{ والذي قَالَ لوالديه } عند دعوتهما إياه للإيمان { أُفّ لَّكُمَا } صوت يصدر عن المرء عند تضجره وفيه قرآات ولغات نحو الأربعين ، وقد نبهنا على ذلك في سورة الإسراء ، واللام لبيان المؤفف له كما في { هَيْتَ لَكَ } [ يوسف : 23 ] والموصول مبتدأ خبره { أُوْلَئِكَ الذين حَقَّ عَلَيْهِمُ القول } [ الأحقاف : 18 ] والمراد به الجنس فهو في معنى الجمع ، ولذا قيل : { أولئك } وإلى ذلك أشار الحسن بقوله : هو الكافر العلق لوالديه المنكر للبعث ، ونزول الآية في شخص لا ينافي العموم كما قرر غير مرة ، وزعم مروان عليه ما يستحق أنها نزلت في عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنهما وردت عليه عائشة رضي الله تعالى عنها . أخرج ابن أبي حاتم . وابن مردويه عن عبد الله قال : إني لفي المسجد حين خطب مروان فقال : إن الله تعالى قد أرى لأمير المؤمنين يعني معاوية في يزيد رأياً حسناً أن يستخلفه فقد استخلف أبو بكر . وعمر فقال عبد الرحمن بن أبي بكر : أهرقلية إن أبا بكر رضي الله تعالى عنه والله ما جعلها في أحد من ولده ولا أحد من أهل بيته ولا جعلها معاوية إلا رحمة وكرامة لولده ، فقال مروان : ألست الذي قال لوالديه أف لكما فقال عبد الرحمن : ألست ابن اللعين الذي لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم أباك فسمعت عائشة فقالت : مروان أنت القائل لعبد الرحمن كذا وكذا كذبت والله ما فيه نزلت نزلت في فلان بن فلان .
وفي رواية تقدمت رواها جماعة وصححها الحاكم عن محمد بن زياد أنها كذبته ثلاثاً ثم قالت : والله ما هو به تعني أخاها ولو شئت أن اسمي الذي أنزلت فيه لسميته إلى آخر ما مر ، وكان ذلك من فضض اللعنة إغاظة لعبد الرحمن وتنفيراً للناس عنه لئلا يلتفتوا إلى ما قاله وما قال إلا حقاً فأين يزيد الذي تجل اللعنة عنه وأين الخلافة .
ووافق بعضهم كالسهيلي في الإعلام مروان في زعم نزولها في عبد الرحمن ، وعلى تسليم ذلك لا معنى للتعيير لاسيما من مروان فإن الرجل أسلم وكان من أفاضل الصحابة وأبطالهم وكان له في الإسلام غناء يوم اليمامة وغيره والإسلام يجب ما قبله فالكافر إذا أسلم لا ينبغي أن يعير بما كان يقول { أَتَعِدَانِنِى أَنْ أُخْرَجَ } ابعث من القبر بعد الموت . وقرأ الحسن . وعاصم . وأبو عمرو في رواية وهشام { *أتعداني } بإدغام نون الرفع في نون الوقاية ، وقرأ نافع في رواية . وجماعة بنون واحدة ، وقرأ الحسن . وشيبة . وأبو جعفر بخلاف عنه ، وعبد الوارث عن أبي عمرو . وهارون بن موسى عن الجحدري ، وبسام عن هشام { لَّكُمَا أَتَعِدَانِنِى } بنونين من غير إدغام ومع فتح الأولى كأنهم فروا من اجتماع الكسرتين والياء ففتحوا للتخفيف ، وقال أبو حاتم : فتح النون باطل غلط ، وقال بعضهم : فتح نون التثنية لغة رديئة وهون الأمر هنا الاجتماع ، وقرأ الحسن .
