مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي [إخفاء]  
{وَٱلنَّجۡمِ إِذَا هَوَىٰ} (1)

مقدمة السورة:

مكية وآياتها ثنتان وستون

{ والنجم إذا هوى } وقبل الشروع في التفسير نقدم مسائل ثم نتفرغ للتفسير وإن لم تكن منه :

المسألة الأولى : أول هذه السورة مناسب لآخر ما قبلها لفظا ومعنى ، أما اللفظ فلأن ختم الطور بالنجم ، وافتتاح هذه بالنجم مع واو القسم ، وأما المعنى فنقول : الله تعالى لما قال لنبيه صلى الله عليه وسلم { ومن الليل فسبحه وإدبار النجوم } بين له أنه جزأه في أجزاء مكايدة النبي صلى الله عليه وسلم ، بالنجم وبعده فقال : { ما ضل صاحبكم وما غوى } .

المسألة الثانية : السورة التي تقدمت وافتتاحها بالقسم بالأسماء دون الحروف وهي الصافات والذاريات ، والطور ، وهذه السورة بعدها بالأولى فيها القسم لإثبات الوحدانية كما قال تعالى : { إن إلهكم لواحد } وفي الثانية لوقوع الحشر والجزاء كما قال تعالى : { إنما توعدون لصادق * وإن الدين لواقع } وفي الثالثة لدوام العذاب بعد وقوعه كما قال تعالى : { إن عذاب ربك لواقع * ما له من دافع } .

وفي هذه السورة لنبوة النبي صلى الله عليه وسلم لتكمل الأصول الثلاثة : الوحدانية ، والحشر ، والنبوة .

المسألة الثالثة : لم يقسم الله على الوحدانية ولا على النبوة كثيرا ، أما على الوحدانية فلأنه أقسم بأمر واحد في سورة الصافات ، وأما على النبوة فلأنه أقسم بأمر واحد في هذه السورة وبأمرين في سورة الضحى وأكثر من القسم على الحشر وما يتعلق به فإن قوله تعالى : { والليل إذا يغشى } وقوله تعالى : { والشمس وضحاها } وقوله تعالى : { والسماء ذات البروج } إلى غير ذلك ، كلها فيها الحشر أو ما يتعلق به ، وذلك لأن دلائل الوحدانية كثيرة كلها عقلية كما قيل :

وفي كل شيء له آية *** تدل على أنه واحد

ودلائل النبوة أيضا كثيرة وهي المعجزات المشهورة والمتواترة ، وأما الحشر فإمكانه يثبت بالعقل ، وأما وقوعه فلا يمكن إثباته إلا بالسمع فأكثر القسم ليقطع به المكلف ويعتقده اعتقادا جازما .

وأما التفسير ففيه مسائل :

