اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{عَلَيۡهَا تِسۡعَةَ عَشَرَ} (30)

قوله تعالى : { عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ } ، هذه الجملة فيها الوجهان :

أعني : الحالية ، والاستئناف وفي هذه الكلمة قراءات شاذة ، وتوجيهات مشكلة .

فقرأ أبو جعفر{[58536]} وطلحة : «تِسعَة عْشرَ » - بسكون العين من «عشر » ؛ تخفيفاً ؛ لتوالي خمس حركات من جنس واحد ، وهذه كقراءة { أَحَدَ عَشْرَ كَوْكباً } [ يوسف : 4 ] وقد تقدمت . وقرأ أنس{[58537]} وابن عباس رضي الله عنهما «تِسعَةُ عشَر » بضم التاء ، «عَشَر » بالفتح .

وهذه حركة بناء ، لا يجوز أن يتوهم كونها إعراباً ، إذ لو كانت للإعراب لجعلت في الاسم الأخير لتنزل الكلمتين منزلة الكلمة الواحدة ، وإنما عدل إلى التسكين كراهة توالي خمس حركات .

وعن المهدوي : «من قرأ : " تِسْعَةُ عَشَرْ " فكأنه من التداخل ، كأنه أراد العطف ، فترك التركيب ، ورفع هاء التأنيث ، ثم راجع البناء ، وأسكن » انتهى .

فجعل الحركة للإعراب ، ويعني بقوله : أسكن راء «عَشَرْ » فإنه في هذه القراءة كذلك .

وعن أنس - رضي الله عنه{[58538]} - أيضاً : «تِسْعَةُ أعْشُرٍ » بضم «تِسْعَة » و «أعْشُر » بهمزة مفتوحة ، ثم عين ساكنة ، ثم شين مضمومة ، وفيها وجهان :

قال أبو الفضل : يجوز أن يكون جمع «العشيرة » على «أعْشُر » ، ثم أجراه مجرى «تِسْعَة عشر » .

وقال الزمخشريُّ : جمع «عَشِير » مثل : يَمِين وأيْمُن .

وعن أنس - أيضاً{[58539]} - : «تِسْعَةُ وعْشُرْ » بضم التاء وسكون العين وضم الشين وواو مفتوحة بدل الهمزة .

وتخريجها كتخريج ما قبلها ، إلا أنه قلب الهمزة واواً مبالغة في التخفيف ، والضمة - كما تقدم - للبناء لا للإعراب .

ونقل المهدوي : أنه قرئ : «تِسْعَةٌ وعَشْرْ » ، قال : «فجاء به على الأصل قبل التركيب وعطف " عَشْر " على " تِسْعَة " ، وحذف التنوين ، لكثرة الاستعمال ، وسكون الراء من " عشر " على نية الوقف » .

وقرأ سليمان بن قتة : بضم{[58540]} التاء وهمزة مفتوحة ، وسكون العين ، وضم الشين وجر الراء من «أعْشُرٍ » .

والضمة على هذا ضمة إعراب ، لأنه أضاف الاسم لها بعده فأعربهما إعراب المتضايفين وهي لغة لبعض العرب يفكون تركيب الأعداد ، ويعربونها كالمتضايفين ؛ كقوله : [ الرجز ]

4969 - كُلِّفَ مِنْ عَنائِهِ وشِقْوتِهْ*** بِنْتَ ثَمانِي عَشْرةٍ مِنْ حِجَّتِهْ{[58541]}

قال أبو الفضل : ويجيء على هذه القراءة ، وهي قراءة من قرأ : «أعشر » مبنياً ، أو معرباً من حيث هو جمع ، أن الملائكة الذي هم على «سَقَر » تسعون ملكاً .

فصل في معنى الآية

معنى الآية : أنه يلي أمر تلك النار تسعة عشر من الملائكة يلقون فيها أهلها .

قيل : هم خزنة النار ، مالك وثمانية عشر ملكاً .

وقيل : التسعة عشر نقيباً ، وقال أكثر المفسرين : تسعة عشر ملكاً بأعيانهم .

قال القرطبي{[58542]} : وذكر ابن المبارك عن رجل من بني تميم ، قال كنا عند أبي العوام فقرأ هذه الآية ، فقال : ما تسعة عشر تسعة عشر ألف ملك أو تسعة عشر ملكاً ؟ قال : قلت : لا بل تسعة عشر ملكاً ، قال : وأنى تعلم ذلك ؟

فقلت : لقول الله - عز وجل - : { وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلاَّ فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ } .

قال : صدقت ، هم تسعة عشر ملكاً .

قال ابنُ جريج : نعت النبي صلى الله عليه وسلم خزنة جهنم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :«أعْينُهُمْ كالبَرْقِ ، وأنْيابُهمْ كالصَّيَاصي ، وأشْعارُهمْ{[58543]} تَمَسُّ أقْدامَهُمْ يَخرجُ لهَبُ النَّارِ مِنَ أفْواهِهِمْ »{[58544]} ، الحديث .

قال ابن الأثير : «الصَّياصِي : قرون البقر » .

وروى الترمذي عن عبد الله قال : «قال ناس من اليهود لأناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم : هل يعلم نبيكم عدد خزنة جهنم ؟

قالوا : لا ندري حتى نسأله فجاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا محمد غلب أصحابك اليوم ، فقال : وبماذا غلبوا ؟ .

قال : سألهم يهود ، هل يعلم نبيكم عدد خزنة جهنم ؟ .

