روح المعاني في تفسير القرآن والسبع المثاني للآلوسي - الآلوسي  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَرۡفَعُوٓاْ أَصۡوَٰتَكُمۡ فَوۡقَ صَوۡتِ ٱلنَّبِيِّ وَلَا تَجۡهَرُواْ لَهُۥ بِٱلۡقَوۡلِ كَجَهۡرِ بَعۡضِكُمۡ لِبَعۡضٍ أَن تَحۡبَطَ أَعۡمَٰلُكُمۡ وَأَنتُمۡ لَا تَشۡعُرُونَ} (2)

{ يا أيها الذين ءامَنُواْ لاَ تَرْفَعُواْ أصواتكم فَوْقَ صَوْتِ النبي } شروع في النهي عن التجاوز في كيفية القول عند النبي صلى الله عليه وسلم بعد النهي عن التجاوز في نفس القول والفعل ، وإعادة النداء مع قرب العهد به للمبالغة في الايقاظ والتنبيه والإشعار باستقلال كل من الكلامين باستدعاء الاعتناء بشأنه أي لا تبلغوا بأصواتكم وراء حد سيبلغه عليه الصلاة والسلام بصوته . وقرأ ابن مسعود { لاَ تَرْفَعُواْ } بتشديد { لاَ تَرْفَعُواْ } وزيادة الباء وقد شدد الأعلم الهذلي في قوله :

رفعت عيني بالحجا *** زالي أناس بالمناقب

/ والتشديد فيه للمبالغة كزيادة الباء في القراءة إلا أن ليس المعنى فيها أنهم نهوا عن الرفع الشديد تخيلاً أن يكون ما دون الشديد مسوغاً لهم ، ولكن المعنى نهيهم عما كانوا عليه من الجلبة واستجفاؤهم فيما كانوا يفعلون ، وهو نظير قوله تعالى : { ياأيها الذين ءامَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ الربا أضعافا مضاعفة } [ آل عمران : 130 ] . { وَلاَ تَجْهَرُواْ لَهُ بالقول كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ } أي جهراً كائناً كالجهر لأالجاري فيما بينكم ، فالأول نهى عن رفع الصوت فوق صوته صلى الله عليه وسلم وهذا نهى عن مساواة جهرهم لجهره عليه الصلاة والسلام فإنه المعتاد في مخاطبة الأقران والنظراء بعضهم لبعض ، ويفهم من ذلك وجوب الغض حتى تكون أصواتهم دون صوته صلى الله عليه وسلم ، وقيل : الأول مخصوص بمكالمته صلى الله عليه وسلم لهم وهذا بصمته عليه الصلاة والسلام كأنه قيل : لا ترفعوا أصواتكم فوق صوته إذا نطق ونطقتم ولا تجهروا له بالقول إذا سكت وتكلمتم ، ويفهم أيضاً وجوب كون أصواتهم دون صوته عليه الصلاة والسلام ، فأياً ما كان يكون المآل اجعلوا أصواتكم أخفض من صوته صلى الله عليه وسلم وتعهدوا في مخاطبته اللين القريب من الهمس كما هو الدأب عند مخاطبة المهيب المعظم وحافظوا على مراعاة أبهة النبوة وجلالة مقدارها ، ومن هنا قال أبو بكر الصديق رضي الله تعالى عنه بعد نزول الآية كما أخرج عبد بن حميد . والحاكم . وصححه من طريق أبي سلمة عن أبي هريرة : { والذي أنزل عليك الكتاب يا رسول الله لا أكلمك إلا كأخي السرار حتى ألقى الله تعالى » .

