قوله تعالى : { أَتْلُ مَا حَرَّمَ } : في " ما " هذه ثلاثة أوجه أظهرها : أنها موصولةٌ بمعنى الذي والعائد محذوف أي : الذي حَرَّمه ، والموصول في محل نصب مفعولاً به . والثاني : أن تكون مصدريةً أي : أتل تحريم ربكم ، ونفس التحريم لا يُتْلَى وإنما هو مصدرٌ واقع موقع المفعول به أي : أتلُ مُحَرَّم ربكم الذي حرَّمه هو . والثالث : أنها استفهامية في محل نصب بحرَّم بعدها ، وهي مُعَلِّقة لأتْل والتقدير : أتل أيَّ شيء حرَّم ربكم ، وهذا ضعيف لأنه لا تُعَلَّقُ إلا أفعالُ القلوب وما حُمِل عليها . وأمَّا " عليكم " ففيه وجهان أحدهما : أنه متعلق بَحَرَّم ، وهذا اختيار البصريين . والثاني : أنه متعلق بأَتْلُ وهو اختيار الكوفيين يعني أن المسألة من باب الإِعمال ، وقد عرفت أن اختيار البصريين إعمالُ الثاني ، واختيارَ الكوفيين إعمالُ الأول .
قوله : { أَلاَّ تُشْرِكُواْ } فيه أوجه أحدها : أنَّ " أَنْ " تفسيرية لأنه تَقَدَّمَها ما هو بمعنى القول لا حروفه و " لا " هي ناهية و " تشركوا " مجزومٌ بها ، وهذا وجهٌ ظاهر ، وهو اختيار الفراء قال : " ويجوزُ أن يكون مجزوماً ب " لا " على النهي كقولك : أمرتك أَنْ لا تذهب إلى زيد بالنصب والجزم . ثم قال : والجزم في هذه الآية أحبُّ إليَّ كقوله تعالى : { أَوْفُواْ الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ } [ هود : 85 ] قلت : يعني فعطفُ هذه الجملة الأمرية يُقَوِّي أنَّ ما قبلها نهي ليتناسب طرفا الكلام ، وهو اختيار الزمخشري أيضاً فإنه قال : " وأَنْ في " أن لا تشركوا " مفسرة و " لا " للنهي " ثم قال بعد كلام : " فإن قلت : إذا جعلت " أن " مفسرةً لفعل التلاوة وهو معلَّق بما حرَّم ربكم وَجَبَ أَنْ يكون ما بعده منهيَّاً عنه مُحَرَّماً كله كالشرك وما بعده مما دخل عليه حرفُ النهي فما تصنع بالأوامر ؟ قلت : لَمَّا وَرَدَت هذه الأوامرُ مع النواهي ، وتقدَّمهن جميعاً فعلُ التحريم ، واشتركن في الدخول تحت حكمه عُلم أن التحريمَ راجعٌ إلى أضدادها وهي الإِساءة إلى الوالدين ، وبَخْسُ الكيل والميزان ، وتَرْكُ العدلِ في القول ، ونكثُ العهد " .
قال الشيخ : " وكونُ هذه الأشياء اشتركت في الدخول تحت حكم التحريم ، وكونُ التحريم راجعاً إلى أضداد الأوامر بعيدٌ جداً وإلغازٌ في التعامي ولا ضرورةَ تدعو إلى ذلك " . قلت : ما استبعده ليس ببعيدٍ وأين الإِلغاز والتعمِّي من هذا الكلامِ حتى يرميَه به . ثم قال الشيخ : " وأمَّا عطف هذه الأوامر فيحتمل وجهين ، أحدهما : أنها معطوفة لا على المناهي قبلها فيلزم انسحاب التحريم عليها حيث كانت في حَيِّز " أن " التفسيرية ، بل هي معطوفة على قوله { تَعَالَوْاْ أتْلُ مَا حَرَّمَ } ، أمرهم أولاً بأمرٍ يترتب عليه ذِكْرُ مَناهٍ ، ثم أمرهم ثانياً بأوامر وهذا معنى واضح .
