فتح البيان في مقاصد القرآن للقنوجي - صديق حسن خان  
{وَٱلَّذِي قَالَ لِوَٰلِدَيۡهِ أُفّٖ لَّكُمَآ أَتَعِدَانِنِيٓ أَنۡ أُخۡرَجَ وَقَدۡ خَلَتِ ٱلۡقُرُونُ مِن قَبۡلِي وَهُمَا يَسۡتَغِيثَانِ ٱللَّهَ وَيۡلَكَ ءَامِنۡ إِنَّ وَعۡدَ ٱللَّهِ حَقّٞ فَيَقُولُ مَا هَٰذَآ إِلَّآ أَسَٰطِيرُ ٱلۡأَوَّلِينَ} (17)

ولما ذكر سبحانه من شكر نعمة الله عليه وعلى والديه ، ذكر من قال لهما قولا يدل على التضجر منهما ، عند دعوتهما له إلى الإيمان فقال :

{ والذي قال لوالديه أف لكما } الموصول عبارة عن الجنس القائل ذلك القول ، ولهذا أخبر عنه بالجمع ، وأف كلمة تصدر عن قائلها عند تضجره من شيء يرد عليه ، قرئ أف بكسر الفاء مع التنوين ، وقرئ بفتحها من غير تنوين وقرئ بكسرها من غير تنوين فالقراءات ثلاثة سبعية والهمزة في الكل مضمومة وقد مضى بيان الكلام على هذا في سورة بني إسرائيل واللام في لكما لبيان المؤفف له كما في قوله : { هيت لك }

وقد أخرج البخاري عن يوسف بن ماهك قال : كان مروان على الحجاز استعمله معاوية بن أبي سفيان فخطب فجعل يذكر يزيد ابن معاوية عليه ما عليه لكي يبايع له بعد أبيه ، فقال عبد الرحمن بن أبي بكر شيئا ، فقال : خذوه فدخل بيت عائشة فلم يقدروا عليه . فقال مروان إن هذا أنزل فيه { والذي قال لوالديه أف لكما } ، فقالت عائشة : ما أنزل الله فينا شيئا من القرآن إلا أن الله أنزل عذري " .

وعن محمد بن زياد قال لما بايع معاوية لابنه قال مروان سنة أبي بكر وعمر رضي الله تعالى عنهما فقال عبد الرحمن سنة هرقل وقيصر ، فقال مروان هذا الذي قال الله فيه والذي قال لوالديه أف لكما الآية فبلغ ذلك عائشة كذب مروان والله ما هو به ، ولو شئت أن أسمي الذي نزلت فيه لسميته ، ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم لعن أبا مروان ومروان في صلبه ، فمروان من لعنه الله " أخرجه النسائي ، وعبد بن حميد وابن المنذر ، والحاكم وصححه .

وعن ابن عباس في الآية قال هذا ابن لأبي بكر ، ونحوه عن السدي ، ولا يصح هذا ، ويرده ما سيأتي من قوله تعالى : { أولئك الذين حق عليهم القول في أمم } ، والصحيح أنه ليس المراد من الآية شخصا معينا ، بل المراد كل شخص كان موصوفا بهذه الصفة ، وهو كل من دعاه أبواه إلى الدين الصحيح والإيمان بالبعث ، فأبى وأنكر وقيل نزلت في كل كافر عاق لوالديه .

{ أتعدانني } ؟ بنونين مخففتين وفتح ياءه أهل المدينة ومكة ، وأسكنها الباقون ، وقرئ بإدغام إحدى النونين في الأخرى . وقرئ بفتح النون الأولى فرارا من توالي مثلين مكسورين { أن أخرج } قرأ الجمهور مبنيا للمفعول ، وقرئ مبنيا للفاعل ، والمعنى أتعدانني أن أبعث بعد الموت ، وهذا هو الموعود به .

{ وقد خلت القرون من قبلي } أي والحال أن قد مضت القرون فماتوا ولم يبعث منهم أحد { وهما يستغيثان الله } له ، ويطلبان منه التوفيق إلى الإيمان واستغاث يتعدى بنفسه تارة وبالباء أخرى ، يقال استغاث الله واستغاث به .

وقال الرازي معناه يستغيثان بالله من كفره فلما حذف الجار وصل الفعل وقيل الاستغاثة الدعاء فلا حاجة إلى الباء ، وزعم ابن مالك أنه يتعدى بنفسه فقط ، وعاب قول النحاة مستغاث به ، قلت لكنه لم يرد في القرآن إلا متعديا بنفسه { إذ تستغيثون ربكم } { فاستغاثه الذي من شيعته } { وإن يستغيثوا يغاثوا } قال الفراء يقال أجاب الله دعاءه وغواثه .

{ ويلك } أي : يقولان له ويلك . وليس المراد به الدعاء عليه بل الحث له على الإيمان ولهذا قالا له { آمن } بالبعث واعترف وصدق { إن وعد الله حق } قرأ الجمهور بكسر إن على الاستئناف أو التعليل ، وقرئ بفتحها أي آمن بأن وعد الله حق لا خلف فيه ، وهو من جملة مقولهما .

{ فيقول } عند ذلك مكذبا لما قالاه { ما هذا } الذي تقولانه من البعث { إلا أساطير الأولين } أي : أحاديثهم وأباطيلهم التي يسطرونها في الكتب من غير أن تكون لها حقيقة .