الأولى - قوله تعالى : " قل تعالوا أتل " أي تقدموا واقرؤوا حقا يقينا كما أوحى إلي ربي ، لا ظنا ولا كذبا كما زعمتم . ثم بين ذلك فقال " ألا تشركوا به شيئا " يقال للرجل : تعال ، أي تقدم ، وللمرأة تعالي ، وللاثنين والاثنتين تعاليا ، ولجماعة الرجال تعالوا ، ولجماعة النساء تعالين . قال الله تعالى : " فتعالين أمتعكن{[6862]} " [ الأحزاب : 28 ] . وجعلوا التقدم ضربا من التعالي والارتفاع ؛ لأن المأمور بالتقدم في أصل وضع هذا الفعل كأنه كان قاعدا فقيل له تعال ، أي ارفع شخصك بالقيام وتقدم ، واتسعوا فيه حتى جعلوه للواقف والماشي . قاله ابن الشجري .
الثانية - قوله تعالى : " ما حرم " الوجه في " ما " أن تكون خبرية في موضع نصب ب " أتل " والمعنى : تعالوا أتل الذي حرم ربكم عليكم ، فإن علقت " عليكم " " بحرم " فهو الوجه ؛ لأنه الأقرب وهو اختيار البصريين . وإن علقته ب " أتل " فجيد لأنه الأسبق ، وهو اختيار الكوفيين ، فالتقدير في هذا القول أتل عليكم الذي حرم ربكم . " ألا تشركوا " في موضع نصب بتقدير فعل من لفظ الأول ، أي أتل عليكم ألا تشركوا ، أي أتل عليكم تحريم الإشراك ، ويحتمل أن يكون منصوبا بما في " عليكم " من الإغراء ، وتكون " عليكم " منقطعة مما قبلها ؛ أي عليكم ترك الإشراك ، وعليكم إحسانا بالوالدين ، وألا تقتلوا أولادكم وألا تقربوا الفواحش . كما تقول : عليك شأنك ، أي الزم شأنك . وكما قال : " عليكم أنفسكم{[6863]} " [ المائدة : 105 ] قال جميعه ابن الشجري . وقال النحاس : يجوز أن تكون " أن " في موضع نصب بدلا من " ما " ؛ أي أتل عليكم تحريم الإشراك . واختار الفراء أن تكون " لا " للنهي ؛ لأن بعده " ولا " .
الثالثة - هذه الآية أمر من الله تعالى لنبيه عليه السلام بأن يدعو جميع الخلق إلى سماع تلاوة ما حرم الله . وهكذا يجب على من بعده من العلماء أن يبلغوا الناس ويبينوا لهم ما حرم الله عليهم مما حل . قال الله تعالى : " لتبيننه للناس ولا تكتمونه{[6864]} " [ آل عمران : 187 ] . وذكر ابن المبارك : أخبرنا عيسى بن عمر عن عمرو بن مرة أنه حدثهم قال : قال ربيع بن خيثم{[6865]} لجليس له : أيسرك أن تؤتى بصحيفة من النبي صلى الله عليه وسلم لم يفك خاتمها ؟ قال نعم . قال فاقرأ " قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم " فقرأ إلى آخر الثلاث الآيات . وقال كعب الأحبار : هذه الآية مفتتح{[6866]} التوراة : ( بسم الله الرحمن الرحيم قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم ) الآية . وقال ابن عباس : هذه الآيات المحكمات التي ذكرها الله في سورة " آل عمران{[6867]} " أجمعت عليها شرائع الخلق ، ولم تنسخ قط في ملة . وقد قيل : إنها العشر كلمات المنزلة على موسى .
الرابعة - قوله تعالى : " وبالوالدين إحسانا " الإحسان إلى الوالدين برهما وحفظهما وصيانتهما وامتثال أمرهما وإزالة الرق عنهما وترك السلطنة عليهما . و " إحسانا " نصب على المصدر ، وناصبه فعل مضمر من لفظه ، تقديره وأحسنوا بالوالدين إحسانا .
الخامسة - قوله تعالى : " ولا تقتلوا أولادكم من إملاق " الإملاق الفقر : أي لا تئدوا من الموؤودة{[6868]} - بناتكم خشية العيلة ، فإني رازقكم وإياهم . وقد كان منهم من يفعل ذلك بالإناث والذكور خشية الفقر ، كما هو ظاهر الآية . أملق أي افتقر . وأملقه أي أفقره ، فهو لازم ومتعد . وحكى النقاش عن مؤرج أنه قال : الإملاق الجوع بلغة لخم . وذكر منذر بن سعيد أن الإملاق الإنفاق . يقال : أملق ماله بمعنى أنفقه . وذكر أن عليا رضي الله عنه{[6869]} قال لامرأته : أملقي من مالك ما شئت . ورجل ملق يعطي بلسانه ما ليس في قلبه . فالملق لفظ مشترك يأتي{[6870]} بيانه في موضعه .