الأولى : الواو للقسم بالنجم أو برب النجم ففيه خلاف قدمناه ، والأظهر أنه قسم بالنجم يقال ليس للقسم في الأصل حرف أصلا لكن الباء والواو استعملنا فيه لمعنى عارض ، وذلك لأن الباء في أصل القسم هي الباء التي للإلصاق والاستعانة فكما يقول القائل : استعنت بالله ، يقول : أقسمت بالله ، وكما يقول : أقوم بعون الله على العدو ، يقول : أقسم بحق الله فالباء فيهما بمعنى كما تقول : كتب بالقلم ، فالباء في الحقيقة ليست للقسم غير أن القسم كثر في الكلام فاستغنى عن ذكره وغيره لم يكثر فلم يستغن عنه ، فإذا قال القائل : بحق زيد فهم منه القسم لأن المراد لو كان هو مثل قوله : ادخل زيد ، أو اذهب بحق زيد ، أو لم يقسم بحق زيد لذكر كما ذكر في هذه الأشياء لعدم الاستغناء فلما لم يذكر شيء علم أن الحذف للشهرة والاستغناء ، وذلك ليس في غير القسم فعلم أن المحذوف فعل القسم ، فكأنه قال : أقسم بحق زيد ، فالباء في الأصل ليس للقسم لكن لما عرض ما ذكرنا من الكثرة والاشتهار قيل الباء للقسم ، ثم إن المتكلم نظر فيه فقال هذا لا يخلو عن التباس فإني إذا قلت بالله توقف السامع فإن سمع بعده فعلا غير القسم كقوله : بالله استعنت وبالله قدرت وبالله مشيت وأخذت ، لا يحمله على القسم ، وإن لم يسمع حمله على القسم إن لم يتوهم وجود فعل ما ذكرته ولم يسمعه ، أما إن توهم أني ذكرت مع قولي بالله شيئا آخر وما سمعه هو أيضا يتوقف فيه ففي الفهم توقف ، فإذا أراد المتكلم الحكيم إذهاب ذلك مع الاختصار وترك ما استغنى عنه ، وهو فعل القسم أبدل الباء بالتاء ، وقال : تالله ، فتكلم بها في كلمة الله لاشتهار كلمة الله والأمن من الالتباس فإن التاء في أوائل الكلمات قد تكون أصلية ، وقد تكون للخطاب والتأنيث ، فلو أقسم بحرف التاء بمن اسمه داعي أو راعي أو هادي أو عادي يقول تداعى أو تراعى أو تهادى أو تعادى فيلتبس ، وكذلك فيمن اسمه رومان أو توران إذا قلت ترومان أو تتوران على أنك تقسم بالتاء تلتبس بتاء الخطاب والتأنيث في الاستقبال ، فأبدلوها واوا لا يقال عليه إشكالان : ( الأول ) مع الواو لم يؤمن الالتباس ، نقول ولى فتلتبس الواو الأصلية بالتي للقسم لأنا نقول ذلك لم يلزم فيما ذهبنا إليه ، وإنما كان ذلك في الواو حيث يدل وينبئ عن العطف وإن لم يستعمل الواو للقسم ، كيف وذلك في الباء التي هي كالأصل متحقق تقول برام في جمع برمة ، وبهام في جمع بهمة ، وبغال للبسية الباء الأصلية التي في البغال والبرام بالباء التي تلصقها بقولك مال ورأى فتقول بمال ، وأما التاء لما استعملت للقسم لزم من ذلك الاستعمال الالتباس حيث لم يكن من قبل حرفا من الأدوات كالباء والواو ( الإشكال الثاني ) لم تركت مما لا التباس فيه كقولك : تالرحيم وتالعظيم ؟ نقول : لما كانت كلمة الله تعالى في غاية الشهرة والظهور استعملت التاء فيها على خلاف الأصل ، بمعنى لم يجز أن يقال عليها إلا ما يكون في شهرتها ، وأما غيرها فربما يخفى عند البعض ، فإن من يسمع الرحيم وسمع في الندرة تر بمعنى قطع ربما يقول ترحيم فعل وفاعل أو فعل ومفعول وإن كان ذلك في غاية البعد لكن الاستواء في الشهرة في المنقول منه والمنقول إليه لازم ، ولا مشهور مثل كلمة الله ، على أنا نقول لم قلت إن عند الأمن لا تستعمل ألا ترى أنه نقل عن العرب برب الكعبة والذي يؤيد ما ذكرنا أنت تقول أقسم بالله ولا تقول أقسم تالله لأن التاء فيه مخافة الالتباس عند حذف الفعل من القسم وعند الإتيان به لم يخف ذلك فلم يجز .

