة للإعراب ، ويعني بقوله : أسكن راء «عَشَرْ » فإنه في هذه القراءة كذلك .
وعن أنس - رضي الله عنه{[58538]} - أيضاً : «تِسْعَةُ أعْشُرٍ » بضم «تِسْعَة » و «أعْشُر » بهمزة مفتوحة ، ثم عين ساكنة ، ثم شين مضمومة ، وفيها وجهان :
قال أبو الفضل : يجوز أن يكون جمع «العشيرة » على «أعْشُر » ، ثم أجراه مجرى «تِسْعَة عشر » .
وقال الزمخشريُّ : جمع «عَشِير » مثل : يَمِين وأيْمُن .
وعن أنس - أيضاً{[58539]} - : «تِسْعَةُ وعْشُرْ » بضم التاء وسكون العين وضم الشين وواو مفتوحة بدل الهمزة .
وتخريجها كتخريج ما قبلها ، إلا أنه قلب الهمزة واواً مبالغة في التخفيف ، والضمة - كما تقدم - للبناء لا للإعراب .
ونقل المهدوي : أنه قرئ : «تِسْعَةٌ وعَشْرْ » ، قال : «فجاء به على الأصل قبل التركيب وعطف " عَشْر " على " تِسْعَة " ، وحذف التنوين ، لكثرة الاستعمال ، وسكون الراء من " عشر " على نية الوقف » .
وقرأ سليمان بن قتة : بضم{[58540]} التاء وهمزة مفتوحة ، وسكون العين ، وضم الشين وجر الراء من «أعْشُرٍ » .
والضمة على هذا ضمة إعراب ، لأنه أضاف الاسم لها بعده فأعربهما إعراب المتضايفين وهي لغة لبعض العرب يفكون تركيب الأعداد ، ويعربونها كالمتضايفين ؛ كقوله : [ الرجز ]
4969 - كُلِّفَ مِنْ عَنائِهِ وشِقْوتِهْ*** بِنْتَ ثَمانِي عَشْرةٍ مِنْ حِجَّتِهْ{[58541]}
قال أبو الفضل : ويجيء على هذه القراءة ، وهي قراءة من قرأ : «أعشر » مبنياً ، أو معرباً من حيث هو جمع ، أن الملائكة الذي هم على «سَقَر » تسعون ملكاً .
معنى الآية : أنه يلي أمر تلك النار تسعة عشر من الملائكة يلقون فيها أهلها .
قيل : هم خزنة النار ، مالك وثمانية عشر ملكاً .
وقيل : التسعة عشر نقيباً ، وقال أكثر المفسرين : تسعة عشر ملكاً بأعيانهم .
قال القرطبي{[58542]} : وذكر ابن المبارك عن رجل من بني تميم ، قال كنا عند أبي العوام فقرأ هذه الآية ، فقال : ما تسعة عشر تسعة عشر ألف ملك أو تسعة عشر ملكاً ؟ قال : قلت : لا بل تسعة عشر ملكاً ، قال : وأنى تعلم ذلك ؟
فقلت : لقول الله - عز وجل - : { وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلاَّ فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ } .
قال : صدقت ، هم تسعة عشر ملكاً .
قال ابنُ جريج : نعت النبي صلى الله عليه وسلم خزنة جهنم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :«أعْينُهُمْ كالبَرْقِ ، وأنْيابُهمْ كالصَّيَاصي ، وأشْعارُهمْ{[58543]} تَمَسُّ أقْدامَهُمْ يَخرجُ لهَبُ النَّارِ مِنَ أفْواهِهِمْ »{[58544]} ، الحديث .
قال ابن الأثير : «الصَّياصِي : قرون البقر » .
وروى الترمذي عن عبد الله قال : «قال ناس من اليهود لأناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم : هل يعلم نبيكم عدد خزنة جهنم ؟
قالوا : لا ندري حتى نسأله فجاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا محمد غلب أصحابك اليوم ، فقال : وبماذا غلبوا ؟ .
قال : سألهم يهود ، هل يعلم نبيكم عدد خزنة جهنم ؟ .
