اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{لَوَّاحَةٞ لِّلۡبَشَرِ} (29)

قوله تعالى : { لَوَّاحَةٌ لِّلْبَشَرِ } ، قرأ العامة : بالرفع ، خبر مبتدأ مضمر ، أي هي لواحة ، وهذه مقوية للاستئناف في " لا تُبقِي " .

وقرأ الحسن ، وابن أبي عبلة وزيد بن{[58530]} علي وعطية العوفي ونصر بن عاصم وعيسى بن عمر : بنصبهما على الحال ، وفيها ثلاثة أوجه :

أحدها : أنها حال من " سَقرُ " ، والعامل معنى التعظيم كما تقدم .

والثاني : أنها حال من " لا تُبْقِي " .

والثالث : من " لا تَذرُ " .

وجعل الزمخشري : نصبها على الاختصاص للتهويل .

وجعلها أبو حيان حالاً مؤكدة .

قال : " لأن النار التي لا تبقي ولا تذر ، لا تكون إلاَّ مُغيرة للأبشار " .

و " لوَّاحةٌ " هنا مبالغة ، وفيها معنيان :

أحدهما : من لاح يلوح ، أي : ظهر ، أي : أنها تظهر للبشر ، [ وهم الناس ، وإليه ذهب الحسن وابن كيسان ، فقال : " لوَّاحةٌ " أي : تلوح للبشر ]{[58531]} من مسيرة خمسمائة عام ، وقال الحسن : تلوح لهم جهنم حتى يرونها عياناً ، ونظيره :{ وَبُرِّزَتِ الجحيم لِمَن يرى } [ النازعات : 36 ] .

والثاني : وإليه ذهب جمهور الناس ، أنها من لوّحه أي : غيَّرهُ ، وسوَّدهُ .

قال الشاعر : [ الرجز ]

4965 - تقُولُ : ما لاحَكَ يا مُسَافِرُ*** يَا بْنَةَ عَمِّي لاحَنِي الهَواجِرُ{[58532]}

وقال رؤبة بن العجَّاج : [ الرجز ]

4966 - لُوِّحَ مِنْهُ بَعْدَ بُدْنٍ وسَنَقْ*** تَلْويحكَ الضَّامرَ يُطْوى للسَّبَقْ{[58533]}

وقال آخر : [ الطويل ]

4967 - وتَعْجَبُ هِنْدٌ إنْ رأتْنِي شَاحِباً*** تقُولُ لشَيءٍ لوَّحتهُ السَّمائمُ{[58534]}

ويقال : لاحَهُ يلُوحُه : إذا غير حليته .

قال أبو رزين : تلفح وجوههم لفحة تدعهم أشد سواداً من الليل ، قال تعالى : { تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النار وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ } [ المؤمنون : 104 ] .

وطعن القائلون بالأول في هذا القول ، فقالوا : لا يجوز أن يصفهم بتسويد الوجوهِ ، مع قوله : { لاَ تُبْقِي وَلاَ تَذَرُ } .

وقيل : اللوح شدة العطش ، يقال : لاحه العطش ولوحه : أي غيره ، قال الأخفش : والمعنى أنها معطشة للبشر ، أي : لأهلها ؛ وأنشد : [ الطويل ]

4968 - سَقَتْنِي على لَوْحِ من المَاءِ شَرْبةً*** سَقَاهَا بِه اللَّهُ الرِّهامَ الغَوادِيَا{[58535]}

يعني باللوح : شدة العطش . والرهام جمع رهمة - بالكسر - وهي المطرة الضعيفة وأرهمت السحابة : أتت بالرهام .

واللُّوح - بالضم - الهواء بين السماء والأرض ، والبشر : إما جمع بشرة ، أي : مغيرة للجلود . قاله مجاهد وقتادة ، وجمع البشر : أبشار ، وإما المراد به الإنس من أهل النار ، وهو قول الجمهور .

واللام في «البشر » : مقوية ، كهي في { لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ } [ يوسف : 43 ] .

وقراءة النصب في «لوَّاحَةً » مقوية ، لكون «لا تُبْقِي » في محل الحال .


[58530]:ينظر: المحرر الوجيز 5/396، والبحر المحيط 8/367، والدر المصون 6/417.
[58531]:سقط من أ.
[58532]:ينظر الكشاف 4/183، وشرح شواهده ص 424، ومجاز القرآن 2/25، 275، والقرطبي 19/51، والبحر 8/361، والدر 6/417، وروح المعاني 29/157.
[58533]:ينظر ديوان رؤبة ص 104، والقرطبي 19/51.
[58534]:ينظر اللسان (شحب)، و(لوح) و(سمم) والقرطبي 19/51، والبحر 8/361، والدر المصون 6/417.
[58535]:البيت لسحيم عبد بني الحسحاس. ينظر ديوانه (20)، والقرطبي 19/51، والبحر 8/361، والدر المصون 6/417.