المسألة الثانية : اللام في قوله تعالى : { والنجم } لتعريف العهد في قول ولتعريف الجنس في قول ، والأول قول من قال : { والنجم } المراد منه الثريا ، قال قائلهم :

إن بدا النجم عشيا *** ابتغى الراعي كسيا

والثاني فيه وجوه : ( أحدها ) النجم هو نجم السماء التي هي ثابتة فيها للاهتداء وقيل لا بل النجم المنقضة فيها التي هي رجوم للشياطين ( ثانيها ) نجوم الأرض وهي من النبات ما لا ساق له ( ثالثها ) نجوم القرآن ولنذكر مناسبة كل وجه ونبين فيه المختار منها ، أما على قولنا المراد الثريا فهو أظهر النجوم عند الرائي لأن له علامة لا يلتبس بغيره في السماء ويظهر لكل أحد والنبي صلى الله عليه وسلم تميز عن الكل بآيات بينات فأقسم به ، ولأن الثريا إذا ظهرت من المشرق بالبكر حان إدراك الثمار ، وإذا ظهرت بالعشاء أواخر الخريف نقل الأمراض والنبي صلى الله عليه وسلم لما ظهر قل الشك والأمراض القلبية وأدركت الثمار الحكمية والحلمية ، وعلى قولنا المراد هي النجوم التي في السماء للاهتداء نقول النجوم بها الاهتداء في البراري فأقسم الله بها لما بينهما من المشابهة والمناسبة ، وعلى قولنا المراد الرجوم من النجوم ، فالنجوم تبعد الشياطين عن أهل السماء والأنبياء يبعدون الشياطين عن أهل الأرض ، وعلى قولنا المراد القرآن فهو استدل بمعجزة النبي صلى الله عليه وسلم على صدقه وبراءته فهو كقوله تعالى : { يس * والقرءان الحكيم * إنك لمن المرسلين * على صراط مستقيم } ما ضللت ولا غويت ، وعلى قولنا النجم هو النبات ، فنقول النبات به ثبات القوى الجسمانية وصلاحها والقوة العقلية أولى بالإصلاح ، وذلك بالرسل وإيضاح السبل ، ومن هذا يظهر أن المختار هو النجوم التي هي في السماء لأنها أظهر عند السامع وقوله { إذا هوى } أدل عليه ، ثم بعد ذلك القرآن أيضا فيه ظهور ثم الثريا .

المسألة الثالثة : القول في { والنجم } كالقول في { والطور } حيث لم يقل والنجوم ولا الأطوار ، وقال : { والذاريات } { والمرسلات } وقد تقدم ذكره .

المسألة الرابعة : ما الفائدة في تقييد القسم به بوقت هو به ؟ نقول النجم إذا كان في وسط السماء يكون بعيدا عن الأرض لا يهتدي به الساري لأنه لا يعلم به المشرق من المغرب ولا الجنوب من الشمال ، فإذا زال تبين بزواله جانب المغرب من المشرق والجنوب من الشمال كذلك النبي صلى الله عليه وسلم خفض جناحه للمؤمنين وكان على خلق عظيم كما قال تعالى : { وإنك لعلى خلق عظيم } وكما قال تعالى : { فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك } إن قيل الاهتداء بالنجم إذا كان على أفق المشرق كالاهتداء به إذا كان على أفق المغرب فلم يبق ما ذكرت جوابا عن السؤال ، نقول الاهتداء بالنجم وهو مائل إلى المغرب أكثر لأنه يهدي في الطريقين الدنيوي والديني ، أما الدنيوي فلما ذكرنا ، وأما الديني فكما قال الخليل { لا أحب الآفلين } وفيه لطيفة ، وهي أن الله لما أقسم بالنجم شرفه وعظمه ، وكان من المشركين من يعبده فقرن بتعظيمه وصفا يدل على أنه لم يبلغ درجة العبادة ، فإنه هاو آفل .

 
المنتخب في تفسير القرآن الكريم للمجلس الأعلى للشؤون الإسلامية - المنتخب [إخفاء]  
{وَٱلنَّجۡمِ إِذَا هَوَىٰ} (1)

مقدمة السورة:

القسم في مستهل هذه السورة يجلي صدق الرسول صلى الله عليه وسلم فيما يتحدث به من خبر الوحي ، وما يبلغه عنه ما ضل في شيء منه وما غوى ، وصدق الرسول صلى الله عليه وسلم فيما تحدث به عن رحلته إلى السماء في حادث المعراج ، ما زاغ بصره وما طغى .

