مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{۞قُلۡ تَعَالَوۡاْ أَتۡلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمۡ عَلَيۡكُمۡۖ أَلَّا تُشۡرِكُواْ بِهِۦ شَيۡـٔٗاۖ وَبِٱلۡوَٰلِدَيۡنِ إِحۡسَٰنٗاۖ وَلَا تَقۡتُلُوٓاْ أَوۡلَٰدَكُم مِّنۡ إِمۡلَٰقٖ نَّحۡنُ نَرۡزُقُكُمۡ وَإِيَّاهُمۡۖ وَلَا تَقۡرَبُواْ ٱلۡفَوَٰحِشَ مَا ظَهَرَ مِنۡهَا وَمَا بَطَنَۖ وَلَا تَقۡتُلُواْ ٱلنَّفۡسَ ٱلَّتِي حَرَّمَ ٱللَّهُ إِلَّا بِٱلۡحَقِّۚ ذَٰلِكُمۡ وَصَّىٰكُم بِهِۦ لَعَلَّكُمۡ تَعۡقِلُونَ} (151)

قوله تعالى : { قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم ألا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا ولا تقتلوا أولادكم من إملاق نحن نرزقكم وإياهم ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق ذلكم وصاكم به لعلكم تعقلون }

اعلم أنه تعالى لما بين فساد ما يقول الكفار أن الله حرم علينا كذا وكذا ، أردفه تعالى ببيان الأشياء التي حرمها عليهم ، وهي الأشياء المذكورة في هذه الآية ، وفيه مسائل :

المسألة الأولى : قال صاحب «الكشاف » : «تعال » من الخاص الذي صار عاما ، وأصله أن يقوله من كان في مكان عال لمن هو أسفل منه ، ثم كثر وعم ، وما في قوله : { ما حرم ربكم عليكم } منصوب ، وفي ناصبه وجهان : الأول : أنه منصوب بقوله : { اتل } والتقدير : أتل الذي حرمه عليكم ، والثاني : أنه منصوب بحرم ، والتقدير : أتل الأشياء التي حرم عليكم .

فإن قيل : قوله : { ألا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا } كالتفصيل لما أجمله في قوله : { ما حرم ربكم عليكم } وهذا باطل ، لأن ترك الشرك والإحسان بالوالدين واجب ، لا محرم .

والجواب من وجوه : الأول : أن المراد من التحريم أن يجعل له حريما معينا ، وذلك بأن بينه بيانا مضبوطا معينا ، فقوله : { أتل ما حرم ربكم عليكم } معناه : أتل عليكم ما بينه بيانا شافيا بحيث يجعل له حريما معينا ، وعلى هذا التقرير فالسؤال زائل ، والثاني : أن الكلام تم وانقطع عند قوله { أتل ما حرم ربكم } ثم ابتدأ فقال : { عليكم أن لا تشركوا } كما يقال : عليكم السلام ، أو أن الكلام تم وانقطع عند قوله : { أتل ما حرم ربكم عليكم } ثم ابتدأ فقال : { ألا تشركوا به شيئا } بمعنى لئلا تشركوا ، والتقدير : أتل ما حرم ربكم عليكم لئلا تشركوا به شيئا . الثالث : أن تكون «أن » في قوله : { أن لا تشركوا } مفسرة بمعنى : أي ، وتقدير الآية : أتل ما حرم ربكم عليكم ، أي لا تشركوا ، أي ذلك التحريم هو قوله : { لا تشركوا به شيئا } .

فإن قيل : فقوله : { وبالوالدين إحسانا } معطوف على قوله : { أن لا تشركوا به شيئا } فوجب أن يكون قوله : { وبالوالدين إحسانا } مفسرا لقوله : { أتل ما حرم ربكم عليكم } فيلزم أن يكون الإحسان بالوالدين حراما ، وهو باطل .

قلنا : لما أوجب الإحسان إليهما ، فقد حرم الإساءة إليهما .

المسألة الثانية : أنه تعالى أوجب في هذه الآية أمور خمسة : أولها : قوله : { أن لا تشركوا به شيئا } .

واعلم أنه تعالى قد شرح فرق المشركين في هذه السورة على أحسن الوجوه ، وذلك لأن طائفة من المشركين يجعلون الأصنام شركاء لله تعالى ، وإليهم الإشارة بقوله حكاية عن إبراهيم { وإذ قال إبراهيم لأبيه آزر أتتخذ أصناما آلهة إني أراك وقومك في ضلال مبين } .

والطائفة الثانية : من المشركين عبدة الكواكب ، وهم الذين حكي الله عنهم ، أن إبراهيم عليه السلام أبطل قولهم بقوله : { لا أحب الآفلين } .