وابن يعمر . والأعمش . وابن مصرف . والضحاك { أَخْرَجَ } مبنياً للفاعل من الخروج { وَقَدْ خَلَتِ القرون مِن قَبْلِى } أي مضت ولم يخرج منها أحد ولا بعث فالمراد إنكار البعث كما قيل :
ما جاءنا أحد يخبر أنه *** في جنة لما مضى أو نار
وقال أبو سليمان الدمشقي : أراد وقد خلت القرون من قبلي مكذبة بالبعث ، فالكلام كالاستدلال على نفي البعث .
{ وَهُمَا يَسْتَغِيثَانِ الله } أي يقولان : الغياث بالله تعالى منك ، والمراد إنكار قوله واستعظامه كأنهما لجآ إلى الله سبحانه في دفعه كما يقال : العياذ بالله تعالى من كذا أو يطلبان من الله عز وجل أن يغيثه بالتوفيق حتى يرجع عما هو عليه من إنكار البعث { وَيْلَكَ ءامِنْ } أي قائلين أو يقولون له ذلك ، وأصل { وَيْلٌ } دعاء بالثبور يقام مقام الحث على الفعل أو تركه إشعاراً بأن ما هو مرتكب له حقيق بأن يهلك مرتكبه وأن يطلب له الهلاك فإذا أسمع ذلك كان باعثاً على ترك ما هو فيه والأخذ بما ينجيه ، وقيل : إن ذلك لأن فيه إشعاراً بأن الفعل الذي أمر به مما يحسد عليه فيدعى عليه بالثبور فإذا سمع ذلك رغب فيه ، وأياً ما كان فالمراد هنا الحث والتحريض على الإيمان لا حقيقة الدعاء بالهلاك { إِنَّ وَعْدَ الله حَقٌّ } أي البعث ، وأضاف الوعد إليه تعالى تحقيقاً للحق وتنبيهاً على خطئه في إسناد الوعد إليهما . وقرأ الأعرج . وعمرو بن فائد { ءانٍ } بفتح الهمزة على تقدير لأن أو آمن بأن وعد الله حق ، ورجح الأول بأن فيه توافق القراءتين { فَيَقُولُ } مكذباً لهما { مَا هذا } الذي تسميانه وعد الله تعالى { إِلاَّ أساطير الاولين } أباطيلهم التي سطروها في الكتب من غير أن يكون لها حقيقة .
قوله تعالى : { والذي قال لوالديه } إذ دعواه إلى الإيمان بالله والإقرار بالبعث ، { أف لكما } وهي كلمة كراهية ، { أتعدانني أن أخرج } من قبري حياً ، { وقد خلت القرون من قبلي } فلم يبعث منهم أحد ، { وهما يستغيثان الله } يستصرخان ويستغيثان الله عليه ، ويقولان له : { ويلك آمن إن وعد الله حق فيقول ما هذا } ما هذا الذي تدعواني إليه ، { إلا أساطير الأولين } قال ابن عباس ، والسدي ، ومجاهد : نزلت في عبد الله . وقيل : في عبد الرحمن بن أبي بكر قبل إسلامه ، كان أبواه يدعوانه إلى الإسلام وهو يأبى ، ويقول : أحيوا لي عبد الله بن جدعان وعامر بن كعب ومشايخ قريش حتى أسألهم عما تقولون . وأنكرت عائشة رضي الله عنها أن يكون هذا في عبد الرحمن بن أبي بكر . والصحيح أنها نزلت في كافر عاق لوالديه ، قاله الحسن وقتادة . وقال الزجاج : قول من قال إنها نزلت في عبد الرحمن بن أبي بكر قبل إسلامه ، يبطله قوله : { أولئك الذين حق عليهم القول } الآية ، أعلم الله تعالى أن هؤلاء قد حقت عليهم كلمة العذاب ، وعبد الرحمن مؤمن من أفاضل المسلمين فلا يكون ممن حقت عليه كلمة العذاب .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