وفي رواية أنه قال : يا رسول الله والله لا أكلمك إلا السرار أو أخا السرار حتى ألقى الله تعالى ، وكان إذا قدم على رسول الله عليه الصلاة والسلام الوفود أرسل إليهم من يعلمهم كيف يسلمون ويأمرهم بالسكينة والوقار عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكان عمر رضي الله تعالى عنه كما في صحيح البخاري . وغيره عن ابن الزبير إذا تكلم عند النبي صلى الله عليه وسلم لم يسمع كلامه حتى يستفهمه ، وقيل : معنى { ولا تجهروا له بالقول } الخ ولا تخاطبوه باسمه وكنيته كما يخاطب بعضكم بعضاً وخاطبوه بالنبي والرسول ، والكلام عليه أبعد عن توهم التكرار لكنه خلاف الظاهر لأن ذكر الجهر عليه لا يظهر له وجه ، وكان الظاهر أن يقال مثلاً : ولا تجعلوا خطابه كخطاب بعضكم بعضاً . { أَن تَحْبَطَ أعمالكم } تعليل لما قبله من النهيين على طريق التنازع بتقدير مضاف أي كراهة أن تحبط أعمالكم ، والمعنى إني أنهاكم عما ذكر لكراهة حبوط أعمالكم بارتكابه أو تعليل للمنهى عنه ، وهو الرفع والجهر بتقدير اللام أي لأن تحبط ، والمعنى فعلكم ما ذكر لأجل الحبوط منهى عنه ، ولام التعليل المقدرة مستعارة للعاقبة التي يؤدي إليها الفعل لأن الرفع والجهر ليس لأجل الحبوط لكنهما يؤديان إليه على ما تعلمه إن شاء الله تعالى ، وفرق بينهما بما حاصله أن الفعل المنهى معلل في الأول والفعل المعلل منهى في الثاني وأيهما كان فمرجع المعنى إلى أن الرفع والجهر كلاهما منصوص الاداء إلى حبوط العمل ، وقراءة ابن مسعود . وزيد بن علي { فتحبط } بالفاء أظهر في التنصيص على أدائه إلى الإحباط لأن ما بعد الفاء لا يكون إلا مسبباً عما قبلها ، وقوله تعالى : { بَغْتَةً وَأَنتُمْ لاَ تَشْعُرُونَ } حال من فاعل { تَحْبَطَ } ومفعول { تَشْعُرُونَ } محذوف بقرينة ما قبله أي والحال أنتم لا تشعرون أنها محبطة ، وظاهر الآية مشعر بأن الذنوب مطلقاً قد تحبط الأعمال الصالحة ؛ ومذهب أهل السنة أن المحبط منها الكفر لا غير ، والأول مذهب المعتزلة ولذا قال الزمخشري : قد دلت الآية على أمرين هائلين . أحدهما أن فيما يرتكب من الآثام ما يحبط عمل المؤمن . والثاني أن في أعماله ما لا يدري أنه محبطط ولعله عند الله تعالى محبط .

وأجاب عن ذلك ابن المنير عليه الرحمة بأن المراد في الآية النهي عن رفع الصوت على الإطلاق ، ومعلوم أن حكم النهي الحذر مام يتوقع في ذلك من إيذاء النبي صلى الله عليه وسلم ، والقاعدة المختارة أن إيذاءه عليه الصلاة والسلام يبلغ مبلغ الكفر المحبط للعمل باتفاق فورد النهي عما هو مظنة لأذى النبي صلى الله عليه وسلم سواء وجد هذا المعنى أولاً حماية للذريعة وحسبما للمادة ، ثم لما كان هذا المنهى عنه منقسماً إلى ما يبلغ مبلغ الكفر وهو المؤذى له عليه الصلاة والسلام وإلى ما لا يبلغ ذلك المبلغ ولا دليل يميز أحد القسمين عن الآخر لزم المكلف أن يكف عن ذلك مطلقاً خوف أن يقع فيما هو محبط للعمل وهو البالغ حد الأذى اذ لا دليل ظاهراً يميزع ، وإن كان فلا يتفق تمييزه في كثير من الأحيان ، وإلى التباس أحد القسمين بالآخر وقعت الإشارة بقوله سبحانه : { أَن تَحْبَطَ أعمالكم وَأَنتُمْ لاَ تَشْعُرُونَ } وإلا فلو كان الأمر على ما يعتقده الزمخشري لم يكن لقوله سبحانه : { وَأَنتُمْ لا تشعرون } موقع إذ الأمر منحصر بين أن يكون رفع الصوت مؤذياً فيكون كفراً محبطاً قطعاً وبين أن يكون غير مؤذ فيكون كبيرة محبطة على رأيه قطعاً ، فعلى كلا حاليه الإحباط به محقق إذن فلا موقع لادعام الكلام بعدم الشعور مع أن الشعور ثابت مطلقاً ، ثم قال عليه الرحمة : وهذا التقدير يدور على مقدمتين كلتاهما صحيحة .

احداهما أن رفع الصوت من جنس ما يحصل به الأذى وهذا أمر يشهد به النقل والمشاهدة حتى أن الشيخ ليتأذى برفع التلميذ صوته بين يديه فكيف برتبة النبوة وما تستحقه من الاجلال والأعظام . ثانيتهما أن إيذاء النبي صلى الله عليه وسلم كفر وهذا ثابت قد نص عليه ائمتنا وأفتوا بقتل من تعرض لذلك كفراً ولا تقبل توبته فما أتاه أعظم عند الله تعالى وأكبر انتهى .

