فتح البيان في مقاصد القرآن للقنوجي - صديق حسن خان  
{۞قُلۡ تَعَالَوۡاْ أَتۡلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمۡ عَلَيۡكُمۡۖ أَلَّا تُشۡرِكُواْ بِهِۦ شَيۡـٔٗاۖ وَبِٱلۡوَٰلِدَيۡنِ إِحۡسَٰنٗاۖ وَلَا تَقۡتُلُوٓاْ أَوۡلَٰدَكُم مِّنۡ إِمۡلَٰقٖ نَّحۡنُ نَرۡزُقُكُمۡ وَإِيَّاهُمۡۖ وَلَا تَقۡرَبُواْ ٱلۡفَوَٰحِشَ مَا ظَهَرَ مِنۡهَا وَمَا بَطَنَۖ وَلَا تَقۡتُلُواْ ٱلنَّفۡسَ ٱلَّتِي حَرَّمَ ٱللَّهُ إِلَّا بِٱلۡحَقِّۚ ذَٰلِكُمۡ وَصَّىٰكُم بِهِۦ لَعَلَّكُمۡ تَعۡقِلُونَ} (151)

{ *قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم ألا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا ولا تقتلوا أولادكم من إملاق نحن نرزقكم وإياهم ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق ذلكم وصاكم به لعلكم تعقلون 151 } .

{ قل تعالوا } أي تقدموا ، قال ابن الشجري : إن المأمور بالتقدم في أصل وضع هذا الفعل كأنه كان قاعدا فقيل له : تعال أي ارفع شخصك بالقيام وتقدم ، واتسعوا فيه حتى جعلوه للواقف والماشي ، وهكذا ، قال الزمخشري في الكشاف أنه من الخاص الذي صار عاما وأصله أن يقول من كان في مكان عال لمن هو أسفل منه ثم كثر واتسع فيه حتى عم .

{ أتل ما حرم ربكم } أتل جواب الأمر ، وما موصولة في محل نصب به والمراد من تلاوة ما حرم الله تلاوة الآيات المشتملة عليه ، ويجوز أن يكون ( ما ) مصدرية أي أتل تحريم ربكم والمعنى ما اشتمل على التحريم ، قيل ويحوز أن تكون ( ما ) استفهامية أي أتل أي شيء حرم ربكم ؟ على جعل التلاوة بمعنى القول وهو ضعيف جدا ، { عليكم } إن تعلق بأتل فالمعنى أتل عليكم الذي حرم ربكم وهو اختيار الكوفيين ، وإن تعلق بحرم فالمعنى أتل الذي حرم ربكم عليكم وهو اختيار البصريين ، وهذا أولى لأن المقام بيان ما هو محرم عليهم لا مقام بيان ما هو محرم مطلقا .

{ أن لا تشركوا به شيئا } أن مفسرة لفعل التلاوة المعلق بما حرم ولا ناهية وهذا وجه ظاهر لأمور من جملتها أن في إخراج المفسر على صورة النهي مبالغة في بيان التحريم وهو اختيار الفراء ، وقيل ( أن ) ناصبة ومحلها النصب بعليكم على أنه للإغراء ، وقيل النصب على البدلية مما حرم ، والمعنى على الإغراء الزموا نفي الإشراك وعدمه .

وهذا وإن كان ذكره جماعة كما نقله ابن الأنباري ضعيف لتفكيك التركيب عن ظاهره ولأنه لا يتبادر إلى الذهن ، وقيل التقرير لئلا تشركوا وهذا منقول عن أبي اسحق وقيل تقديره أوصيكم أن لا تشركوا وهو أيضا مذهب أبي اسحق ، وقيل ( أن ) في محل رفع أي المحرم أن لا تشركوا وهذا يحوج إلى زيادة لا لئلا يفسد المعنى ، وقيل تقديره عليكم عدم الإشراك وهو مذهب أبي بكر بن الأنباري ، وقيل استقر عليكم عدم الاشتراك وهو ظاهر قول ابن الأنباري .