وهذا نعت من الله تعالى ذكره نعت ضالّ به كافر، وبوالديه عاقّ، وهما مجتهدان في نصيحته ودعائه إلى الله، فلا يزيده دعاؤهما إياه إلى الحقّ، ونصيحتهما له إلا عتوّا وتمرّدا على الله، وتماديا في جهله، يقول الله جلّ ثناؤه:"وَالّذِي قالَ لِوَالِدَيْهِ" أن دعواه إلى الإيمان بالله، والإقرار ببعث الله خلقه من قبورهم، ومجازاته إياهم بأعمالهم "أُفَ لَكُما "يقول: قذرا لكما ونتنا، "أتَعِدَانِنِي أنْ أُخْرَجَ" يقول: أتعدانني أن أخرج من قبري من بعد فنائي وبلائي فيه حيا... وقوله: "وَقَدْ خَلَتِ القُرُونُ مِنْ قَبْلِي" يقول: أتعدانني أن أبعث، وقد مضت قرون من الأمم قبلي، فهلكوا، فلم يبعث منهم أحدا، ولو كنت مبعوثا بعد وفاتي كما تقولان، لكان قد بُعث من هلك قبلي من القرون، "وهُمَا يَسْتَغِيثانِ اللّهِ" يقول تعالى ذكره: ووالداه يستصرخان الله عليه، ويستغيثانه عليه أن يؤمن بالله، ويقرّ بالبعث ويقولان له: "ويْلَك آمن"، أي: صدّق بوعد الله، وأقرّ أنك مبعوث من بعد وفاتك، إن وعد الله الذي وعد خلقه أنه باعثهم من قبورهم، ومخرجهم منها إلى موقف الحساب لمجازاتهم بأعمالهم حقّ لا شكّ فيه، فيقول عدوّ الله مجيبا لوالديه، وردّا عليهما نصيحتهما، وتكذيبا بوعد الله: ما هذا الذي تقولان لي وتدعواني إليه من التصديق بأني مبعوث من بعد وفاتي من قبري، إلا ما سطره الأوّلون من الناس من الأباطيل، فكتبوه، فأصبتماه أنتما فصدّقتما.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
«أف» بالكسر والفتح بغير تنوين، وبالحركات الثلاث مع التنوين، وهو صوت إذا صوت به الإنسان علم أنه متضجر، كما إذا قال: حس، علم منه أنه متوجع، واللام للبيان، معناه: هذا التأفيف لكما خاصة، ولأجلكما دون غيركما...
{وَيْلَكَ} دعاء عليه بالثبور: والمراد به الحث والتحريض على الإيمان لا حقيقة الهلاك...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
{والذي قال لوالديه أف لكما} الآية، {الذي} يعنى به الجنس على حد العموم الذي في الآية التي قبلها في قوله: {ووصينا الإنسان} [الأحقاف: 15] وهذا قول الحسن وجماعة، ويشبه أن لها سبباً من رجل قال ذلك لأبويه. فلما فرغ من ذكر الموفق عقب بذكر هذا العاق...
{أف}: أصلها في الأقذار، كانت العرب إذا رأت قذراً قالت: «أف» ثم صيره الاستعمال يقال في كل ما يكره من الأفعال والأقوال... وقوله: {ما هذا إلا أساطير} أي ما هذا القول الذي يتضمن البعث من القبور إلا شيء قد سطره الأولون في كتبهم، يعني الشرائع، وظاهر ألفاظ هذه الآية أنها نزلت في مشار إليه قال وقيل له، فنعى الله أقواله تحذيراً من الوقوع في مثلها...
اعلم أنه تعالى لما وصف الولد البار بوالديه في الآية المتقدمة، وصف الولد العاق لوالديه في هذه الآية، فقال: {والذي قال لوالديه أف لكما} وفي هذه الآية قولان.
(والقول الثاني) أنه ليس المراد من شخص معين، بل المراد منه كل من كان موصوفا بهذه الصفة، وهو كل من دعاه أبواه إلى الدين الحق فأباه وأنكره، وهذا القول هو الصحيح عندنا. ويدل عليه وجوه.
