قوله تعالى : { والذي قال لوالديه أف لكما أتعدانني أن أخرج وقد خلت القرون من قبلي وهما يستغيثان الله ويلك آمن إن وعد الله حق فيقول ما هذا إلا أساطير الأولين * أولئك الذين حق عليهم القول في أمم قد خلت من قبلهم من الجن والإنس إنهم كانوا خاسرين * ولكل درجات مما عملوا وليوفيهم أعمالهم وهم لا يظلمون * ويوم يعرض الذين كفروا على النار أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا واستمتعتم بها فاليوم تجزون عذاب الهون بما كنتم تستكبرون في الأرض بغير الحق وبما كنتم تفسقون } .
اعلم أنه تعالى لما وصف الولد البار بوالديه في الآية المتقدمة ، وصف الولد العاق لوالديه في هذه الآية ، فقال : { والذي قال لوالديه أف لكما } وفي هذه الآية قولان : ( الأول ) أنها نزلت في عبد الرحمن بن أبي بكر ، قالوا كان أبواه يدعوانه إلى الإسلام فيأبى ، وهو { أف لكما } واحتج القائلون بهذا القول على صحته ، بأنه لما كتب معاوية إلى مروان يبايع الناس ليزيد ، قال عبد الرحمن بن أبي بكر : لقد جئتم بها هرقلية ، أتبايعون لأبنائكم ؟ فقال مروان : يا أيها الناس هو الذي قال الله فيه { والذي قال لوالديه أف لكما } . ( والقول الثاني ) أنه ليس المراد من شخص معين ، بل المراد منه كل من كان موصوفا بهذه الصفة ، وهو كل من دعاه أبواه إلى الدين الحق فأباه وأنكره ، وهذا القول هو الصحيح عندنا .
ويدل عليه وجوه : ( الأول ) أنه تعالى وصف هذا الذي قال لوالديه أف لكما أتعدانني بقوله { أولئك الذين حق عليهم القول في أمم قد خلت من قبلهم من الجن والإنس إنهم كانوا خاسرين } ولا شك أن عبد الرحمن آمن وحسن إسلامه ، وكان من سادات المسلمين ، فبطل حمل الآية عليه ، فإن قالوا : روي أنه لما دعاه أبواه إلى الإسلام وأخبراه بالبعث بعد الموت ، قال : { أتعدانني أن أخرج } من القبر ، يعني أبعث بعد الموت { وقد خلت القرون من قبلي } يعني الأمم الخالية ، فلم أر أحدا منهم بعث فأين عبد الله بن جدعان ، وأين فلان وفلان ؟ إذا عرفت هذا فنقول قوله { أولئك الذين حق عليهم القول } المراد هؤلاء الذين ذكرهم عبد الرحمن من المشركين الذين ماتوا قبله ، وهم الذين حق عليهم القول ، وبالجملة فهو عائد إلى المشار إليهم بقوله { وقد خلت القرون من قبلي } لا إلى المشار إليه بقوله { والذي قال لوالديه أف لكما } هذا ما ذكره الكلبي في دفع ذلك الدليل ، وهو حسن ( والوجه الثاني ) في إبطال ذلك القول ، ما روي أن مروان لما خاطب عبد الرحمن بن أبي بكر بذلك الكلام سمعت عائشة ذلك فغضبت وقالت : والله ما هو به ، ولكن الله لعن أباك وأنت في صلبه ( الوجه الثالث ) وهو الأقوى ، أن يقال إنه تعالى وصف الولد البار بأبويه في الآية المتقدمة ، ووصف الولد العاق لأبويه في هذه الآية ، وذكر من صفات ذلك الولد أنه بلغ في العقوق إلى حيث لما دعاه أبواه إلى الدين الحق ، وهو الإقرار بالبعث والقيامة أصر على الإنكار وأبى واستكبر ، وعول في ذلك الإنكار على شبهات خسيسة وكلمات واهية ، وإذا كان كذلك كان المراد كل ولد اتصف بالصفات المذكورة ولا حاجة البتة إلى تخصيص اللفظ المطلق بشخص معين ، قال صاحب «الكشاف » : قرئ { أف } بالفتح والكسر بغير تنوين ، وبالحركات الثلاث مع التنوين ، وهو صوت إذا صوت به الإنسان علم أنه متضجر ، كما إذا قال حس ، علم أنه متوجع ، واللام للبيان معناه هذا التأفيف لكما خاصة ، ولأجلكما دون غيركما ، وقرئ { أتعدانني } بنونين ، وأتعداني بأحدهما وأتعداني بالإدغام ، وقرأ بعضهم : أتعدانني بفتح النون كأنه استثقل اجتماع النونين والكسرين والياء ، ففتح الأولى تحريا للتخفيف كما تحراه من أدغم ومن طرح أحدهما .
ثم قال : { أن أخرج } أي أن أبعث وأخرج من الأرض ، وقرئ { أخرج وقد خلت القرون من قبلي } يعني ولم يبعث منهم أحد .
ثم قال : { وهما يستغيثان الله } أي الوالدان يستغيثان الله ، فإن قالوا : كان الواجب أن يقال يستغيثان بالله ؟ قلنا الجواب : من وجهين ( الأول ) أن المعنى أنهما يستغيثان الله من كفره وإنكاره ، فلما حذف الجار وصل الفعل ، ( الثاني ) يجوز أن يقال الباء حذف ، لأنه أريد بالاستغاثة هاهنا الدعاء على ما قاله المفسرون { يدعون الله } فلما أريد بالاستغاثة الدعاء حذف الجار ، لأن الدعاء لا يقتضيه ، وقوله { ويلك } أي يقولان له ويلك { آمن } وصدق بالبعث وهو دعاء عليه بالثبور ، والمراد به الحث ، والتحريض على الإيمان لا حقيقة الهلاك .
ثم قال : { إن وعد الله } بالبعث { حق فيقول } لهما { ما هذا } الذي تقولان من أمر البعث وتدعوانني إليه { إلا أساطير الأولين } .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.