ثم تنتقل السورة إلى الحديث عن تفاهة عقول الكافرين في عبادتهم لأصنام اصطنعوها بأيديهم ، وسموها بأسماء من عندهم ، كما سموا الملائكة إناثا بعد أن جعلوا لله البنات ، واختصوا أنفسهم بالذكور .

ثم تطلب إلى الرسول صلى الله عليه وسلم الإعراض عنهم ، وترك أمرهم إلى الله الذي له في السماوات والأرض ملكا وخلقا ، والذي سيجازى المسيء بإساءته والمحسن بإحسانه ، وهو أعلم بجميع أطوار خلقه وأحوالهم ، متبعة ذلك بالتنديد بمن أنكر حساب كل إنسان على عمله ، كما جرت بذلك الشرائع السابقة ، وأخبرت صحف موسى وإبراهيم . وقررت الآيات كل هذه المعاني بما عرضت من صور القدرة وآيات الله في الأمم السابقة .

ثم تختم السورة بتوضيح أن القرآن نذير من النذر التي أنذرت بها الأمم السابقة ، ليخشوا يوم القيامة الذي قرب وقته ، وتعنى على الكافرين بالقرآن غفلتهم عن ذلك ، واستبدالهم الضحك مكان بكائهم واتعاظهم به ، وقد طلبت إلى المؤمنين أن يسجدوا لله الذي أنزله ويعبدوه .

1 - أقسم بالنجم إذا هوى للغروب : ما عدل محمد عن طريق الحق وما اعتقد باطلا .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{وَٱلنَّجۡمِ إِذَا هَوَىٰ} (1)

مقدمة السورة:

سورة النجم مكية وآياتها ثنتان وستون

هذه السورة في عمومها كأنها منظومة موسيقية علوية ، منغمة ، يسري التنغيم في بنائها اللفظي كما يسري في إيقاع فواصلها الموزونة المقفاة . ويلحظ هذا التنغيم في السورة بصفة عامة ؛ ويبدو القصد فيه واضحا في بعض المواضع ؛ وقد زيدت لفظة أو اختيرت قافية ، لتضمن سلامة التنغيم ودقة إيقاعه - إلى جانب المعنى المقصود الذي تؤديه في السياق كما هي عادة التعبير القرآني - مثل ذلك قوله : ( أفرأيتم اللات والعزى . ومناة الثالثة الأخرى ) . . فلو قال ومناة الأخرى ينكسر الوزن . ولو قال : ومناة الثالثة فقط يتعطل إيقاع القافية ولكل كلمة قيمتها في معنى العبارة . ولكن مراعاة الوزن والقافية كذلك ملحوظة . ومثلها كلمة( إذن )في وزن الآيتين بعدها : ألكم الذكر وله الأنثى ? تلك إذا قسمة ضيزى ! وكلمة( إذن )ضرورية للوزن . وإن كانت - مع هذا - تؤدي غرضا فنيا في العبارة . . . وهكذا .

ذلك الإيقاع ذو لون موسيقي خاص . لون يلحظ فيه التموج والانسياب . وبخاصة في المقطع الأول والمقطع الأخير من السورة . وهو يتناسق بتموجه وانسيابه مع الصور والظلال الطليقة المرفرفة في المقطع الأول . ومع المعاني واللمسات العلوية في المقطع الأخير . وما بينهما مما هو قريب منهما في الجو والموضوع .

والصور والظلال في المقطع الأول ، تشع من المجال العلوي الذي تقع فيه الأحداث النورانية والمشاهد الربانية التي يصفها هذا المقطع . ومن الحركات الطليقة للروح الأمين وهو يتراءى للرسول الكريم . . والصور والظلال والحركات والمشاهد والجو الروحي المصاحب ، تستمد وتمد ذلك الإيقاع التعبيري وتمتزج به ، وتتناسق معه ، وتتراءى فيه ، في توافق منغم عجيب .