(الوجه الثالث) وهو الأقوى، أن يقال إنه تعالى وصف الولد البار بأبويه في الآية المتقدمة، ووصف الولد العاق لأبويه في هذه الآية، وذكر من صفات ذلك الولد أنه بلغ في العقوق إلى حيث لما دعاه أبواه إلى الدين الحق، وهو الإقرار بالبعث والقيامة أصر على الإنكار وأبى واستكبر، وعول في ذلك الإنكار على شبهات خسيسة وكلمات واهية، وإذا كان كذلك كان المراد كل ولد اتصف بالصفات المذكورة ولا حاجة البتة إلى تخصيص اللفظ المطلق بشخص معين...
{أن أخرج} أي أن أبعث وأخرج من الأرض، وقرئ {أخرج وقد خلت القرون من قبلي} يعني ولم يبعث منهم أحد. ثم قال: {وهما يستغيثان الله} أي الوالدان يستغيثان الله، فإن قالوا: كان الواجب أن يقال يستغيثان بالله؟ قلنا الجواب: من وجهين، الأول: أن المعنى أنهما يستغيثان الله من كفره وإنكاره، فلما حذف الجار وصل الفعل، الثاني: يجوز أن يقال الباء حذف، لأنه أريد بالاستغاثة هاهنا الدعاء على ما قاله المفسرون {يدعون الله} فلما أريد بالاستغاثة الدعاء حذف الجار، لأن الدعاء لا يقتضيه، وقوله {ويلك} أي يقولان له ويلك {آمن} وصدق بالبعث وهو دعاء عليه بالثبور، والمراد به الحث، والتحريض على الإيمان لا حقيقة الهلاك. ثم قال: {إن وعد الله} بالبعث {حق فيقول} لهما {ما هذا} الذي تقولان من أمر البعث وتدعوانني إليه {إلا أساطير الأولين}.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{والذي قال لوالديه} مع اجتماعهما كافراً لنعمهما نابذاً لوصيتنا بهما فكان كافراً بنعمة أعظم منعم محسوس بعد الكفر بنعم أعظم منعم مطلقاً، والتثنية مشيرة إلى أنه أغلظ الناس كبداً، لأن العادة جرت بقبول الإنسان كلام أصله ولو كان واحداً، وأن الاجتماع مطلقاً له تأثير فكيف إذا كان والداً: {أف} أي تضجر وتقذر واسترذال وتكره مني...
.والمراد به اقتران المعنى المقصود بالاشتهار بالعلو والانتشار مع الدوام، وقد تقدم في الإسراء عن الحرالي -وهو الحق- أن التأفيف أنهى الأذى وأشده، فإن معناه أن المؤفف به لا خطر له ولا وزن أصلاً، ولا يصلح لشيء بل هو- عدم بل العدم خير منه مع أنهى القذر. ولما كان كأنه قيل: لمن هذا التأفيف؟ قال: {لكما} ولما كانا كأنهما قالا له: لم هذا التقذير العظيم بعد الإحسان لا تقدر على جزائنا به، قال مبكتاً موبخاً منكراً على تقدير كونه وعداً: {أتعدانني} أي على سبيل الاستمرار بالتجديد في كل وقت {أن أخرج} أي- من مخرج ما يخرجني من الأرض بعد أن غبت فيها وصرت تراباً أحيى كما كنت أول مرة {وقد} أي والحال أنه قد {خلت} أي تقدمت وسبقت ومضت على سنن الموت {القرون} أي الأجيال الكثيرة من صلابتهم، وأثبت الجار لأن القرن لا ينخرم إلا بعد مدة طويلة، فالانخرام في ذلك غير مستغرق للزمان فقال: {من قبلي} أي قرناً بعد قرن وأمة بعد أمة وتطاولت الأزمان وأغلبهم يكذب بهذا الحديث فأنا مع الأغلب، وتأيد ذلك بأنه لم يرجع أحد منهم {وهما} أي والحال أنهما كلما قال لهما ذلك {يستغيثان الله} أي يطلبان بدعائهما من له جميع الكمال أن يعينهما بإلهامه قبول كلامهما، قائلين لولدهما مجتهدين بالنصيحة له بعد الاجتهاد بالدعاء: {ويلك} كما يقول المشفق إذا زاد به الكرب وبلغ منه الغم، إشارة إلى أنه لم يبق له- إن أعرض إلا الويل وهو الهلاك {آمن} أي أوقع الإيمان الذي لا إيمان غيره، وهو الذي ينقذ من كل هلكة، ويوجب كل فوز بالتصديق بالعبث وبكل ما جاء عن الله، ثم عللا أمرهما على هذا الوجه مؤكدين في مقابلة إنكاره فقالا: {إن وعد الله} أي الملك الأعظم المحيط بجميع صفات المهابة و الكمال الموصوف بالعزة والحكمة {حق} أي ثابت أعظم ثبات...