قال : فماذا قالوا ؟ قال : فقالوا : لا ندري حتى نسأل نبينا صلى الله عليه وسلم قال صلى الله عليه وسلم : أيغلب قومٌ سئلوا عما لا يعلمون ، فقالوا : لا نعلم حتى نسأل نبينا صلى الله عليه وسلم ؟ لكنهم قد سألوا نبيهم ، فقالوا : أرنا الله جهرة ، عليّ بأعداء الله ، إني سائلهم عن تربة الجنة ، وهي الدرمك ، فلما جاءوا ، قالوا : يا أبا القاسم ، كم عدد خزنة جهنم ؟ .
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " هَكذَا ، وهَكذَا " ، في مرة عشرة ، وفي مرة تسعة ، قالوا : نعم فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم : " مَا تُربَةُ الجنَّةِ " ؟ فسكتوا ، ثم قالوا : أخبرنا يا أبا القاسم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " الخُبْزُ مِنَ الدَّرْمكِ " {[58545]} .
قال ابن الأثير : الدرمك : هو الدقيق الحوارى .
قال القرطبيُّ : الصحيح - إن شاء الله - أن هؤلاء التسعة عشر ، هم الرؤساء ، والنقباء ، وأما جملتهم فكما قال تعالى : { وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ } ، وقد ثبت في الصحيح عن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «يُؤتَى بجَهنَّم يَومئِذٍ ، لها سبعُونَ ألفَ زمام ، مع كل زمام سبعون ألف ملك يَجُرُّونهَا »{[58546]} .
وقال ابن عباس وقتادة والضحاك : لما نزل قوله - عز وجل - { عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ } قال أبو جهل لقريش : ثكلتكم أمهاتكم ، أسمعُ ابن أبي كبشة يخبركم أن خزنة جهنم : «تسعة عشر » وأنتم الدهماء - أي العدد العظيم - والشجعان ، فيعجز كل عشرة منكم أن يبطشوا بواحد منهم{[58547]} .
قال السدي : فقال أبو الأسود بن كلدة الجمحي : لا يهولنكم التسعة عشر ، أنا أدفع بمنكبي الأيمن عشرة من الملائكة وبمنكبي الأيسر التسعة ، ثم تمرون إلى الجنة ، يقولها مستهزءاً{[58548]} .
وفي رواية : أن الحارث بن كلدة قال : أنا أكفيكم سبعة عشر ، واكفوني أنتم اثنين{[58549]} ، فلما قال أبو الأسود ذلك ، قال المسلمون : ويحكم ، لا يقاس الملائكة بالحدادين ، فجرى هذا مثلاً في كل شيئين لا تساوي بينهما ، ومعناه : لا يقاس الملائكة بالسجّانين ، والحداد : السجان .
ذكر أرباب المعاني في تقدير هذا العدد وجوهاً :
منها ما قاله أرباب الحكمةِ : أنّ سبب فساد النفس الإنسانية في قوتها النظرية والعملية ، هو القوى الحيوانية والطبيعية ، فالقوى الحيوانية : فهي الخمسة الظاهرة ، والخمسة الباطنة ، والشَّهوة ، والغضب فهذه اثنا عشر ، وأما القوى الطبيعية : فهي الجاذبة ، والماسكة ، والهاضمة ، والدافعة والعادية ، والنافية ، والمولدة ، فالجموع تسعة عشر ، فلما كانت هذه منشآت الآفات لا جرم كان عدد الزبانية هكذا .
ومنها : أن أبواب جهنم سبعة ، فستة منها للكفار وواحد للفسَّاق ، ثم إنَّ الكفَّار يدخلون النار لأمور ثلاثة : ترك الاعتقاد ، وترك الإقرار ، وترك العمل ، فيكون لكل باب من تلك الأبواب الستة ثلاثة ، فالمجموع : ثمانية عشر .
وأما باب الفساق : فليس هناك إلا ترك العمل ، فالمجموع : تسعة عشر مشغولة بغير العبادة ، فلا جرم صار عدد الزبانية تسعة عشر .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.