ثم يعم ذلك العبق جو السورة كله ، ويترك آثاره في مقاطعها التالية ، حتى تختم بإيقاع موح شديد الإيحاء مؤثر عميق التأثير . ترتعش له كل ذرة في الكيان البشري وترف معه وتستجيب .

وموضوع السورة الذي تعالجه هو موضوع السور المكية على الإطلاق : العقيدة بموضوعاتها الرئيسية : الوحي والوحدانية والآخرة . والسورة تتناول الموضوع من زاوية معينة تتجه إلى بيان صدق الوحي بهذه العقيدة ووثاقته ، ووهن عقيدة الشرك وتهافت أساسها الوهمي الموهون !

والمقطع الأول في السورة يستهدف بيان حقيقة الوحي وطبيعته ، ويصف مشهدين من مشاهده ، ويثبت صحته وواقعيته في ظل هذين المشهدين ؛ ويؤكد تلقي الرسول [ صلى الله عليه وسلم ] عن جبريل - عليه السلام - تلقي رؤية وتمكن ودقة ، واطلاعه على آيات ربه الكبرى .

ويتحدث المقطع الثاني عن آلهتهم المدعاة : اللات والعزى ومناة . وأوهامهم عن الملائكة . وأساطيرهم حول بنوتها لله . واعتمادهم في هذا كله على الظن الذي لا يغني من الحق شيئا . بينما الرسول [ صلى الله عليه وسلم ] يدعوهم إلى ما دعاهم إليه عن تثبت ورؤية ويقين .

والمقطع الثالث يلقن الرسول [ صلى الله عليه وسلم ] الإعراض عمن يتولى عن ذكر الله ويشغل نفسه بالدنيا وحدها ، ويقف عند هذا الحد لا يعلم وراءه شيئا . ويشير إلى الآخرة وما فيها من جزاء يقوم على عمل الخلق ، وعلى علم الله بهم ، منذ أنشأهم من الأرض ، ومنذ كانوا أجنة في بطون أمهاتهم . فهو أعلم بهم من أنفسهم ، وعلى أساس هذا العلم المستيقن - لا الظن والوهم - يكون حسابهم وجزاؤهم ، ويصير أمرهم في نهاية المطاف .

والمقطع الرابع والأخير يستعرض أصول العقيدة - كما هي منذ أقدم الرسالات - من فردية التبعة ، ودقة الحساب ، وعدالة الجزاء . ومن انتهاء الخلق إلى ربهم المتصرف في أمرهم كله تصرف المشيئة المطلقة . ومع هذا لفتة إلى مصارع الغابرين المكذبين . تختم بالإيقاع الأخير : ( هذا نذير من النذر الأولى . أزفت الآزفة . ليس لها من دون الله كاشفة . أفمن هذا الحديث تعجبون وتضحكون ، ولا تبكون ، وأنتم سامدون ? فاسجدوا لله واعبدوا ) . . حيث يلتقي المطلع والختام في الإيحاء والصور والظلال والإيقاع العام .

( والنجم إذا هوى . ما ضل صاحبكم وما غوى . وما ينطق عن الهوى . إن هو إلا وحي يوحى . علمه شديد القوى . ذو مرة فاستوى . وهو بالأفق الأعلى . ثم دنا فتدلى . فكان قاب قوسين أو أدنى . فأوحى إلى عبده ما أوحى . ما كذب الفؤاد ما رأى . أفتمارونه على ما يرى ? ولقد رآه نزلة أخرى . عند سدرة المنتهى . عندها جنة المأوى . إذ يغشى السدرة ما يغشى . ما زاغ البصر وما طغى . لقد رأى من آيات ربه الكبرى ) . .