والطائفة الثالثة : الذين حكى الله تعالى عنهم : { أنهم جعلوا لله شركاء الجن } وهم القائلون بيزدان وأهرمن .

والطائفة الرابعة : الذين جعلوا لله بنين وبنات ، وأقام الدلائل على فساد أقوال هؤلاء الطوائف والفرق ، فلما بين بالدليل فساد قول هؤلاء الطوائف . قال ههنا : { ألا تشركوا به شيئا } .

النوع الثاني : من الأشياء التي أوجبها ههنا قوله : { وبالوالدين إحسانا } وإنما ثنى بهذا التكليف ، لأن أعظم أنواع النعم على الإنسان نعمة الله تعالى ، ويتلوها نعمة الوالدين ، لأن المؤثر الحقيقي في وجود الإنسان هو الله سبحانه وفي الظاهر هو الأبوان ، ثم نعمهما على الإنسان عظيمة وهي نعمة التربية والشفقة والحفظ عن الضياع والهلاك في وقت الصغر .

النوع الثالث : قوله : { ولا تقتلوا أولادكم من إملاق نحن نرزقكم وإياهم } فأوجب بعد رعاية حقوق الأبوين رعاية حقوق الأولاد وقوله : { ولا تقتلوا أولادكم من إملاق } أي من خوف الفقر وقد صرح بذكر الخوف في قوله : { ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق } والمراد منه النهي عن الوأد ، إذ كانوا يدفنون البنات أحياء ، بعضهم للغيرة ، وبعضهم خوف الفقر ، وهو السبب الغالب ، فبين تعالى فساد هذه العلة بقوله : { نحن نرزقكم وإياهم } ، لأنه تعالى إذا كان متكفلا برزق الوالد والولد ، فكما وجب على الوالدين تبقية النفس والاتكال في رزقها على الله ، فكذلك القول في حال الولد ، قال شمر : أملق ، لازم ومتعد . يقال : أملق الرجل ، فهو مملق ، إذا افتقر ، فهذا لازم ، وأملق الدهر ما عنده ، إذا أفسده ، والإملاق الفساد .

والنوع الرابع : قوله : { ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن } قال ابن عباس : كانوا يكرهون الزنا علانية ، ويفعلون ذلك سرا ، فنهاهم الله عن الزنا علانية وسرا ، والأولى أن لا يخصص هذا النهي بنوع معين ، بل يجري على عمومه في جميع الفواحش ظاهرها وباطنها لأن اللفظ عام والمعنى الموجب لهذا النهي وهو كونه فاحشة عام أيضا ومع عموم اللفظ والمعنى يكون التخصيص على خلاف الدليل ، وفي قوله : { ما ظهر منها وما بطن } دقيقة ، وهي : أن الإنسان إذا احترز عن المعصية في الظاهر ولم يحترز عنها في الباطن دل ذلك على أن احترازه عنها ليس لأجل عبودية الله وطاعته ، ولكن لأجل الخوف من مذمة الناس ، وذلك باطل ، لأن من كان مذمة الناس عنده أعظم وقعا من عقاب الله ونحوه فإنه يخشى عليه من الكفر ، ومن ترك المعصية ظاهرا وباطنا ، دل ذلك على أنه إنما تركها تعظيما لأمر الله تعالى وخوفا من عذابه ورغبة في عبوديته .

والنوع الخامس : قوله : { ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق } .

واعلم أن هذا داخل في جملة الفواحش إلا أنه تعالى أفرده بالذكر لفائدتين : إحداهما : أن الإفراد بالذكر يدل على التعظيم والتفخيم ، كقوله : { وملائكته وجبريل وميكال } والثانية : أنه تعالى أراد أن يستثني منه ، ولا يتأتى هذا الاستثناء في جملة الفواحش .

إذا عرفت هدا فنقول : قوله : { إلا بالحق } أي قتل النفس المحرمة قد يكون حقا لجرم يصدر منها . والحديث أيضا موافق له وهو قوله عليه السلام : ( لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث : كفر بعد إيمان ، وزنا بعد إحصان ، وقتل نفس بغير حق ) والقرآن دل على سبب رابع ، وهو قوله تعالى : { إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا أن يقتلوا أو يصلبوا } .

والحاصل : أن الأصل في قتل النفس هو الحرمة وحله لا يثبت إلا بدليل منفصل ثم إنه تعالى لما بين أحوال هذه الأقسام الخمسة أتبعه باللفظ الذي يقرب إلى القلب القبول ، فقال : { ذلكم وصاكم به } لما في هذه اللفظة من اللطف والرأفة ، وكل ذلك ليكون المكلف أقرب إلى القبول ، ثم أتبعه بقوله : { لعلكم تعقلون } أي لكي تعقلوا فوائد هذه التكاليف ، ومنافعها في الدين والدنيا .