والثاني : أن تكون الأوامر معطوفةً على المناهي وداخلةً تحت " أن " التفسيرية ، ويصحُّ ذلك على تقدير محذوف تكون " أن " مفسرةً له وللمنطوق قبله الذي دلَّ على حَذْفِه ، والتقدير : وما أمركم به فحذف وما أمركم به لدلالة ما حَرَّم عليه ، لأن معنى ما حَرَّم ربكم : ما نهاكم ربكم عنه فالمعنى : تعالوا أتلُ ما نهاكم ربكم عنه وما أمركم به ، وإذا كان التقدير هكذا صح أن تكون " أن " تفسيرية لفعل/ النهي الدالِّ عليه التحريمُ وفعل الأمر المحذوف ، ألاى ترى أنه يجوز أن تقول : " أمرتك أن لا تكرم جاهلاً وأكرم عالماً " إذ يجوز أن يُعْطف الأمر على النهي والنهي على الأمر كما قال :
. . . . . . . . . . . . . . . . *** يقولون لا تَهْلِكْ أسىً وتجمَّلِ
وهذا لا نعلم فيه خلافاً بخلاف الجمل المتباينة بالخبر والاستفهام والإِنشاء فإنَّ في جواز العطف فيها خلافاً " انتهى .
الثاني : أن تكون " أَنْ " ناصبةً للفعل بعدها ، وهي وما في حَيِّزها في محل نصب بدلاً من " ما حرم " . الثالث : أنها الناصبة أيضاً وهي وما في حَيِّزها بدل من العائد المحذوف إذ التقدير : ما حَرَّمه ، وهو في المعنى كالذي قبله . و " لا " على هذين الوجهين زائدة لئلا يفسد المعنى كزيادتها في قوله تعالى : { أَلاَّ تَسْجُدَ } [ الأعراف : 12 ] و { لِّئَلاَّ يَعْلَمَ } [ الحديد : 29 ] . قال الشيخ : " وهذا ضعيف لانحصار عموم المُحَرَّمِ في الإِشراك ، إذ ما بعده من الأمر ليس داخلاً في المُحَرَّم ولا ما بعد الأمر مما فيه لا يمكن ادِّعاء زيادة " لا " فيه لظهور أنَّ " لا " فيه للنهي " . ولمَّا ذكر مكي كونَها بدلاً مِنْ " ما حرم " لم ينبِّه على زيادة " لا " ولا بد منه . وقد منع الزمخشري أن تكون بدلاً مِنْ " ما حرم " فقال : " فإن قلت : هلا قلت هي التي تنصب الفعل وجعلت " أن لا تشركوا " بدلاً من " ما حرم " . قلت : وجب أن يكون أن لا تشركوا ولا تقربوا ولا تقتلوا ولا تتبعوا السبل نواهي لانعطاف الأوامر عليها ، وهي قوله " بالوالدين إحساناً " ؛ لأنَّ التقدير : وأحسنوا بالوالدين إحساناً ، وأَوْفوا وإذا قلتم فاعدِلوا ، وبعهد الله أَوْفوا " . فإن قلت : فما تصنع بقوله { وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ } [ الأنعام : 153 ] فيمَنْ قرأ بالفتح ، وإنما يستقيم عطفُه على " أَنْ لا تشركوا " إذا جعلت " أن " هي الناصبة حتى يكون المعنى : أتل عليكم نفي الإِشراك وأتل عليكم أن هذا صراطي مستقيماً ؟ قلت : أجعل قولَه " وأن هذا صراطي مستقيماً " علةً للاتِّباع بتقدير اللام كقوله { وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلاَ تَدْعُواْ مَعَ اللَّهِ أَحَداً } [ الجن : 18 ] بمعنى : ولأن هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه ، والدليل عليه القراءة بالكسر كأنه قيل : واتبعوا صراطي لأنه مستقيم ، أو : واتبعوا صراطي أنه مستقيم " .