في هذا المطلع نعيش لحظات في ذلك الأفق الوضيء الطليق المرفرف الذي عاش فيه قلب محمد - صلوات الله وسلامه عليه - ونرف بأجنحة النور المنطلقة إلى ذلك الملأ الأعلى ؛ ونستمع إلى الإيقاع الرخي المنساب ، في جرس العبارة وفي ظلالها وإيحائها على السواء .

نعيش لحظات مع قلب محمد [ صلى الله عليه وسلم ] مكشوفة عنه الحجب ، مزاحة عنه الأستار . يتلقى من الملأ الأعلى . يسمع ويرى ، ويحفظ ما وعى . وهي لحظات خص بها ذلك القلب المصفى ؛ ولكن الله يمن على عباده ، فيصف لهم هذه اللحظات وصفا موحيا مؤثرا . ينقل أصداءها وظلالها وإيحاءها إلى قلوبهم . يصف لهم رحلة هذا القلب المصفى ، في رحاب الملأ الأعلى . يصفها لهم خطوة خطوة ، ومشهدا مشهدا ، وحالة حالة ، حتى لكأنهم كانوا شاهديها .

ويبدأ الوصف الموحي بقسم من الله سبحانه : ( والنجم إذا هوى ) . . وحركة تلألؤ النجم ثم هويه ودنوه . أشبه بمشهد جبريل المقسم عليه : ( وهو بالأفق الأعلى . ثم دنا فتدلى . فكان قاب قوسين أو أدنى . فأوحى إلى عبده ما أوحى ) . . وهكذا يبدأ التناسق والتوافق في المشهد والحركة والظل والإيقاع منذ اللحظة الأولى .

( والنجم إذا هوى ) . . وقد رويت تفسيرات مختلفة للنجم المقصود في هذا القسم . وأقرب ما يرد على الذهن أنها إشارة إلى الشعرى ، التي كان بعضهم يعبدها . والتي ورد ذكرها في السورة فيما بعد في قوله : ( وأنه هو رب الشعرى ) . . وقد كان للشعرى من اهتمام الأقدمين حظ كبير . ومما هو معروف أن قدماء المصريين كانوا يوقتون فيضان النيل بعبور الشعرى بالفلك الأعلى . ويرصدونها من أجل هذا ويرقبون حركاتها . ولها شأن في أساطير الفرس وأساطير العرب على السواء . فالأقرب أن تكون هذه الإشارة هنا إليها . ويكون اختيار مشهد هوي النجم مقصودا للتناسق الذي أشرنا إليه . ولمعنى آخر هو الإيحاء بأن النجم مهما يكن عظيما هائلا فإنه يهوي ويتغير مقامه . فلا يليق أن يكون معبودا . فللمعبود الثبات والارتفاع والدوام .

 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{وَٱلنَّجۡمِ إِذَا هَوَىٰ} (1)

مقدمة السورة:

سورة النجم مكية وآيها إحدى أو اثنتان وستون آية .

بسم الله الرحمن الرحيم { والنجم إذا هوى } أقسم بجنس النجوم أو الثريا فإنه غلب فيها إذا غرب أو انتثر يوم القيامة أو انقض أو طلع فإنه يقال : هوى هويا بالفتح إذا سقط وغرب ، وهويا بالضم إذا علا وصعد ، أو بالنجم من نجوم القرآن إذا نزل أو النبات إذا سقط على الأرض ، أو إذا نما ارتفع على قوله : { ما ضل صاحبكم } .

 
صفوة البيان لحسين مخلوف - حسنين مخلوف [إخفاء]  
{وَٱلنَّجۡمِ إِذَا هَوَىٰ} (1)

مقدمة السورة:

مكية ، وآياتها ثنتان وستون

بسم الله الرحمان الرحيم

نزلت حين قال المشركون : إن محمدا [ صلى الله عليه وسلم ] يختلق القرآن .