{فيقول} مسبباً عن قولهما ومعقباً له: {ما هذا} أي الذي ذكرتماه لي من البعث {إلا أساطير الأولين} أي خرافات كتبها- على وجه الكذب الأوائل وتناقلها منهم الأعمار جيلاً بعد جيل فصارت بحيث يظن الضعفاء أنها صحيحة...
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
{وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ} إذ دعواه إلى الإيمان بالله واليوم الآخر وخوفاه الجزاء. وهذا أعظم إحسان يصدر من الوالدين لولدهما أن يدعواه إلى ما فيه سعادته الأبدية وفلاحه السرمدي فقابلهما... {يَسْتَغِيثَانِ اللَّهَ} عليه ويقولان له: {وَيْلَكَ آمِنْ} أي: يبذلان غاية جهدهما ويسعيان في هدايته أشد السعي حتى إنهما -من حرصهما عليه- أنهما يستغيثان الله له استغاثة الغريق ويسألانه سؤال الشريق ويعذلان ولدهما ويتوجعان له ويبينان له الحق...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
(والذي قال لوالديه: أف لكما! أتعدانني أن أخرج وقد خلت القرون من قبلي؟).. فالوالدان مؤمنان. والولد العاق يجحد برهما أول ما يجحد؛ فيخاطبهما بالتأفف الجارح الخشن الوقح: أف لكما!.. ثم يجحد الآخرة بالحجة الواهية: أتعدانني أن أخرج وقد خلت القرون من قبلي؟.. أي ذهبوا ولم يعد منهم أحد.. والساعة مقدرة إلى أجلها. والبعث جملة بعد انتهاء أجل الحياة الدنيا...
(وهما يستغيثان الله. ويلك آمن. إن وعد الله حق).. ويبدو في حكاية قولهما الفزع من هول ما يسمعان. بينما هو يصر على كفره، ويلج في جحوده: (فيقول: ما هذا إلا أساطير الأولين)..
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
هذا الفريق المقصود من هذه الآيات المبدوءة بقوله تعالى: {ووصينا الإنسان} [الأحقاف: 15]. وهذا الفريق الذي كفر بربه وأساء إلى والديه، وقد عُلم أن والديه كانا مؤمنين من قوله: {أتعدانني أن أخرج وقد خلت القرون من قبلي} الآية. فجملة {والذي قال لوالديه} الأحسن أن تكون معطوفة على جملة {وإذا تُتْلى عليهم آياتنا بينات} [الأحقاف: 7] الخ انتقال إلى مقالة أخرى من أصول شركهم وهي مقالة إنكار البعث. وأما قوله: {الذي قال لوالديه} فالوجه جعله مفعولاً لفعل مقدر تقديره: واذكر الذي قال لوالديه، لأن هذا الوجه يلائم كل الوجوه. ويجوز جعله مبتدأ وجملة {أولئك الذين حق عليهم القول في أمم} [الأحقاف: 18] خبراً عنه على أحد الوجهين الاثنين في مرجع اسم الإشارة من قوله: {أولئك الذين حق عليهم القول}...
و {الذي} هنا اسم صادق على الفريق المتصف بصلته. وهذا وصف لفئة من أبناء من المشركين أسلم آباؤهم ودعوهم إلى الإسلام فلم يستجيبوا لهم وأغلظوا لهم القول فضمّوا إلى الكفر بشنيع عقوق الوالدين ...
