البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{۞قُلۡ تَعَالَوۡاْ أَتۡلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمۡ عَلَيۡكُمۡۖ أَلَّا تُشۡرِكُواْ بِهِۦ شَيۡـٔٗاۖ وَبِٱلۡوَٰلِدَيۡنِ إِحۡسَٰنٗاۖ وَلَا تَقۡتُلُوٓاْ أَوۡلَٰدَكُم مِّنۡ إِمۡلَٰقٖ نَّحۡنُ نَرۡزُقُكُمۡ وَإِيَّاهُمۡۖ وَلَا تَقۡرَبُواْ ٱلۡفَوَٰحِشَ مَا ظَهَرَ مِنۡهَا وَمَا بَطَنَۖ وَلَا تَقۡتُلُواْ ٱلنَّفۡسَ ٱلَّتِي حَرَّمَ ٱللَّهُ إِلَّا بِٱلۡحَقِّۚ ذَٰلِكُمۡ وَصَّىٰكُم بِهِۦ لَعَلَّكُمۡ تَعۡقِلُونَ} (151)

الإملاق : الفقر قاله ابن عباس وغيره ، يقال : أملق الرجل إذا افتقر ويشبه أن يكون كأرمل أي لم يبق له شيء إلا الملق وهي الحجارة السود وهي الملقة ولم يبق له إلا الرمل والتراب .

وقال مؤرج : هو الجوع بلغة لخم .

وقال منذر بن سعيد : هو الإنفاق أملق ماله أي أنفقه .

وقال محمد بن نعيم الترمذي : هو الإسراف في الإنفاق .

{ قل تعالوا أتلُ ما حرّم ربكم عليكم } لما ذكر تعالى ما حرّموه افتراء عليه ثم ذكر ما أباحه تعالى لهم من الحبوب والفواكه والحيوان ، ذكر ما حرمه تعالى عليهم من أشياء نهاهم عنها وما أوجب عليهم من أشياء أمرهم بها وتقدم شرح { تعالوا } في قوله تعالى : { إلى كلمة } والخطاب في قل للرسول وفي تعالوا قيل للمشركين .

وقيل : لمن بحضرة الرسول من مؤمن وكتابي ومشرك وسياق الآيات يدل على أنه للمشركين ، وإن كان حكم غيرهم في ذلك حكمهم أمره تعالى أن يدعو جميع الخلق إلى سماع ما حرم الله بشرع الإسلام المبعوث به إلى الأسود والأحمر ، و { أتل } أسرد وأقص من التلاوة وهي اتباع بعض الحروف بعضاً .

وقال كعب الأحبار : هذه الآيات مفتتح التوراة بسم الله الرحمن الرحيم { قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم أن لا تشركوا به شيئاً } إلى آخر الآية .

وقال ابن عباس : هذه الآيات هي المحكمات التي ذكرها الله في سورة آل عمران أجمعت عليها شرائع الخلق ولم تنسخ قط في ملة .

وقد قيل : إنها العشر كلمات المنزلة على موسى عليه السلام و { ما } بمعنى الذي وهي مفعولة بأتل أي اقرأ الذي حرمه ربكم عليك .

وقيل : مصدرية أي تحريم ربكم .

وقيل : استفهامية منصوبة بحرّم أي أي شيء حرم ربكم ، ويكون قد علق { أتل } وهذا ضعيف لأن { أتل } ليس من أفعال القلوب فلا تعلق و { عليكم } متعلق بجرم لا بأتل فهو من أعمال الثاني .

وقال ابن الشجري : إن علقته باتل فهو جيد لأنه أسبق وهو اختيار الكوفيين فالتقدير اتل عليكم الذي حرّم ربكم .

{ أن لا تشركوا به شيئاً وبالوالدين إحساناً } الظاهر أن { أن } تفسيرية و { لا } ناهية لأن { اتل } فعل بمعنى القول وما بعد { أن } جملة فاجتمع في أن شرطا التفسيرية وهي أن يتقدمها معنى لقول وأن يكون بعدها جملة وذلك بخلاف أي فإنها حرف تفسير يكون قبلها مفرد وجملة يكون فيها معنى القول وغيرها ، وبعدها مفرد وجملة وجعلها تفسيرية هو اختيار الزمخشري فإن قلت : إذا جعلت أن مفسرة لفعل التلاوة وهو معلق بما { حرم ربكم } وجب أن يكون ما بعده منهياً عنه محرماً كله كالشرك وما بعده مما دخل عليه حرف النهي فما يصنع بالأوامر ؟ قلت : لما وردت هذه الأوامر مع النواهي وتقدّمهن جميعاً فعل التحريم واشتركن في الدخول تحت حكمه ، علم أن التحريم راجع إلى أضدادها وهي الإشارة إلى الوالدين وبخس الكيل والميزان وترك العدل في القول ونكث عهد الله ؛ انتهى .