السادسة - وقد يستدل بهذا من يمنع العزل ؛ لأن الوأد يرفع الموجود والنسل ، والعزل منع أصل النسل فتشابها ، إلا أن قتل النفس أعظم وزرا وأقبح فعلا ؛ ولذلك قال بعض علمائنا : إنه يفهم من قوله عليه السلام في العزل : ( ذلك الوأد الخفي ) الكراهة لا التحريم وقال به جماعة من الصحابة وغيرهم . وقال بإباحته أيضا جماعة من الصحابة والتابعين والفقهاء ؛ لقوله عليه السلام : ( لا عليكم ألا تفعلوا فإنما هو القدر ) أي ليس عليكم جناح في ألا تفعلوا . وقد فهم منه الحسن ومحمد بن المثنى النهي والزجر عن العزل . والتأويل الأول أولى ؛ لقوله عليه السلام : ( إذا أراد الله خلق شيء لم يمنعه شيء ) . قال مالك والشافعي : لا يجوز العزل عن الحرة إلا بإذنها{[6871]} . وكأنهم رأوا الإنزال من تمام لذاتها ، ومن حقها في الولد ، ولم يروا ذلك في الموطوءة بملك اليمين ، إذ له أن يعزل عنها بغير إذنها ، إذ لا حق لها في شيء مما ذكر .
السابعة - قوله تعالى : " ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن " نظيره " وذروا ظاهر الإثم وباطنه{[6872]} " [ الأنعام : 120 ] . فقوله : " ما ظهر " نهي عن جميع أنواع الفواحش وهي المعاصي . " وما بطن " ما عقد عليه القلب من المخالفة . وظهر وبطن حالتان تستوفيان أقسام ما جعلت له من الأشياء . و " ما ظهر " نصب على البدل من " الفواحش " . " وما بطن " عطف عليه .
الثامنة - قوله تعالى : " ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق " الألف واللام في " النفس " لتعريف الجنس ، كقولهم : أهلك الناس حب الدرهم والدينار . ومثله " إن الإنسان خلق هلوعا{[6873]} " [ المعارج : 19 ] ألا ترى قول سبحانه : " إلا المصلين " ؟ وكذلك قوله : " والعصر إن الإنسان لفي خسر{[6874]} " [ العصر : 1 ، 2 ] لأنه قال : " إلا الذين آمنوا " وهذه الآية نهي عن قتل النفس المحرمة ، مؤمنة كانت أو معاهدة إلا بالحق الذي يوجب قتلها . قال رسول الله صلى : ( أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فمن قال لا إله إلا الله فقد عصم ما له ونفسه إلا بحقه وحسابهم على الله ) . وهذا الحق أمور : منها منع الزكاة وترك الصلاة ، وقد قاتل الصديق مانعي الزكاة . وفي التنزيل " فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم{[6875]} " [ التوبة : 5 ] وهذا بين . وقال صلى الله عليه وسلم : ( لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث الثيب الزاني والنفس بالنفس والتارك لدينه المفارق للجماعة ) . وقال عليه السلام : ( إذا بويع لخليفتين فاقتلوا الآخر منهما ){[6876]} . أخرجه مسلم . وروى أبو داود عن ابن عباس قال قال رسول الله صلى : ( من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط فاقتلوا الفاعل والمفعول به ) . وسيأتي بيان هذا في " الأعراف " {[6877]} . وفي التنزيل : " إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا أن يقتلوا{[6878]} " [ المائدة : 33 ] الآية{[6879]} . وقال : " وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا{[6880]} " [ الحجرات : 9 ] الآية . وكذلك من شق عصا المسلمين وخالف إمام جماعتهم وفرق كلمتهم وسعى في الأرض فسادا بانتهاب الأهل والمال والبغي على السلطان والامتناع من حكمه يقتل . فهذا معنى قوله : " إلا بالحق " . وقال عليه السلام : ( المؤمنون تتكافأ دماؤهم ويسعى بذمتهم أدناهم لا يقتل مسلم بكافر ولا ذو عهد في عهده ولا يتوارث أهل ملتين ) . وروى أبو داود والنسائي عن أبي بكر قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ( من قتل معاهدا في غير كنهه{[6881]} حرم الله عليه الحنة " . وفي رواية أخرى لأبي داود قال : ( من قتل رجل من أهل الذمة لم يجد ريح الجنة وإن ريحها ليوجد من مسيرة سبعين عاما ) . في البخاري في هذا الحديث ( وإن ريحها ليوجد من مسيرة أربعين عاما ) . خرجه من حديث عبدالله بن عمرو بن العاص .
التاسعة - قوله تعالى : " ذلكم " إشارة إلى هذه المحرمات . والكاف والميم للخطاب ، ولا حظ لهما من الإعراب . " وصاكم به لعلكم تعقلون " الوصية الأمر المؤكد المقدور . والكاف والميم محله النصب ؛ لأنه ضمير موضوع للمخاطبة . وفي وصى ضمير فاعل يعود على الله . وروى مطر الوراق عن نافع عن ابن عمر أن عثمان بن عفان رضي الله عنه أشرف على أصحابه فقال : علام تقتلوني ! فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ( لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث رجل زنى بعد حصانه{[6882]} فعليه الرجم أو قتل عمدا فعليه القود أو ارتد بعد إسلامه فعليه القتل ) فوالله ما زنيت في جاهلية ولا إسلام ، ولا قتلت أحدا فأقيد نفسي به{[6883]} ، ولا ارتددت منذ أسلمت ، إني أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله . ذلكم الذي ذكرت لكم وصاكم به لعلكم تعقلون !