إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود - أبو السعود  
{۞قُلۡ تَعَالَوۡاْ أَتۡلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمۡ عَلَيۡكُمۡۖ أَلَّا تُشۡرِكُواْ بِهِۦ شَيۡـٔٗاۖ وَبِٱلۡوَٰلِدَيۡنِ إِحۡسَٰنٗاۖ وَلَا تَقۡتُلُوٓاْ أَوۡلَٰدَكُم مِّنۡ إِمۡلَٰقٖ نَّحۡنُ نَرۡزُقُكُمۡ وَإِيَّاهُمۡۖ وَلَا تَقۡرَبُواْ ٱلۡفَوَٰحِشَ مَا ظَهَرَ مِنۡهَا وَمَا بَطَنَۖ وَلَا تَقۡتُلُواْ ٱلنَّفۡسَ ٱلَّتِي حَرَّمَ ٱللَّهُ إِلَّا بِٱلۡحَقِّۚ ذَٰلِكُمۡ وَصَّىٰكُم بِهِۦ لَعَلَّكُمۡ تَعۡقِلُونَ} (151)

{ قُلْ تَعَالَوْا } لما ظهر بُطلانُ ما ادعَوْا من أن إشراكَهم وإشراكَ آبائِهم وتحريمَ ما حرموه بأمر الله تعالى ومشيئتِه بظهور عجْزِهم عن إخراج شيءٍ يُتمسّك به في ذلك وإحضارِ شهداءَ يشهدون بما ادعَوْا في أمر التحريم بعد ما كُلّفوه مرةً بعد أخرى عجزاً بيناً أُمر رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بأن يبينَ لهم من المحرمات ما يقتضي الحالُ بيانَه على الأسلوب الحكيم إيذاناً بأن حقَّهم الاجتنابُ عن هذه المحرماتِ ، وأما الأطعمةُ المحرمةُ فقد بُينت بقوله تعالى : { قُل لا أَجِدُ } [ الأنعام ، الآية 145 ] الآية ، وتعالَ أمرٌ من التعالي والأصلُ فيه أن يقوله من مكان عالٍ لمن هو في أسفلَ منه ثم اتُّسع فيه بالتعميم ، كما أن الغنيمة في الأصل إصابةُ الغَنَم من العدو ثم استعملت في إصابة كلِّ ما يُصاب منهم اتساعاً ثم في الفوز بكل مطلبٍ من غير مشقة { اتلُ } جوابُ الأمر وقوله تعالى : { مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ } منصوبٌ به على أن ( ما ) موصولةٌ والعائدُ محذوفٌ ، أي اقرأْ الذي حرمه ربُّكم أي الآياتِ المشتمِلةَ عليه ، أو مصدريةٌ أي الآياتِ المشتملة على تحريمه أو بحرم على أنها استفهاميةٌ ، والجملةُ مفعولٌ لأتلُ لأن التلاوةَ من باب القول ، كأنه قيل : أقُلْ أيُّ شيءٍ حرم ربكم { عَلَيْكُمْ } متعلقٌ بحرّم على كل حال ، وقيل : بأتلُ والأول أنسبُ بمقام الاعتناءِ بإيجاب الانتهاءِ عن المحرمات المذكورةِ وهو السرُّ في العرض لعنوان الربوبيةِ مع الإضافة إلى ضميرهم ، فإن تذكيرَ كونِه تعالى رباً لهم ومالكاً لأمرهم على الإطلاق من أقوى الدواعي إلى انتهائهم عما نهاهم عنه أشدَّ انتهاءٍ وأنْ في قوله تعالى : { أَن لا تُشْرِكُوا بِهِ } مفسرةٌ لفعل التلاوةِ المعلَّقِ بما حرم ، و( لا ) ناهيةٌ كما ينبئ عنه عطفُ ما بعده من الأوامر والنواهي عليه ، وليس من ضرورة كونِ المعطوفِ عليه تفسيراً لتلاوة المحرمات بحسب منطوقه كونُ المعطوفاتِ أيضاً كذلك حتى يمتنع انتظامُ الأوامر في سلك العطفِ عليه بل يكفي في ذلك كونُها تفسيراً لها باعتبار لوازمِها التي هي النواهي المتعلقةُ بأضداد ما تعلقت هي به ، فإن الأمرَ بالشيء مستلزمٌ للنهي عن ضده بل هو عينُه عند البعض ، كأن الأوامرَ ذُكرت وقُصد لوازمُها ، فإن عطفَ الأوامرِ على النواهي الواقعةِ بعد أن المفسر لتلاوة المحرماتِ مع القطع بأن المأمورَ به لا يكون محرماً ، دليلٌ واضحٌ على أن التحريمَ راجعٌ إلى الأضداد على الوجه المذكور فكأنه قيل : أتلُ ما حرم ربكم أن لا تشركوا ولا تُسيئوا إلى الوالدين خلا أنه قد أُخرج مُخرجَ الأمرِ بالإحسان إليهما بين النهيَين المكتنِفين له للمبالغة في إيجاب مراعاةِ حقوقِهما فإن مجرَّدَ تركِ الإساءةِ إليهما غيرُ كافٍ في قضاء حقوقِهما ، ولذلك عُقّب به النهيُ عن الإشراك الذي هو أعظمُ المحرماتِ وأكبرُ الكبائرِ هاهنا في سائر المواقعِ ، وقيل : ( أن ) ناصبةٌ ومحلُّها النصبُ بعليكم على أنه للإغراء ، وقيل : النصبُ على البدلية مما