وكون هذه الأشياء اشتركت في الدخول تحت حكم التحريم وكون التحريم راجعاً إلى أضداد الأوامر بعيد جداً وألغاز في المعاني ولا ضرورة تدعو إلى ذلك ، وأما عطف هذه الأوامر فيحتمل وجهين : أحدهما : أنها معطوفة على المناهي قبلها فيلزم انسحاب التحريم عليها حيث كانت في حيز أن التفسيرية بل هي معطوفة على قوله : { تعالوا أتل ما حرم } أمرهم أولاً بأمر يترتب عليه ذكر مناه ثم أمرهم ثانياً بأوامر وهذا معنى واضح ، والثاني : أن تكون الأوامر معطوفة على المناهي وداخلة تحت أن التفسيرية ويصح ذلك على تقدير محذوف تكون أن مفسرة له وللمنطوق قبله الذي دل عليه حذفه والتقدير وما أمركم به فحذف وما أمركم به لدلالة ما حرّم عليه ، لأن معنى { ما حرم ربكم عليكم } ما نهاكم ربكم عنه فالمعنى { قل تعالوا أتل } ما نهاكم ربكم عنه ، وإذا كان التقدير هكذا صح أن تكون أن تفسيرية لفعل النهي الدال عليه التحريم وفعل الأمر المحذوف ألا ترى أنه يجوز أن تقول : أمرتك أن لا تكرم جاهلاً وأكرم عالماً إذ يجوز عطف الأمر على النهي والنهي على الأمر كما قال امرؤ القيس :

يقولون لا تهلك أسًى وتجمل *** وهذا لا نعلم فيه خلافاً بخلاف الجمل المتباينة بالخبر والاستفهام والإنشاء فإن في جواز العطف فيها خلافاً وقد جوزوا في أن { أن } تكون مصدرية لا تفسيرية في موضع رفع وفي موضع نصب .

فأما الرفع فعلى إضمار مبتدأ دل عليه المعنى أو التقدير المتلو { أن لا تشركوا } .

وأما النصب فمن وجوه .

أحدها : أن يكون منصوباً بقوله : { عليكم } ويكون من باب الإغراء وتم الكلام عند قوله : { أتل ما حرم ربكم } أي التزموا انتفاء الإشراك وهذا بعيد لتفكيك الكلام عن ظاهره .

الثاني : أم يكون مفعولاً من أجله أي { أتل ما حرم ربكم عليكم } { أن لا تشركوا } وهذا بعيد لأن ما جاء بعده أمر معطوف بالواو ومناه هي معطوفة بالواو فلا يناسب أن يكون تبييناً لما حرم ، أما الأوامر فمن حيث المعنى وأما المناهي فمن حيث العطف .

الثالث : أن يكون مفعولاً بفعل محذوف تقديره أوصيكم أن لا تشركوا لأن قوله : { وبالوالدين إحساناً } محمول على أوصيكم { وبالوالدين إحساناً } وهذا بعيد لأن الإضمار على خلاف الأصل : وهذه الأوجه الثلاثة لا فيها باقية على أصل وضعها من النفي وهو مراد .

الرابع : أن يكون في موضع نصب على البدل من { ما حرم } أو من الضمير المحذوف من { ما حرم } إذ تقديره ما حرمه وهذان الوجهان لا فيهما زائدة كهي في قوله : { ما منعك أن تسجد إذ أمرتك } وهذا ضعيف لانحصار عموم المحرم في الإشراك إذ ما بعده من الأمر ليس داخلاً من المحرم ولا بعد الأمر مما فيه لا يمكن ادّعاء زيادة لا فيه لظهور أن لا فيها للنهي .

وقال الزمخشري : فإن قلت هلا قلت هي التي تنصب الفعل وجعلت { أن لا تشركوا } بدلاً من { ما حرم } قلت : وجب أن يكون لا تشركوا ولا تقربوا ولا تقتلوا ولا تتبعوا السبل نواهي لانعطاف الأوامر عليها وهي قوله : { وبالوالدين إحساناً } لأن التقدير وأحسنوا { وبالوالدين إحساناً } وأوفوا وإذا قلتم فاعدلوا وبعهد الله أوفوا ؛ انتهى .