{ والنجم إذا هوى } أقسم الله تعالى بالنجم وقت غروبه على أن محمدا صلى الله عليه وسلم منزه عن شائبة الضلال والغواية . والنجم : اسم جنس لكل كوكب ؛ فالمقسم به جنس النجم المعروف إذا هوى ، أي سقط وغرب . يقال : هوى يهوي هويا وهويا ، سقط من فوق إلى أسفل . وقيل : المصدر بالضم إذا سقط ، وبالفتح إذا صعد ، وقيل بالعكس . وتقييد المقسم به بوقت هويه لأنه إذا كان في وسط السماء يكون بعيدا عن الأرض فلا يهتدي به الساري ؛ لأنه لا يعلم به المشرق من المغرب ، ولا الجنوب من الشمال . فإذا هبط من وسط السماء تبين بهبوطه جانب المغرب من المشرق ، والجنوب من الشمال .

 
روح المعاني في تفسير القرآن والسبع المثاني للآلوسي - الآلوسي [إخفاء]  
{وَٱلنَّجۡمِ إِذَا هَوَىٰ} (1)

مقدمة السورة:

سورة النجم

وتسمى أيضا سورة النجم بدون واو وهي مكية على الإطلاق وفي الإتقان استثنى منها { الذين يجتنبون } إلى اتقى وقيل : { أفرأيت الذي تولى } الآيات التسع ومن الغريب حكاية الطبرسي عن الحسن أنه مدنية ولا أرى صحة ذلك عنه أصلا وآيها اثنتان وستون آية في الكوفي وإحدى وستون في غيره وهي كما أخرج ابن مردويه عن ابن مسعود أول سورة أعلن النبي صلى الله وسلم بقراءتها فقرأها في الحرم والمشركون يسمعون وأخرج البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي عنه قال : أول سورة أنزلت فيها سجدة { والنجم } فسجد رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وسجد الناس كلهم إلا رجلا رأيته أخذ كفا من تراب فسجد عليه فرأيته بعد ذلك قتل كافرا وهو أمية بن خلف وفي البحر أنه عليه الصلاة والسلام سجد وسجد معه المؤمنون والمشركون والجن والإنس غير أبي لهب فإنه رفع حفنة من تراب وقال : يكفي هذا فيحتمل أنه وأمية فعلا كذلك وهي شديدة المناسبة لما قبلها فإن الطور ختمت بقوله تعالى : { إدبار النجوم } وافتتحت هذه بقوله سبحانه : { والنجم } وأيضا في مفتتحها ما يؤكد رد الكفرة فيما نسبوه إليه صلى الله عليه وسلم من التقول والشعر والكهانة والجنون وذكر أبو حيان أن سبب نزولها قول المشركين : إن محمدا عليه الصلاة والسلام يختلق القرآن وذكر الجلال السيوطي في وجه مناسبتها أن الطور فيها ذكر ذرية المؤمنين وأنهم تبع لآبائهم وهذه فيها ذكر ذرية اليهود في قوله تعالى : { هو أعلم بكم إذ أنشأكم من الأرض وإذ أنتم أجنة في بطون أمهاتكم } الآية فقد أخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم والطبري وأبو نعيم في المعرفة والواحدي عن ثابت بن الحرث الأنصاري قال : كانت اليهود إذا هلك لهم صبي صغير قالوا هو صديق فبلغ ذلك النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فقال : كذبت ما من نسمة يخلقها الله في بطن أمها إلا أنه شقي أو سعيد فأنزل الله تعالى عند ذلك { وهو أعلم بكم } الآية كلها وأنه تعالى لما قال هناك في المؤمنين : { ألحقنا بهم ذريتهم } الخ قائلا سبحانه هنا في الكفار أو في الكبار : { وأن ليس للإنسان إلا ما سعى } خلاف ماد خل في المؤمنين الصغار ثم قال : وهذا وجه بديع في المناسبة من وادى التضاد وفي صحة كون قوله تعالى : { هو أعلم بكم } الآية نزل لما ذكر نظر عندي وكون قوله تعالى : { ألحقنا بهم ذريتهم } في الصغار لم يتفق عليه المفسرون كما سمعت غير بعيد نعم من تأمل ظهر له وجوه من المناسبات غير ما ذكر فتأمل .