حرم وقيل : من عائدها المحذوفِ على أن لا زائدة ، وقيل : الجرُّ بتقدير اللام وقيل : الرفع بتقدير المتلُوِّ أن لا تشركوا ، أو المحرَّمُ أن لا تشركوا بزيادة لا وقيل : والذي عليه التعويلُ هو الأول لأمور من جملتها أن في إخراج المفسَّرِ على صورة النهي مبالغةً في بيان التحريمِ وقوله تعالى : { شَيْئاً } نُصب على المصدرية أو المفعولية أي لا تشركوا به شيئاً من الإشراك أو شيئاً من الأشياء { وبالوالدين } أي وأحسِنوا بهما { إحسانا } وقد مرّ تحقيقه { وَلاَ تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ } تكليفٌ متعلق بحقوق الأولادِ عقّب به التكليفَ المتعلقَ بحقوق الوالدين أي لا تقتلوهم بالوأد { منْ إملاق } أي من أجل فقرٍ كما في قوله تعالى : { خشْيَةَ إملاق } [ الإسراء ، الآية 31 ] وقيل : هذا في الفقر الناجزِ وذا في المتوقَّع وقوله تعالى : { نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ } استئنافٌ مَسوقٌ لتعليل النهي وإبطالِ سببيةِ ما اتخذوه سبباً لمباشرة المنهيِّ عنه وضمانٌ منه تعالى لأرزاقهم أي نحن نرزق الفريقين لا أنتم فلا تخافوا الفقرَ بناءً على عجزكم عن تحصيل الرزق وقوله تعالى : { وَلاَ تَقْرَبُوا الفواحش } كقوله تعالى : { وَلاَ تَقْرَبُوا الزنا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً } [ الإسراء ، الآية 32 ] إلا أنه جيء هاهنا بصيغة الجمعِ قصداً إلى النهي عن أنواعها ولذلك أُبدل عنها قولُه تعالى : { مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ } أي ما يُفعل منها علانية في الحوانيت كما هو دأَبُ أراذلِهم وما يفعل سراً باتخاذ الأخدانِ كما هو عادةُ أشرافِهم . وتعليقُ النهي بقُربانها إما للمبالغة في الزجر عنها لقوة الدواعي إليها وإما لأن قربانَها داعٍ إلى مباشرتها ، وتوسيطُ النهي عنها بين النهي عن قتل الأولادِ والنهي عن القتلِ مطلقاً كما وقع في سورة بني إسرائيلَ باعتبار أنها مع كونها في نفسها جنايةً عظيمةً في حكم قتلِ الأولادِ فإن أولادَ الزنا في حكم الأموات وقد قال صلى الله عليه وسلم في حق العزلِ : «إن ذاك وأدٌ خفيٌّ » ومن هاهنا تبين أن حملَ الفواحشِ على الكبائر مطلقاً وتفسير ما ظهر منها وما بطن بما فُسِّر به ظاهِرُ الإثمِ وباطنُه فيما سلف من قبيل الفصلِ بين الشجر ولِحائِه{[249]} . { وَلاَ تَقْتُلُوا النفس التي حَرَّمَ الله } أي حرم قتلَها بأن عصمَها بالإسلام أو بالعهد فيخرُج منها الحربيُّ وقوله تعالى : { إِلاَّ بالحق } استثناءٌ مفرّغٌ من أعم الأحوالِ أي لا تقتلوها في حال من الأحوال إلا حالَ ملابستِكم بالحق الذي هو أمرُ الشرعِ بقتلها ، وذلك بالكفر بعد الإيمان ، والزنا بعد الإحصان ، وقتلِ النفسِ المعصومةِ ، أو من أعمِّ الأسباب أي لا تقتلوها بسبب من الأسباب إلا بسبب الحقِّ وهو ما ذكر ، أو من أعمِّ المصادر أي لا تقتُلوها قتلاً ما إلا قتلاً كائناً بالحق وهو القتلُ بأحد الأمور المذكورة { ذلكم } إشارةٌ إلى ما ذكر من التكاليف الخمسةِ ، وما في ذلك من معنى البُعد للإيذان بعلوّ طبقاتِها بين التكاليف الشرعية ، وهو مبتدأ وقوله تعالى : { وصاكم بِهِ } أي أمركم به ربكم أمراً مؤكداً خبرُه ، والجملة استئنافٌ جيء به تجديداً للعهد وتأكيداً لإيجاب المحافظةِ على ما كُلِّفوه ولما كانت الأمورُ المنهيُّ عنها مما تقضي بديهةُ العقول بقُبحها فُصِّلت الآيةُ الكريمة بقوله تعالى : { لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ } أي تستعملون عقولَكم التي تعقِل نفوسَكم وتحبِسُها عن مباشرة القبائحِ المذكورة .


[249]:أي من قبيل التعسُّف. ولحاء الشجر: قشرته التي تغلّفه.