ولا يتعين أن تكون جميع الأوامر معطوفة على جميع ما دخل عليه لا لأنا بينا جواز عطف { وبالوالدين إحساناً } على { تعالوا } وما بعده معطوف عليه ، ولا يكون قوله : { وبالوالدين إحساناً } معطوفاً على { أن } و { أن لا تشركوا } شامل لمن أشرك بالله الأصنام كقوم إبراهيم ومن أشرك بالله الجن ومن أشرك بنين وبنات .

وقال ابن الجوزي : قيل ادعاء شريك لله .

وقيل : طاعة غير الله في معصية الله وتقدم تفسير { وبالوالدين إحساناً } في سورة البقرة .

{ ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق نحن نرزقكم وإياهم } { من } هنا سببية أي من فقر لقوله { خشية إملاق } وقتل الولد حرام إلا بحقه وإنما ذكر هذا السبب لأنه كان العلة في قتل الولد عندهم ، وبين تعالى أنه هو الرازق لهم ولأولادهم وإذا كان هو الرازق فكما لا تقتل نفسك كذلك لا تقتل ولدك .

ولما أمر تعالى بالإحسان إلى الوالدين نهى عن الإساءة إلى الأولاد ونبه على أعظم الإساءة للأولاد هو إعدام حياتهم بالقتل خوف الفقر كما قال في الحديث وقد سئل عن أكبر الكبائر فذكر الشرك بالله وهو قوله : « أن تجعل لله ندّاً وهو خلقك » ثم قال : « وأن تقتل ولدك مخافة أن يطعم معك » وقال : « وأن تزاني حليلة جارك » وجاء هذا الحديث منتزعاً من هذه الآية وجاء التركيب هنا { نحن نرزقكم وإياهم } وفي الإسراء { نحن نرزقهم وإياكم } فيمكن أن يكون ذلك من التفنن في الكلام ويمكن أن يقال في هذه الآية جاء { من إملاق } فظاهره حصول الإملاق للوالد لا توقعه ، وخشيتة وإن كان واجداً للمال فبدأ أولاً بقوله : { نحن نرزقكم } خطاباً للآباء وتبشيراً لهم بزوال الإملاق وإحالة الرزق على الخلاق الرزاق ، ثم عطف عليهم الأولاد .

وأما في الإسراء فظاهر التركيب أنهم موسرون وإن قتلهم إياهم إنما هو لتوقع حصول الإملاق والخشية منه فبدىء فيه بقوله : { نحن نرزقهم } إخباراً بتكفله تعالى برزقهم فلستم أنتم رازقيهم وعطف عليهم الآباء وصارت الآيتان مفيدتان معنيين .

أحدهما : أن الآباء نُهوا عن قتل الأولاد مع وجود إملاقهم .

والآخر : أنهم نُهوا عن قتلهم وإن كانوا موسرين لتوقع الإملاق وخشية وحمل الآيتين على ما يفيد معنيين أولى من التأكيد .

{ ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن } المنقول فيما { ظهر وما بطن } كالمنقول في { وذروا ظاهر الإثم وباطنه } وتقدّم فأغنى عن إعادته .

{ ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق } هذا مندرج تحت عموم الفواحش إذ الأجود أن لا يخص الفواحش بنوع مّا ، وإنما جرد منها قتل النفس تعظيماً لهذه الفاحشة واستهوالاً لوقوعها ولأنه لا يتأتى الاستثناء بقوله : { إلا بالحق } إلا من القتل لا من عموم الفواحش ، وقوله : { التي حرم الله } حوالة على سبق العهد في تحريمها فلذلك وصفت بالتي ، والنفس المحرمة هي المؤمنة والذمّية والمعاهدة و { بالحق } بالسبب الموجب لقتلها كالرّدة والقصاص والزنا بعد الإحصان والمحاربة .

{ ذلكم وصاكم به لعلكم تعقلون } أشار إلى جميع ما تقدّم وفي لفظ { وصاكم } من اللطف والرأفة وجعلهم أوصياء له تعالى ما لا يخفى من الإحسان ، ولما كان العقل مناط التكليف قال تعالى : { لعلكم تعقلون } أي فوائد هذا التكاليف ومنافعها في الدين والدنيا والوصاة الأمر المؤكد المقرر .

وقال الأعشى :

أجدك لم تسمع وصاة محمد *** نبي الإله حين أوصى وأشهدا