قال : فماذا قالوا ؟ قال : فقالوا : لا ندري حتى نسأل نبينا صلى الله عليه وسلم قال صلى الله عليه وسلم : أيغلب قومٌ سئلوا عما لا يعلمون ، فقالوا : لا نعلم حتى نسأل نبينا صلى الله عليه وسلم ؟ لكنهم قد سألوا نبيهم ، فقالوا : أرنا الله جهرة ، عليّ بأعداء الله ، إني سائلهم عن تربة الجنة ، وهي الدرمك ، فلما جاءوا ، قالوا : يا أبا القاسم ، كم عدد خزنة جهنم ؟ .

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " هَكذَا ، وهَكذَا " ، في مرة عشرة ، وفي مرة تسعة ، قالوا : نعم فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم : " مَا تُربَةُ الجنَّةِ " ؟ فسكتوا ، ثم قالوا : أخبرنا يا أبا القاسم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " الخُبْزُ مِنَ الدَّرْمكِ " {[58545]} .

قال ابن الأثير : الدرمك : هو الدقيق الحوارى .

قال القرطبيُّ : الصحيح - إن شاء الله - أن هؤلاء التسعة عشر ، هم الرؤساء ، والنقباء ، وأما جملتهم فكما قال تعالى : { وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ } ، وقد ثبت في الصحيح عن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «يُؤتَى بجَهنَّم يَومئِذٍ ، لها سبعُونَ ألفَ زمام ، مع كل زمام سبعون ألف ملك يَجُرُّونهَا »{[58546]} .

وقال ابن عباس وقتادة والضحاك : لما نزل قوله - عز وجل - { عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ } قال أبو جهل لقريش : ثكلتكم أمهاتكم ، أسمعُ ابن أبي كبشة يخبركم أن خزنة جهنم : «تسعة عشر » وأنتم الدهماء - أي العدد العظيم - والشجعان ، فيعجز كل عشرة منكم أن يبطشوا بواحد منهم{[58547]} .

قال السدي : فقال أبو الأسود بن كلدة الجمحي : لا يهولنكم التسعة عشر ، أنا أدفع بمنكبي الأيمن عشرة من الملائكة وبمنكبي الأيسر التسعة ، ثم تمرون إلى الجنة ، يقولها مستهزءاً{[58548]} .

وفي رواية : أن الحارث بن كلدة قال : أنا أكفيكم سبعة عشر ، واكفوني أنتم اثنين{[58549]} ، فلما قال أبو الأسود ذلك ، قال المسلمون : ويحكم ، لا يقاس الملائكة بالحدادين ، فجرى هذا مثلاً في كل شيئين لا تساوي بينهما ، ومعناه : لا يقاس الملائكة بالسجّانين ، والحداد : السجان .

فصل في تقدير عدد الملائكة

ذكر أرباب المعاني في تقدير هذا العدد وجوهاً :

منها ما قاله أرباب الحكمةِ : أنّ سبب فساد النفس الإنسانية في قوتها النظرية والعملية ، هو القوى الحيوانية والطبيعية ، فالقوى الحيوانية : فهي الخمسة الظاهرة ، والخمسة الباطنة ، والشَّهوة ، والغضب فهذه اثنا عشر ، وأما القوى الطبيعية : فهي الجاذبة ، والماسكة ، والهاضمة ، والدافعة والعادية ، والنافية ، والمولدة ، فالجموع تسعة عشر ، فلما كانت هذه منشآت الآفات لا جرم كان عدد الزبانية هكذا .

ومنها : أن أبواب جهنم سبعة ، فستة منها للكفار وواحد للفسَّاق ، ثم إنَّ الكفَّار يدخلون النار لأمور ثلاثة : ترك الاعتقاد ، وترك الإقرار ، وترك العمل ، فيكون لكل باب من تلك الأبواب الستة ثلاثة ، فالمجموع : ثمانية عشر .

وأما باب الفساق : فليس هناك إلا ترك العمل ، فالمجموع : تسعة عشر مشغولة بغير العبادة ، فلا جرم صار عدد الزبانية تسعة عشر .


[58536]:ينظر: المحرر الوجيز 5/396، والبحر المحيط 8/368، والدر المصون 6/418.
[58537]:ينظر: السابق.
[58538]:ينظر: السابق.
[58539]:ينظر: الدر المصون 6/418.
[58540]:ينظر: البحر المحيط 8/368، والدر المصون 6/418.
[58541]:الرجز لنفيع بن طارق ينظر الحيوان 6/463، والدرر 6/197، وشرح التصريح 2/275، والمقاصد النحوية 4/488، والإنصاف 1/309، وأوضح المسالك 4/259، وخزانة الأدب 6/430، 432، وشرح الأشموني 3/627، واللسان (شقا)، وهمع الهوامع 2/149.
[58542]:الجامع لأحكام القرآن 19/52.
[58543]:في أ: أشفارهم.
[58544]:ذكره القرطبي في "تفسيره" (19/52).
[58545]:ذكره الهيثمي في "مجمع الزوائد" (10/402)، وقال: رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح غير مجالد وثقه غير واحد. وذكره في موضع آخر (10/415) وقال: رواه أحمد وإسناده حسن.
[58546]:تقدم تخريجه.
[58547]:أخرجه الطبري في "تفسيره" (12/312) عن ابن عباس وقتادة وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (6/456) عن قتادة وزاد نسبته إلى عبد بن حميد.
[58548]:ذكره القرطبي في "تفسيره" (19/53).
[58549]:ينظر المصدر السابق.