واعترض عليه الشيخ بعد السؤال الأول وجوابه وهو " فإن قلت : هَلاَّ قلت هي الناصبة " إلى : { وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُواْ } فقال : " لا يتعيَّنْ أن تكونَ جميعُ الأوامر معطوفة على ما دخل عليه " لا " لأنَّا بيَّنَّا جواز عطف " وبالوالدين إحساناً " على " تعالَوا " وما بعده معطوف عليه ، ولا يكون قوله " وبالوالدين إحساناً " معطوفاً على أن لا تشركوا " .
الرابع : أن تكون " أَنْ " الناصبة وما في حَيِّزها منصوبةً على الإِغراء ب " عليكم " ، ويكون الكلامُ الأول قَدْ تمَّ عند قوله " ربكم " ، ثم ابتدأ فقال : عليكم أن لا تشركوا ، أي : الزموا نفي الإِشراك وعدمه ، وهذا وإن كان ذكره جماعة كما نقله ابن الأنباري ضعيف لتفكك التركيب عن ظاهره ؛ ولأنه لا يتبادر إلى الذهن .
الخامس : أنها وما في حَيِّزها في محل نصب أو جر على حذف لام العلة والتقدير : أتل ما حرم ربكم عليكم لئلا تشركوا ، وهذا منقول عن أبي إسحاق ، إلا أن بعضهم استبعده من حيث إن ما بعده أمرٌ معطوف بالواو ومناهٍ معطوفة بالواو أيضاً فلا يناسب أن يكونَ تبييناً لِما حرَّم ، أمَّا الأمرُ فمِنْ حيث المعنى ، وأمَّا المناهي فمِنْ حيث العطف .
السادس : أن تكون هي وما بعدها في محل نصب بإضمارٍ فعلٍ تقديره : أوصيكم أن لا تشركوا ؛ لأن قوله " وبالوالدين إحساناً " محمول على أوصيكم بالوالدين إحساناً ، وهو مذهب أبي إسحاق أيضاً .
السابع : أن تكون " أَنْ " وما في حَيِّزها في موضع رفع على أنها خبر مبتدأ محذوف أي : المُحَرَّمُ أن لا تشركوا ، أو المتلوُّ أن لا تشركوا ، إلا أن التقدير بنحو المتلوّ أحسنُ ؛ لأنه لا يُحْوج إلى زيادة " لا " ، والتقدير بالمحرم أن لا تشركوا يحوج إلى زيادتها لئلا يفسد المعنى .
الثامن : أنها في محل رفع أيضاً على الابتداء ، والخبر الجارُّ قبله والتقدير : عليكم عَدَمُ الإِشراك ، ويكون الوقف على قوله " ربكم " كما تقدَّم في وجه الإِغراء ، وهذا مذهب لأبي بكر بن الأنباري فإنه قال : " ويجوز أن يكونَ في موضع رفع ب " على " كما تقول : عليكم الصيام والحج " .
التاسع : أن يكون في موضع رفع بالفاعلية بالجارِّ قبلها ، وهو ظاهر قول ابن الأنباري المتقدم ، والتقدير : استقرَّ/ عليكم عدم الإِشراك . وقد تحصَّلت في محل " أن لا تشركوا " على ثلاثة أوجه ، الرفع والنصب والجر ، فالجر من وجه واحد وهو أن يكون على حذف حرف الجر على مذهب الخليل والكسائي ، والرفع من ثلاثة أوجه ، والنصب من ستة أوجه ، فمجموع ذلك عشرة أوجه تقدَّم تحريرها .
و " شيئاً " فيه وجهان أحدهما : أنه مفعول به . والثاني : أنه مصدر أي إشراكاً أي : شيئاً من الإِشراك .
وقوله { وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً } تقدم تحريره في البقرة .