بسْم الله الرحمن الرحيم { والنجم إِذَا هوى } أقسم سبحانه بجنس النجم المعروف على ما روى عن الحسن ومعمر بن المثنى ، ومنه قوله

: فباتت تعد النجم في مستحيرة *** سريع بأيدي الآكلين جمودها

ومعنى { هوى } غرب ، وقيل : طلع يقال هوى يهوى كرمى يرمي هوياً بالفتح في السقوط والغروب لمشابهته له ؛ وهوياً بالضم للعلو ، والطلوع ، وقيل : الهوى بالفتح للإصعار والهوى بالضم للانحدار ؛ وقيل : الهوى بالفتح والضم السقوط ويقال أهوى بمعنى هوى ، وفرق بعض اللغويين بينهما بأن هوى إذا انقض لغير صيد ، وأهوى إذا انقض له ، وقال الحسن . وأبو حمزة الثمالي : أقسم سبحانه بالنجوم إذا انتثرت في القيامة ، وعن ابن عباس في رواية أقسم عز وجل بالنجوم إذا انقضت في إثر الشياطين ، وقيل : المراد بالنجم معين فقال مجاهد . وسفيان : هو الثريا فإن النجم صار علماً بالغلبة لها ، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم : «إذا طلع النجم صباحاً ارتفعت العاهة » وقول العرب : طلع النجم عشاءاً فابتغى الراعي كساء ، طلع النجم غدية فابتغي الراعي كسية وفسر هويها بسقوطها مع الفجر ، وقيل : هو الشعري المرادة بقوله تعالى : { وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشعرى } [ النجم : 49 ] والكهان يتكلمون على المغيبات عند طلوعها ، وقيل : الزهرة وكانت تعبد ، وقال ابن عباس . ومجاهد . والفراء . ومنذر بن سعيد : { الطارق النجم } المقدار النازل من القرآن على النبي صلى الله عليه وسلم ، { وَإِذَا هوى } بمعنى إذا نزل عليه مع ملك الوحي جبريل عليه والسلام ، وقال جعفر الصادق رضي الله تعالى عنه : هو النبي صلى الله عليه وسلم وهويه نزوله من السماء ليلة المعراج ، وجوز على هذا أن يراد بهويه صعوده وعروجه عليه الصلاة والسلام إلى منقطع الأين ، وقيل : هو الصحابة رضي الله تعالى عنهم ، وقيل : العلماء على إرادة الجنس ، والمراد بهويهم قيل : عروجهم في معارج التوفيق إلى حضائر التحقيق ، وقيل : غوصهم في بحار الأفكار لاستخراج درر الأسرار ، وأظهر الأقوال القول بأن المراد بالنجم جنس النجم المعروف فإن أصله اسم جنس لكل كوكب ، وعلى القول بالتعيين فالأظهر القول بأنه الثريا ، ووراء هذين القولين القول بأن المراد به المقدار النازل من القرآن ، وفي الإقسام بذلك على نزاهته عليه الصلاة والسلام عن شائبة الضلال والغواية من البراعة البديعة وحسن الموقع ما لا غاية وراءه ، أما على الأولين فلأن النجم شأنه أن يهتدي به الساري إلى مسالك الدنيا كأنه قيل : { والنجم } الذي تهتدي به السابلة إلى سواء السبيل .

 
أيسر التفاسير لكلام العلي الكبير للجزائري - أبوبكر الجزائري [إخفاء]  
{وَٱلنَّجۡمِ إِذَا هَوَىٰ} (1)

شرح الكلمات :

{ والنجم إذا هوى } : أي والثريا إذا غابت بعد طلوعها .

/د1

/ذ18