السراج المنير في تفسير القرآن الكريم للشربيني - الشربيني  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَرۡفَعُوٓاْ أَصۡوَٰتَكُمۡ فَوۡقَ صَوۡتِ ٱلنَّبِيِّ وَلَا تَجۡهَرُواْ لَهُۥ بِٱلۡقَوۡلِ كَجَهۡرِ بَعۡضِكُمۡ لِبَعۡضٍ أَن تَحۡبَطَ أَعۡمَٰلُكُمۡ وَأَنتُمۡ لَا تَشۡعُرُونَ} (2)

ونزل فيمن رفع صوته عند النبيّ عليه الصلاة والسلام : { يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم } أي : في شيء من الأشياء عند النطق إذا نطقتم { فوق صوت النبيّ } إذا نطق .

تنبيه : في إعادة النداء فوائد : منها أنّ في ذلك بيان زيادة الشفقة على المسترشد كقول لقمان لابنه : { يا بنيّ لا تشرك بالله } [ لقمان : 13 ] ، { يا بنيّ إنها إن تك } [ لقمان : 16 ] ، { يا بنيّ أقم الصلاة } [ لقمان : 17 ] ، لأنّ النداء تنبيه للمنادي ليقبل على استماع الكلام ويجعل باله منه ، فإعادته تفيد تجدد ذلك ومنها أن لا يتوهم أن المخاطب ثانياً غير المخاطب أولاً فإن من الجائز أن يقول القائل : يا زيد افعل كذا وكذا يا عمرو . فإذا أعاد مرة أخرى وقال : يا زيد قل يا زيد قل كذا وقل كذا يعلم أن المخاطب أولاً هو المخاطب ثانياً . ومنها أن يعلم أن كل واحد من الكلامين مقصود ليس الثاني تأكيداً للأوّل كقولك : يا زيد لا تنطق ولا تتكلم إلا بالحق وأنه لا يحسن أن يقول يا زيد لا تنطق يا زيد لا تتكلم ، كما يحسن عند اختلاف المطلوبين { ولا تجهروا له بالقول } أي : إذا كلمتموه سواء كان ذلك مثل صوته أو أخفض من صوته ، فإنّ ذلك غير مناسب لما يهاب به العظماء ويوقر الكبراء { كجهر بعضكم لبعض } أي : ولا تبلغوا به الجهر الدائر بينكم بل اجعلوا أصواتكم أخفض من ذلك فإنكم إن لم تفعلوا ذلك لم يظهر فرق بين النبيّ صلى الله عليه وسلم وبين غيره .

فإن قيل : ما الفائدة في ولا تجهروا بعد لا ترفعوا ؟ .

أجيب : بأن المنع من رفع الصوت هو أن لا يجعل كلامه أو صوته أعلى من كلام النبيّ صلى الله عليه وسلم وصوته والنهي عن الجهر منع من المساواة . أي لا تجهروا له بالقول كما تجهرون لنظرائكم بل اجعلوا كلمته عليا ثم حذرهم بقوله تعالى : { أن } أي : كراهة أن { تحبط } أي : تفسد فتسقط { أعمالكم } التي هي الأعمال بالحقيقة ، وهي الحسنات كلها { وأنتم لا تشعرون } أي : بأنها حبطت فإنّ ذلك إذا اجترأ الإنسان عليه استخف به وإذا استخف واظب عليه ، وإذا واظب عليه أو شك أن يستخف بالمخاطب فيكفر وهو لا يشعر ، روى أنس بن مالك قال : «لما نزل قوله تعالى { يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم } الآية جلس ثابت بن قيس في بيته وقال : أنا من أهل النار واحتبس عن النبيّ صلى الله عليه وسلم فسأل النبيّ صلى الله عليه وسلم سعد بن معاذ فقال : يا أبا عمرو ما شأن ثابت اشتكى فقال سعد : إنه لجاري وما علمت له شكوى قال : فأتاه سعد فذكر له قول رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال ثابت : نزلت هذه الآية وقد علمتم أني من أرفعكم صوتاً على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنا من أهل النار . فذكر ذلك سعد لنبيّ صلى الله عليه وسلم فقال بل هو من أهل الجنة » .

وروي لما نزلت هذه الآية «قعد ثابت في الطريق يبكي فمّر به عاصم بن عدي فقال : وما يبكيك يا ثابت . قال : هذه الآية أتخوف أن تكون نزلت فيّ وأنا رفيع الصوت أخاف أن يحبط عملي وأكون من أهل النار فمضى عاصم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وغلب ثابتاً البكاء فأتى امرأته جميلة بنت عبد الله بن أبيّ ابن سلول فقال لها : إذا دخلت بيت فرشي فسدّي عليّ الضبة بمسمار فضربت عليه بمسمار وقال لا أخرج حتى يتوفاني الله أو يرضي عني رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتى عاصم رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره خبره فقال : اذهب فادعه لي فجاءه عاصم إلى المكان الذي رآه فيه فلم يجده ، فجاء إلى أهله فوجده في بيت الفرش .

فقال له : إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعوك . فقال : اكسر الضبة فأتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له النبيّ صلى الله عليه وسلم ما يبكيك يا ثابت فقال : أنا ميت فأخاف أن تكون هذه الآية نزلت فيّ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم أما ترضي أن تعيش حميداً وتقتل شهيداً وتدخل الجنة . فقال : رضيت ببشرى الله ورسوله لا أرفع صوتي أبداً على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله عز وجل .