قوله : { مِّنْ إمْلاَقٍ } " مِنْ " سببية متعلقة بالفعل المنهيّ عنه أي : لا تقتلوا أولادَكم لأجل الإِملاق . والإِملاق : الفقر في قول ابن عباس . وقيل : الجوع بلغة لخم ، نقله مؤرج . وقيل : الإِسراف ، أَمْلق أي : أسرف في نفقته ، قاله محمد بن نعيم الترمذي . وقيل الإِنفاق ، أملق مالَه أي أنفقه قاله المنذر ابن سعيد . والإِملاق : الإِفساد أيضاً قاله شمر ، قال : " وأَمْلَقَ يكون قاصراً ومتعدياً ، أَمْلَقَ الرجل : إذا افتقر فهذا قاصر ، وأملق ما عنده الدهر أي : أفسده " وأنشد النضر بن شميل على ذلك قول أوس بن حجر :
ولمَّا رأيت العُدْمَ قَيَّد نائلي *** وأملق ما عندي خطوبٌ تَنَبَّلُ
أي : تَذْهب بالمال . تَنَبَّلَتْ بما عندي : أي ذهبت به .
وفي هذه الآية الكريمة { نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ } ، فقدَّم المخاطبين ، وفي الإِسراء قَدَّمَ ضمير الأولاد عليهم فقال { نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُم } [ الإِسراء : 31 ] فقيل : للتفنُّنِ في البلاغة . وأحسن منه أن يقال : الظاهر من قوله " من إملاق " حصول الإِملاق للوالد لا توقُّعُه وخشيته فبُدِئ أولاً بالعِدَةِ برزق الآباء بشارةً لهم بزوال ما هم فيه من الإِملاق ، وأما في آية سبحان فظاهرها أنهم مُوْسرون وإنما يخشَوْن حصول الفقر ولذلك قال : خَشْيَةَ إملاقٍ ، وإنما يُخْشى الأمور المتوقعة فبُدئ فيها بضمان رزقهم فلا معنى لقتلكم إياهم ، فهذه الآية تفيد النهيَ للآباء عن قتل الأولاد وإن كانوا متلبِّسين بالفقر ، والأخرى عن قتلهم وإن كانوا مُوْسِرين ، ولكن يخافون وقوع الفقر وإفادة معنى جديد أولى من ادِّعاء كون الآيتين بمعنى واحد للتأكيد .
قوله { مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ } في محل نصب بدلاً من الفواحش بدلَ اشتمال أي : لا تَقْرَبوا ظاهرها وباطنها كقولك : ضربْتُ زيداً ما ظهر منه وما بطن ، ويجوز أن تكون " مَنْ " بدل البعض من الكل . و " منها " متعلِّقٌ بمحذوفٍ لأنه حالٌ من فاعل " ظهر " . وحُذِفَ منها بعد قوله " بطن " لدلالة قوله " منها " في الأول عليه .
قوله { إِلاَّ بِالْحَقِّ } في محلِّ نصب على الحال من فاعل " تقتلوا " أي : لا تقتلوها إلا متلبِّسين بالحق ، ويجوز أن يكون وصفاً لمصدر محذوف أي : إلا قَتْلاً متلبِّساً بالحق ، وهو أن يكون القتل للقِصاص أو للرِدَّة أو للزنا بشرطه كما جاء مبيَّناً في السنَّة . وقوله : " ولا تَقْتلوا " هذا شبيهٌ بما هو مِنْ ذِكْر الخاص بعد العام اعتناءً بشأنه ؛ لأن الفواحشَ يندرج فيها قَتْلُ النفسِ ، فجرَّد منها هذا استفظاعاً له وتهويلاً ، ولأنه قد استثنى منه في قوله " إلا بالحق " ولو لم يَذْكر هذا الخاصَّ لم يَصِحَّ الاستثناء من عموم الفواحش ، لو قيل في غير القرآن : " لا تَقْرَبوا الفواحشَ إلا بالحق " لم يكن شيئاً .
قوله { ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ } في محله قولان أحدهما : أنه مبتدأ ، والخبر الجملة الفعلية بعده . والثاني : أنه في محل نصب بفعلٍ مقدَّر من معنى الفعل المتأخر عنه ، وتكون المسألة من باب الاشتغال ، والتقدير : ألزمكم أو كلَّفكم ذلك ، ويكون " وصَّاكم به " مفسِّراً لهذا العامل المقدر كقوله تعالى :
{ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً } [ الإِنسان : 31 ] وناسب قوله هنا " لعلكم تعقلون " لأنَّ العقل مَنَاطُ التكليف والوصية بهذه الأشياء المذكورة .