وقد أخرج الترمذي وحسنه وابن المنذر وابن حاتم والطبراني وأبو الشيخ وابن مردويه عن عبادة بن الصامت قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { أيكم يبايعني على هؤلاء الآيات الثلاث ، ثم تلا { قل تعالوا } إلى ثلاث آيات ، ثم قال فمن وفي بهن فأجره على الله ومن انتقص منهم شيئا فأدركه الله في الدنيا كانت عقوبته ، ومن أخره إلى الآخرة كان أمره إلى الله إن شاء أخذه وإن شاء عفا عنه ) {[724]} .

وأخرج ابن أبي شيبة وابن الضريس وابن المنذر عن كعب الأحبار قال : أول ما أنزل في التوراة عشر آيات وهي العشر التي أنزلت من آخر الأنعام { قل تعالوا } إلى آخرها .

وأخرج أبو الشيخ عن عبيد الله بن عبد الله ابن عدي بن الخيار قال : سمع كعب رجلا يقرأ { قل تعالوا } الخ فقال كعب والذي نفس كعب بيده أنها لأول آية في التوراة بسم الله الرحمن الرحيم قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم إلى آخر الآيات انتهى .

قلت هي الوصايا العشر التي في التوراة ، أولها أنا الرب إلهك الذي أخرجك من أرض مصر من بيت العبودية لا يكن لك إله غيري ، ومنها أكرم أباك وأمك ليطول عمرك في الأرض التي يعطيك الرب إلهك لا تقتل لا تزن لا تسرق لا تشهد على قريبك شهادة زور ، ولا تشته بنت قريبك ولا تشته امرأة قريبك ولا عبده ولا أمته ولا ثوره ولا حماره ولا شيء مما لقريبك .

فلعل مراد كعب الأحبار هذا ، ولليهود بهذه الوصايا عناية عظيمة ، وقد كتبها أهل الزبور في آخر زبورهم ، وأهل الإنجيل في أول إنجيلهم ، وهي مكتوبة في لوحين وقد تركنا منها ما يتعلق بالسبت ، قال أبو السعود : وهذه الأحكام العشرة لا تختلف باختلاف الأمم والأعصار .

{ م } أحسنوا { بالوالدين إحسانا } هو البر بهما وامتثال أمرهما ونهيهما ، وقد تقدم الكلام على هذا ، ولما كان إيجاب الإحسان تحريما لترك الإحسان ذكر في المحرمات وكذا حكم ما بعده من الأوامر .

{ ولا تقتلوا أولادكم } لما ذكر حق الوالدين على الأولاد ، وذكر حق الأولاد عليهما وهو أن لا يقتلوهم { من } أجل { إملاق } هو الفقر فقد كانت الجاهلية تفعل ذلك بالذكور والإناث خشية الإملاق ، وتفعله بالإناث خاصة خشية العار ، وحكى النقاش عن مؤرخ أن الإملاق الجوع بلغة لخم .

وذكر المنذر بن سعيد البلوطي أن الإملاق يقال أملق ماله بمعنى أنفقه ، وقيل الإملاق الإسراف يقال أملق أي أسرف في نفسه ، قاله محمد بن نعيم اليزيدي ، والإملاق الإفساد أيضا قاله شمر ، يقال أملق ما عنده الدهر أي أفسده ، وقال قتادة : الإملاق الفاقة ، يقال أملق افتقر واحتاج ، وهو الذي أطبق عليه أئمة اللغة والتفسير ههنا .

وقال هنا من ( إملاق ) وفي الإسراء ( خشية إملاق ) قال بعضهم لأن هذا في الفقر الناجز فيكون خطابا للآباء الفقراء ، وما في الإسراء في المتوقع فيكون خطابا للآباء الأغنياء فلعلهم كان فقراؤهم يقتلون أولادهم وأغنياؤهم كذلك ، وقيل هذا التقديم للتفنن في البلاغة والأول أولى لأن إفادة معنى جديد أولى من ادعاء كون الآيتين بمعنى واحد للتأكيد .

{ نحن نرزقكم وإياهم } هذا التعليل للنهي قبله ، وكان ظاهر السياق أن يقدم ويقال نحن نرزقكم وإياكم كما في آية الإسراء لأن الكلام في الأولاد ، ولكن قدم هنا خطاب الآباء ليكون كالدليل على ما بعده .


[724]:ابن كثير، 2/187.