المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية  
{وَٱلَّذِي قَالَ لِوَٰلِدَيۡهِ أُفّٖ لَّكُمَآ أَتَعِدَانِنِيٓ أَنۡ أُخۡرَجَ وَقَدۡ خَلَتِ ٱلۡقُرُونُ مِن قَبۡلِي وَهُمَا يَسۡتَغِيثَانِ ٱللَّهَ وَيۡلَكَ ءَامِنۡ إِنَّ وَعۡدَ ٱللَّهِ حَقّٞ فَيَقُولُ مَا هَٰذَآ إِلَّآ أَسَٰطِيرُ ٱلۡأَوَّلِينَ} (17)

وقوله تعالى : { والذي قال لوالديه أف لكما } الآية ، { الذي } يعنى به الجنس على حد العموم الذي في الآية التي قبلها في قوله : { ووصينا الإنسان } [ الأحقاف : 15 ] وهذا قول الحسن وجماعة ، ويشبه أن لها سبباً من رجل قال ذلك لأبويه . فلما فرغ من ذكر الموفق عقب بذكر هذا العاق . وقال ابن عباس في كتاب الطبري : هذه الآية نزلت في ابن لأبي بكر ولم يسمِّه .

وقال مروان بن الحكم : نزلت في عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق رضي الله عنه ، وقاله قتادة ، وذلك أنه كان أكبر ولد أبي بكر وشهد بدراً وأحداً مع الكفار ، وقال لأبيه في الحرب :

لم يبق إلا شكة ويعبوب . . . وصارم يقتل ضلال الشيب{[2]}

ودعاه إلى المبارزة فكان بمكة على نحو هذه الخلق ، فقيل إن هذه الآية نزلت فيه .

وروي أن مروان بن الحكم خطب وهو أمير المدينة فدعا الناس إلى بيعة يزيد ، فقال عبد الرحمن بن أبي بكر : جعلتموها هرقلية ، كلما مات هرقل ولي هرقل ، وكلما مات قيصر ولي قيصر ، فقال مروان بن الحكم : خذوه ، فدخل عبد الرحمن بيت عائشة أخته أم المؤمنين ، فقال مروان : إن هذا هو الذي قال الله فيه : { والذي قال لوالديه أف لكما } فسمعته عائشة ، فأنكرت ذلك عليه ، وسبت مروان ، وقالت له : والله ما نزل في آل أبي بكر من القرآن غير براءتي ، وإني لأعرف فيمن نزلت هذه الآية{[10315]} .

وذكر ابن عبد البر أن الذي خطب هو معاوية ، وذلك وهم ، والأصوب أن تكون عامة في أهل هذه الصفات ولم يقصد بها عبد الرحمن ولا غيره من المؤمنين والدليل القاطع على ذلك قوله : { أولئك الذين حق عليهم القول في أمم } وكان عبد الرحمن رحمه الله من أفضل الصحابة ومن الأبطال ، وممن له في الإسلام غناء يوم اليمامة وغيره .

وقرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم وطلحة بن مصرف : «أفِّ » بكسر الفاء بغير تنوين ، وذلك فيها علامة تعريف . وقرأ ابن كثير وابن عامر وابن محيصن وشبل وعمرو بن عبيد : «أفَّ »{[10315]} بالفتح ، وهي لغة الكسر والفتح .

وقرأ نافع وحفص عن عاصم وأبو جعفر وشيبة والحسن والأعرج : «أفٍّ » بالكسر والتنوين ، وذلك علامة تنكير ، وهي كصه وغاق ، وكما تستطعم رجلاً حديثاً غير معين فتقول «إيه » منونة ، فإن كان حديثاً مشاراً إليه قلت «إيهِ » بغير تنوين . و { أف } : أصلها في الأقذار ، كانت العرب إذا رأت قذراً قالت : «أف » ثم صيره الاستعمال يقال في كل ما يكره من الأفعال والأقوال .

وقرأ هشام عن ابن عامر وعاصم{[2]} وأبو عمرو : «أتعداني » ، وقرأ أبو عمرو ونافع وشيبة والأعرج والحسن وأبو جعفر وقتادة وجمهور القراء «أتعدانني » بنونين ، والقراءة الأولى هي بإدغام النون في النون . وقرأ نافع أيضاً وجماعة : «أتعدانيَ » بنون واحدة وإظهار الياء .

وقرأ نافع وأبو عمرو وعاصم وأبو جعفر والأعرج وشيبة وقتادة وأبو رجاء وابن وثاب وجمهور الناس «أن أُخرَج » بضم الهمزة وفتح الراء . وقرأ الحسن وابن يعمر والأعمش وابن مصرف والضحاك . «أَن أَخرُج » بفتح الهمزة وضم الراء . والمعنى أن أخرج من القبر للحشر والمعاد ، وهذا القول منه استفهام بمعنى الهزء والاستبعاد .

وقوله : { وقد خلت القرون من قبلي } معناه : هلكت ومضت ولم يخرج منهم أحد . وقوله : { وهما } يعني الوالدين ، ويقال استغثت الله واسغثت بالله بمعنى واحد . و : { ويلك } دعاء يقال هنا لمن يحفز ويحرك لأمر ما يستعجل إليه .

وقرأ الأعرج «أن وعد الله » بفتح الهمزة ، والناس على كسرها .

وقوله : { ما هذا إلا أساطير } أي ما هذا القول الذي يتضمن البعث من القبور إلا شيء قد سطره الأولون في كتبهم ، يعني الشرائع ، وظاهر ألفاظ هذه الآية أنها نزلت في مشار إليه قال وقيل له ، فنعى الله أقواله تحذيراً من الوقوع في مثلها .


[2]:- ولم يكن الله ليمتن على رسوله بإيتائه فاتحة الكتاب وهو بمكة، ثم ينزلها بالمدينة، ولا يسعنا القول بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقام بمكة بضع عشرة سنة يصلي بلا فاتحة الكتاب، هذا ما لا تقبله العقول، قاله الواحدي. وقوله تعالى: (ولقد آتيناك...) هو من الآية رقم (87) من سورة الحجر.
[10315]:أخرجه عبد بن حميد، والنسائي، وابن المنذر، والحاكم وصححه، وابن مردويه، عن محمد بن زياد، وأخرجه البخاري عن يوسف بن ماهك، وفيه أن مروان لما قال خذوه دخل عبد الرحمن بن أبي بكر بيت عائشة رضي الله عنها فلم يقدر عليه، وأخرج هذا الخبر أيضا ابن أبي حاتم، وابن مردويه، عن عبد الله.(الدر المنثور).