فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير للشوكاني - الشوكاني  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَرۡفَعُوٓاْ أَصۡوَٰتَكُمۡ فَوۡقَ صَوۡتِ ٱلنَّبِيِّ وَلَا تَجۡهَرُواْ لَهُۥ بِٱلۡقَوۡلِ كَجَهۡرِ بَعۡضِكُمۡ لِبَعۡضٍ أَن تَحۡبَطَ أَعۡمَٰلُكُمۡ وَأَنتُمۡ لَا تَشۡعُرُونَ} (2)

{ ياأيها الذين ءامَنُواْ لاَ تَرْفَعُواْ أصواتكم فَوْقَ صَوْتِ النّبي } يحتمل أن المراد حقيقة رفع الصوت ، لأن ذلك يدلّ على قلة الاحتشام وترك الاحترام ، لأن خفض الصوت وعدم رفعه من لوازم التعظيم والتوقير . ويحتمل أن يكون المراد المنع من كثرة الكلام ومزيد اللغط ، والأوّل أولى . والمعنى : لا ترفعوا أصواتكم إلى حدّ يكون فوق ما يبلغه صوت النبيّ صلى الله عليه وسلم . قال المفسرون : المراد من الآية تعظيم النبي وتوقيره ، وأن لا ينادوه كما ينادي بعضهم بعضاً { وَلاَ تَجْهَرُواْ لَهُ بالقول كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ } أي لا تجهروا بالقول إذا كلمتموه ، كما تعتادونه من الجهر بالقول إذا كلّم بعضكم بعضاً . قال الزجاج : أمرهم الله بتجليل نبيه ، وأن يغضوا أصواتهم ، ويخاطبوه بالسكينة والوقار ، وقيل المراد بقوله : { وَلاَ تَجْهَرُواْ لَهُ بالقول } لا تقولوا يا محمد ويا أحمد ، ولكن يا نبيّ الله ويا رسول الله ، توقيراً له ، والكاف في محل نصب على أنها نعت مصدر محذوف : أي جهراً مثل جهر بعضكم لبعض ، وليس المراد برفع الصوت وبالجهر في القول هو ما يقع على طريقة الاستخفاف ، فإن ذلك كفر ، وإنما المراد أن يكون الصوت في نفسه غير مناسب لما يقع في مواقف من يجب تعظيمه وتوقيره . والحاصل أن النهي هنا وقع عن أمور ، الأوّل : عن التقدّم بين يديه بما لا يأذن به من الكلام . والثاني : عن رفع الصوت البالغ إلى حدّ يكون فوق صوته سواء كان في خطابه ، أو في خطاب غيره . والثالث : ترك الجفاء في مخاطبته ، ولزوم الأدب في مجاورته ، لأن المقاولة المجهورة إنما تكون بين الأكفاء الذين ليس لبعضهم على بعض مزية توجب احترامه وتوقيره .

ثم علل سبحانه ما ذكره بقوله : { أَن تَحْبَطَ أعمالكم } قال الزجاج : أن تحبط أعمالكم التقدير لأن تحبط أعمالكم أي فتحبط ، فاللام المقدرة لام الصيرورة كذا قال ، وهذه العلة يصح أن تكون للنهي : أي نهاكم الله عن الجهر خشية أن تحبط ، أو كراهة أن تحبط ، أو علة للمنهي : أي لا تفعلوا الجهر فإنه يؤدّي إلى الحبوط ، فكلام الزجاج ينظر إلى الوجه الثاني لا إلى الوجه الأوّل ، وجملة { وَأَنتُمْ لاَ تَشْعُرُونَ } في محل نصب على الحال ، وفيه تحذير شديد ووعيد عظيم . قال الزجاج : وليس المراد وَأَنتُمْ لاَ تَشْعُرُونَ يوجب أن يكفر الإنسان وهو لا يعلم ، فكما لا يكون الكافر مؤمناً إلاّ باختياره الإيمان على الكفر ، كذلك لا يكون الكافر كافراً من حيث لا يعلم .

/خ8