والذي عليه جمهور المفسرين: أن الآية لا تعْني شخصاً معينا وأن المراد منها فريق أسلم آباؤهم ولم يسلموا حينئذٍ...
.على أنه قيل إن الإشارة بقوله: {أولئك} عائدة إلى {الأولين} من قوله: {ما هذا إلا أساطير الأولين} كما سيأتي...
وأف: اسم فعل بمعنى: أتضجَّر...
وهو هنا مستعمل كناية عن أقل الأذى فيكون الذين يؤذون والديهم بأكثر من هذا أوغلُ في العقوق الشنيع وأحرى بالحكم بدلالة فحوى الخطاب...
والمعنى: أنه أحال أن يخرج هو من الأرض بعد الموت، وقد مضت أمم كثيرة وطال عليها الزمن فلم يخرج منهم أحد. وهذا من سوء فهمه في معنى البعث أو من المغالطة في الاحتجاج لأن وعد البعث لم يوقت بزمن معين ولا أنه يقع في هذا العالم...
وليست جملة {ويلك آمِنْ} بياناً لمعنى استغاثتهما ولكنها مقول قول محذوف يدل عليه معنى الجملة. وكلمة {ويلك} كلمة تهديد وتخويف. والويل: الشر. وأصل ويلك: ويْل لك كما في قوله تعالى: {فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم} [البقرة: 79]، فلما كثر استعماله وأرادوا اختصاره حذفوا اللام ووصلوا كاف الخطاب بكلمة (ويل) ونصبوه على نزع الخافض...
والأساطير: جمع أسطورة وهي القصة وغلب إطلاقها على القصة الباطلة أو المكذوبة كما يقال: خرافة،...
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
{وَالَّذِي قَالَ لِوالِدَيْهِ أُفّ لَّكُمَآ} في احتقارٍ واستهانةٍ وتأفّفٍ، كما لو كانا عبئاً ثقيلاً عليه، لأنهما يفرضان نفسيهما عليه، ويتدخلان في حياته، في الوقت الذي يرى نفسه في موقع لا يجوز معه لأحدٍ أن يعترض على سلوكه، لا سيّما ممن لا يملك الدرجة العليا من الفكر والتقدم في نظره...
{إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ} في ما توعَّد به الكافرين من النار وما وعد به المؤمنين من الجنة، فتذَكَّرْ وعد الله، واعملْ على السير في خط النجاة والابتعاد عن خط الهلاك...
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
(والذي قال لوالديه أُف لكما أتعدانني أن أخرج وقد خلت القرون من قبلي). إلاّ أنّ أبويه المؤمنين لم يستسلما أمام هذا الولد العاق الضال، فتقول الآية: (وهما يستغيثان الله ويلك آمن إنّ وعد الله حق) غير أنّه يأبى إلاّ أن يسير في طريق الضلالة والعناد الذي اختطه لنفسه، ولذلك نراه يجيبهما بكلّ تكبر وغرور ولا مبالاة: (فيقول ما هذا إلاّ أساطير الأولين)، فما تقولانه عن المعاد والحساب ليس إلاّ خرافات وقصص كاذبة أتتكم من الماضين من قبلكم، ولست بالذي يعتقد بها وينقاد لها. إنّ الصفات التي يمكن أن تستخرج من هذه الآية حول هذه الفئة من الأبناء الضالين عدّة صفات: عدم احترام منزلة الأبوين، والإساءة لهما، لأنّ (أف) في الأصل تعني كلّ شيء قذر، وهي تقال في مقام التحقير والإهانة. وقال البعض: إنّها تعني الأقذار التي تجتمع تحت الأظافر، وهي قذرة ملوثة، ولا قيمة لها. والصفة الأُخرى هي أنّهم مضافاً إلى عدم إيمانهم بيوم القيامة والبعث والجزاء، فإنّهم يسخرون منه ويستهزئون به، ويعدونه من الأساطير والأوهام الخرافية الباطلة...