مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{وَٱلَّذِي قَالَ لِوَٰلِدَيۡهِ أُفّٖ لَّكُمَآ أَتَعِدَانِنِيٓ أَنۡ أُخۡرَجَ وَقَدۡ خَلَتِ ٱلۡقُرُونُ مِن قَبۡلِي وَهُمَا يَسۡتَغِيثَانِ ٱللَّهَ وَيۡلَكَ ءَامِنۡ إِنَّ وَعۡدَ ٱللَّهِ حَقّٞ فَيَقُولُ مَا هَٰذَآ إِلَّآ أَسَٰطِيرُ ٱلۡأَوَّلِينَ} (17)

قوله تعالى : { والذي قال لوالديه أف لكما أتعدانني أن أخرج وقد خلت القرون من قبلي وهما يستغيثان الله ويلك آمن إن وعد الله حق فيقول ما هذا إلا أساطير الأولين * أولئك الذين حق عليهم القول في أمم قد خلت من قبلهم من الجن والإنس إنهم كانوا خاسرين * ولكل درجات مما عملوا وليوفيهم أعمالهم وهم لا يظلمون * ويوم يعرض الذين كفروا على النار أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا واستمتعتم بها فاليوم تجزون عذاب الهون بما كنتم تستكبرون في الأرض بغير الحق وبما كنتم تفسقون } .

اعلم أنه تعالى لما وصف الولد البار بوالديه في الآية المتقدمة ، وصف الولد العاق لوالديه في هذه الآية ، فقال : { والذي قال لوالديه أف لكما } وفي هذه الآية قولان : ( الأول ) أنها نزلت في عبد الرحمن بن أبي بكر ، قالوا كان أبواه يدعوانه إلى الإسلام فيأبى ، وهو { أف لكما } واحتج القائلون بهذا القول على صحته ، بأنه لما كتب معاوية إلى مروان يبايع الناس ليزيد ، قال عبد الرحمن بن أبي بكر : لقد جئتم بها هرقلية ، أتبايعون لأبنائكم ؟ فقال مروان : يا أيها الناس هو الذي قال الله فيه { والذي قال لوالديه أف لكما } . ( والقول الثاني ) أنه ليس المراد من شخص معين ، بل المراد منه كل من كان موصوفا بهذه الصفة ، وهو كل من دعاه أبواه إلى الدين الحق فأباه وأنكره ، وهذا القول هو الصحيح عندنا .

ويدل عليه وجوه : ( الأول ) أنه تعالى وصف هذا الذي قال لوالديه أف لكما أتعدانني بقوله { أولئك الذين حق عليهم القول في أمم قد خلت من قبلهم من الجن والإنس إنهم كانوا خاسرين } ولا شك أن عبد الرحمن آمن وحسن إسلامه ، وكان من سادات المسلمين ، فبطل حمل الآية عليه ، فإن قالوا : روي أنه لما دعاه أبواه إلى الإسلام وأخبراه بالبعث بعد الموت ، قال : { أتعدانني أن أخرج } من القبر ، يعني أبعث بعد الموت { وقد خلت القرون من قبلي } يعني الأمم الخالية ، فلم أر أحدا منهم بعث فأين عبد الله بن جدعان ، وأين فلان وفلان ؟ إذا عرفت هذا فنقول قوله { أولئك الذين حق عليهم القول } المراد هؤلاء الذين ذكرهم عبد الرحمن من المشركين الذين ماتوا قبله ، وهم الذين حق عليهم القول ، وبالجملة فهو عائد إلى المشار إليهم بقوله { وقد خلت القرون من قبلي } لا إلى المشار إليه بقوله { والذي قال لوالديه أف لكما } هذا ما ذكره الكلبي في دفع ذلك الدليل ، وهو حسن ( والوجه الثاني ) في إبطال ذلك القول ، ما روي أن مروان لما خاطب عبد الرحمن بن أبي بكر بذلك الكلام سمعت عائشة ذلك فغضبت وقالت : والله ما هو به ، ولكن الله لعن أباك وأنت في صلبه ( الوجه الثالث ) وهو الأقوى ، أن يقال إنه تعالى وصف الولد البار بأبويه في الآية المتقدمة ، ووصف الولد العاق لأبويه في هذه الآية ، وذكر من صفات ذلك الولد أنه بلغ في العقوق إلى حيث لما دعاه أبواه إلى الدين الحق ، وهو الإقرار بالبعث والقيامة أصر على الإنكار وأبى واستكبر ، وعول في ذلك الإنكار على شبهات خسيسة وكلمات واهية ، وإذا كان كذلك كان المراد كل ولد اتصف بالصفات المذكورة ولا حاجة البتة إلى تخصيص اللفظ المطلق بشخص معين ، قال صاحب «الكشاف » : قرئ { أف } بالفتح والكسر بغير تنوين ، وبالحركات الثلاث مع التنوين ، وهو صوت إذا صوت به الإنسان علم أنه متضجر ، كما إذا قال حس ، علم أنه متوجع ، واللام للبيان معناه هذا التأفيف لكما خاصة ، ولأجلكما دون غيركما ، وقرئ { أتعدانني } بنونين ، وأتعداني بأحدهما وأتعداني بالإدغام ، وقرأ بعضهم : أتعدانني بفتح النون كأنه استثقل اجتماع النونين والكسرين والياء ، ففتح الأولى تحريا للتخفيف كما تحراه من أدغم ومن طرح أحدهما .

ثم قال : { أن أخرج } أي أن أبعث وأخرج من الأرض ، وقرئ { أخرج وقد خلت القرون من قبلي } يعني ولم يبعث منهم أحد .

ثم قال : { وهما يستغيثان الله } أي الوالدان يستغيثان الله ، فإن قالوا : كان الواجب أن يقال يستغيثان بالله ؟ قلنا الجواب : من وجهين ( الأول ) أن المعنى أنهما يستغيثان الله من كفره وإنكاره ، فلما حذف الجار وصل الفعل ، ( الثاني ) يجوز أن يقال الباء حذف ، لأنه أريد بالاستغاثة هاهنا الدعاء على ما قاله المفسرون { يدعون الله } فلما أريد بالاستغاثة الدعاء حذف الجار ، لأن الدعاء لا يقتضيه ، وقوله { ويلك } أي يقولان له ويلك { آمن } وصدق بالبعث وهو دعاء عليه بالثبور ، والمراد به الحث ، والتحريض على الإيمان لا حقيقة الهلاك .

ثم قال : { إن وعد الله } بالبعث { حق فيقول } لهما { ما هذا } الذي تقولان من أمر البعث وتدعوانني إليه { إلا أساطير الأولين } .