وحاصل الجواب أنه لا دليل في الآية على ما ذهب إليه الزمخشري لأنه قد يؤدي إلى الإحباط إذا كان على وجه الإيذاء أو الاستهانة فنهاهم عز وجل عنه وعلله بأنه قد يحبط وهم لا يشعرون ، وقيل : يمكن نظراً للمقام أن يمنزل إذا هم رسول الله صلى الله عليه وسلم برفع الصوت منزلة الكفر تغليظاً إجلالاً لمجسله صلوات الله تعالى عليه وسلامه ثم يرتب عليه ما يرتب على الكفر الحقيقي من الإحباط كقوله تعالى : { وَللَّهِ عَلَى الناس حِجُّ البيت } إلى قوله سبحانه : { وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِىٌّ عَنِ العالمين } [ آل عمران : 97 ] ومعنى { وَأَنتُمْ لاَ تَشْعُرُونَ } عليه وأنتم لا تسعرون أن ذلك بمنزلة الكفر المحبط وليس كسائر المعاصي ، ولا يتم بدون الأول ، وجاز كما في الكشف أن يكون المراد ما فيه استهانة ويكون من باب { فَلاَ تَكُونَنَّ ظَهيراً للكافرين } [ القصص : 86 ] مما الغرض منه التعريض كيف وهو قول منقول عن الحسن كما حكاه في الكشاف ، وقال أبو حيان : إن كانت الآية بمن يفعل ذلك استخفافاً فذلك كفر يحيط معه العمل حقيقة ، وإن كانت للمؤمن الذي يفعله غلبة وجرياً على عادته فإنما يحبط عمله البر في توقير النبي صلى الله عليه وسلم وغض الصوت عنده أن لو فعل ذلك كأنه قيل : مخافة أن تحبط الأعمال التي هي معدة أن تعملوها فتؤجروا عليها ، ولا يخفى ما في الشق الثاني من التلكف البارد ، ثم إن من الجهر ما لم يتناوله النهي بالاتفاق وهو ما كان منهم في حرب أو مجادلة معاند أو ارهاب عدو أو ما أشبه ذلك ما لا يتخيل منه تأذ أو استهانة ، ففي الحديث أنه عليه الصلاة والسلام قال للعباس بن عبد المطلب لما ولى المسلمون يوم حنين : ناد أصحاب السمرة فنادى بأعلى صوته أين أصحاب السمرة ، وكان رجلاً صيتا .

يروى أن غارة أتتهم يوماً فصاح العباس يا صباحاه فأسقط الحوامل لشدة صوته ، وفيه يقول نابغة بني جعدة :

زجر أبي عروة السباع إذا *** أشفق أن يختلطن بالغنم

زعمت الرواة أنه كان يزجر السباع عن الغنم فيفتق مرارة السبع في جوفه ، وذكروا أنه سئل ابن عباس رضي الله تعالى عنهما فكيف لا تفتق مرارة الغنم ؟ فقال : لأنها ألفت صوته ، وروى البخاري . ومسلم عن أنس لما نزلت هذه الآية جلس ثابت بن قيس في بيته وقال : أنا من أهل النار واحتبس فسأل النبي صلى الله عليه وسلم سعد بن معاذ فقال : يا أبا عمرو ما شأن ثابت اشتكى ؟ قال سعد : إنه جاري وما علمت له بشكوى فأتاه سعد فقال : أنزلت هذه الآية ولقد علمتم إني أرفعكم صوتاً على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنا من أهل النار فذكر ذلك سعد للنبي صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : بل هو من أهل الجنة ، وفي رواية أنه لما نزلت دخل بيته وأغلق عليه بابه وطفق يبكي فافتقده رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : ما شأن ثابت ؟ قالوا : يا رسول الله ما ندري ما شأنه غير أنه أغلق باب بيته فهو يبكي فيه فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إليه فسأله ما شأنك ؟ قال : يا رسول الله أنزل الله عليك هذه الآية وأنا شديد الصوت فأخاف أن أكون قد حبط عملي فقال صلى الله عليه وسلم : لست منهم بل تعيش بخير وتموت بخير ، والظاهر أن ذلك منه رضي الله تعالى عنه كان من غلبة الخوف عليه وإلا فلا حرمة قبل النهي ، وهو أيضاً أجل من أن يكون ممن كان يقصد الاستهانة والإيذاء لرسول الله صلى الله عليه وسلم برفع الصوت وهم المنافقون الذين نزلت فيهم الآية على ما روي عن الحسن وإنما كان الرفع منه طبيعة لما أنه كان في أذنه صمم وعادة كثير ممن به ذلك رفع الصوت ، والظاهر أنه بعد نزولها ترك هذه العادة ، فقد أخرج الطبراني والحاكم وصححه أن عاصم بن عدي بن العجلان أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بحاله فأرسله إليه فلما جاء قال : ما يبكيك يا ثابت ؟ فقال : أنا صيت وأتخوف أن تكون هذه الآية نزلت في فقال له عليه الصلاة والسلام : أما ترضى أن تعيش حميداً وتقتل شهيداً وتدخل الجنة ؟ قال : رضيت ولا أرفع صوتي أبداً على صوت رسول الله صلى الله عليه وسلم .

واستدل العلماء بالآية على المنع من رفع الصوت عند قبره الشريف صلى الله عليه وسلم ، وعند قراءة حديثه عليه الصلاة والسلام لأن حرمته ميتاً كحرمته حياً . وذكر أبو حيان كراهة الرفع أيضاً بحضرة العالم ، وغير بعيد حرمته بقصد الإيذاء والاستهانة لمن يحرم إيذاؤه والاستهانة به مطلقاً لكن للحرمة مراتب متفاوتة كما لا يخفى .