سورة   الحجرات
 
محاسن التأويل للقاسمي - القاسمي  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَرۡفَعُوٓاْ أَصۡوَٰتَكُمۡ فَوۡقَ صَوۡتِ ٱلنَّبِيِّ وَلَا تَجۡهَرُواْ لَهُۥ بِٱلۡقَوۡلِ كَجَهۡرِ بَعۡضِكُمۡ لِبَعۡضٍ أَن تَحۡبَطَ أَعۡمَٰلُكُمۡ وَأَنتُمۡ لَا تَشۡعُرُونَ} (2)

{ يأيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون 2 } .

{ يأيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي } أي : إذا نطق ونطقتم ، فلتكن أصواتكم قاصرة عن الحد الذي يبلغه صوته ، ليكون عاليا لكلامكم ، لا أن تغمروا صوته بلغطكم ، وتبلغوا أصواتكم إلى أسماع الحاضرين قبل صوته ، فإن ذلك من سوء الأدب بمكان كبير { ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض } أي بل تعمدوا في مخاطبته القول اللين ، القريب من الهمس ، الذي يضادّ الجهر ، كما تكون مخاطبة المهيب المعظم . وروي عن مجاهد تفسيره بندائه باسمه ، أي لا تنادوه كما ينادي بعضكم بعضا : يا محمد ! يا محمد ! بل يا نبي الله ! يا رسول الله ! ونظر فيه شراح ( الكشاف ) بأن ذكر الجهر حينئذ / لا يظهر له وجه ، إذ الظاهر أن يقال : لا تجعلوا خطابه كخطاب بعضكم لبعض ، كما مر في قوله :{[6666]} { لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضا } انتهى .

ولك أن تقول : إنما أفرغ هذا المعنى المرويّ عن مجاهد في قالب ذاك اللفظ الكريم جريا على سنة التنزيل في إيثار أرق الألفاظ والجمل ، وألطفها في ذلك ، فإن أسلوبه فوق كل أسلوب . وقد قالوا : إذا جاءك التفسير عن مجاهد فحسبك به { أن تحبط أعمالكم } أي مخافة أن تحبط أعمالكم ، برفع صوتكم فوق صوته ، وجهركم له بالقول كجهركم لبعضكم { وأنتم لا تشعرون } أي لا تعلمون ولا تدرون بحبوطها .

تنبيه :

استدلت المعتزلة بالآية على أن الكبائر محبطة للأعمال ، لأن المذكور في الآية كبيرة محبطة ولا فرق بينها وبين غيرها . ولما كان عند أهل السنة ، المحبط للأعمال هو الكفر خاصة ، تأولوا الآية بأنها للتغليظ والتخويف ، إذ جعلت بمنزلة الكفر المحبط ، أو هي للتعريض بالمنافقين القاصدين بالجهر والرفع الاستهانة ، فإن فعلهم محبط قطعا .

وقال الناصر : المراد في الآية النهي عن رفع الصوت على الإطلاق . ومعلوم أن حكم النهي الحذر مما يتوقع في ذلك من إيذاء النبي عليه الصلاة والسلام . والقاعدة المختارة أن إيذاءه عليه الصلاة والسلام يبلغ مبلغ الكفر المحبط للعمل باتفاق . فورد النهي عما هو مظنة لأذى النبي عليه الصلاة والسلام ، سواء وجد هذا المعنى أو لا ، حماية للذريعة ، وحسما للمادة . ثم لما كان هذا المنهي عنه – وهو رفع الصوت- منقسما إلى ما يبلغ ذلك المبلغ أولا ، ولا دليل يميز أحد القسمين عن الآخر ، لزم المكلف أن يكف عن ذلك مطلقا ، وخوّف أن يقع فيما هو محبط للعمل ، وهو البالغ حد الإيذاء ، إذ لا دليل ظاهر يميزه . وإن كان ، فلا يتفق تمييزه في كثير من الأحيان . وإلى التباس أحد القسمين بالآخر وقعت الإشارة بقوله : { أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون } . وإلا فلو كان الأمر على ما تعتقده المعتزلة ، لم يكن لقوله : { وأنتم/لا تشعرون } موقع . إذ الأمر بين أن يكون رفع الصوت مؤذيا ، فيكون كفرا محبطا قطعا ، وبين أن يكون غير مؤذ ، فيكون كبيرة محبطة على رأيهم قطعا . فعلى كلا حاليه ، الإحباط به محقق ، إذن فلا موقع لإدغام الكلام بعدم الشعور ، مع أن الشعور ثابت مطلقا – والله أعلم- .

ثم قال : وهذا التقرير الذي ذكرته يدور على مقدمتين ، كلتاهما صحيحة :

إحداهما – أن رفع الصوت من جنس ما يحصل به الإيذاء ، وهذا أمر يشهد به النقل والمشاهدة الآن ، حتى إن الشيخ ليتأذى برفع التلميذ صوته بين يديه . فكيف برتبة النبوة وما تستحقه من الإجلال والإعظام .

المقدمة الأخرى – أن إيذاء النبي صلى الله عليه وسلم كفر . وهذا أمر ثابت قد نص عليه أئمتنا – يعني المالكية – وأفتوا بقتل من تعرض لذلك كفرا ، ولا نقبل توبته ، فما أتاه أعظم عند الله وأكبر ، والله الموفق . انتهى .

ولا يخفى أن الإنصاف هو الوقوف مع ما أوضحه النص وأبانه ، فكل موضع نص فيه على الإحباط وجب قبوله بدون تأويل ، وامتنع القياس عليه ، لأنه مقام توعد وخسران ، ولا مجال للرأي في مثل ذلك . هذا ما أعتقده وأراه . والله يقول الحق وهو يهدي السبيل .


[6666]:[24/ النور/63].