الجواهر الحسان في تفسير القرآن للثعالبي - الثعالبي  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَرۡفَعُوٓاْ أَصۡوَٰتَكُمۡ فَوۡقَ صَوۡتِ ٱلنَّبِيِّ وَلَا تَجۡهَرُواْ لَهُۥ بِٱلۡقَوۡلِ كَجَهۡرِ بَعۡضِكُمۡ لِبَعۡضٍ أَن تَحۡبَطَ أَعۡمَٰلُكُمۡ وَأَنتُمۡ لَا تَشۡعُرُونَ} (2)

وقوله سبحانه : { لاَ تَرْفَعُواْ أصواتكم } الآية ، هي أيضاً في هذا الفنِّ المتقدِّم ؛ فرُويَ أَنَّ سببها ما تقدم عن أبي بكر وعمر رضي اللَّه عنهما والصحيح أَنَّها نزلت بسبب عادة الأَعراب من الجَفَاءِ وعُلُوِّ الصَّوْتِ ، وكان ثابت بن قيس بن شماس رضي اللَّه عنه مِمَّنْ في صوته جهارة فلما نزلت هذه الآية اهْتَمَّ وخاف على نفسه ، وجلس في بيته لم يخرج ، وهو كئيب حزين حتى عَرَفَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم خبره فبعث إليه ، فآنسه ، وقال له : " امْشِ في الأَرْضِ بَسْطاً ؛ فإنَّكَ مِنْ أَهْلِ الجَنَّةِ " ، وَقَالَ لَهُ مَرَّةً : " أَمَا ترضى أَنْ تَعِيشَ حَمِيداً ، وَتَمُوتَ شَهِيدا " فعاش كذلك ، ثم قُتِلَ شَهِيداً بِاليَمَامَةِ يَوْمَ مُسَيْلَمَةَ .

( ت ) : وحديث ثابت بن قيس وتبشيره بالجنة خَرَّجَهُ البخاريُّ ، وكذلك حديث أبي بكر وعمر وارتفاع أصواتهما خَرَّجه البخاريُّ أيضاً ، انتهى .

وقوله : { بالقول كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ } أي : كحال أحدكم في جفائه ، فلا تنادونه باسمه : يا محمد ، يا أحمد ؛ قاله ابن عباس وغيره ، فأمرهم اللَّه بتوقيره ، وأنْ يدعوه بالنبوَّةِ والرسالة ، والكلام اللَّيِّنِ ، وكَرِهَ العلماءُ رفعَ الصوت عند قبرِ النبي صلى الله عليه وسلم وبحضرة العَالِمِ وفي المساجد ، وفي هذه كلها آثار ؛ قال ابن العربيِّ في «أحكامه » : " وحُرْمَةُ النبي صلى الله عليه وسلم مَيِّتاً كحرمته حَيًّا ، وكلامه المأثور بعد موته في الرِّفْعَةِ مِثْلُ كلامه المسموع من لفظه ، فإذا قُرئ كلامُه وجب على كل حاضر أَلاَّ يرفعَ صوتَهُ عليه ، ولا يُعْرِضَ عنه ، كما كان يلزمه ذلك في مجلسه عند تَلَفُّظِهِ بِه ، وقد نَبَّهَ اللَّه تعالى على دوام الحُرْمَةِ المذكورة على مرور الأزمنة بقوله : { وَإِذَا قُرِئ القرآن فاستمعوا لَهُ وَأَنصِتُواْ } [ الأعراف : 204 ] وكلام النبي صلى الله عليه وسلم هو من الوحي ، وله من الحُرْمَةِ مِثْلُ ما للقرآن " انتهى .

وقوله تعالى : { أَن تَحْبَطَ } مفعول من أجله ، أي : مخافةَ أَنْ تحبطَ ،