روح المعاني في تفسير القرآن والسبع المثاني للآلوسي - الآلوسي  
{لَمۡ يَكُنِ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنۡ أَهۡلِ ٱلۡكِتَٰبِ وَٱلۡمُشۡرِكِينَ مُنفَكِّينَ حَتَّىٰ تَأۡتِيَهُمُ ٱلۡبَيِّنَةُ} (1)

مقدمة السورة:

سورة البينة

وتسمى سورة القيامة وسورة البلد وسورة المنفكين وسورة البرية وسورة لم يكن قال في البحر مكية في قول الجمهور وقال ابن الزبير وعطاء بن يسار مدنية قاله ابن عطية وفي كتاب التحرير مدنية وهو قول الجمهور وروي أبو صالح عن ابن عباس أنها مكية واختاره يحيى بن سلام انتهى وقال ابن الفرس الأشهر إنها مكية ورواه ابن مردويه عن عائشة وجزم ابن كثير بأنها مدنية واستدل على ذلك بما أخرجه الإمام أحمد وابن قانع في معجم الصحابة والطبراني وابن مردويه عن أبي خيثمة البدري قال لما نزلت لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب إلى آخرها قال جبريل عليه السلام يا رسول الله إن ربك يأمرك أن تقرئها أبيها فقال النبي صلى الله تعالى عليه وسلم لأبي رضي الله تعالى عنه أن جبريل عليه السلام أمرني أن أقرئك هذه السورة فقال أبي أو قد ذكرت ثم يا رسول الله قال نعم فبكى وهذا هو الأصح وآيها تسع في البصري وثمان في غيره وجاء في فضلها ما أخرجه أبو موسى المدني في المعرفة عن إسماعيل بن أبي حكيم عن مطر المزني أو المدني عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قال إن الله تعالى يسمع قراءة لم يكن الذين كفروا فيقول أبشر عبدي فو عزتي لا أسألك على حال من أحوال الدنيا والآخرة ولأمكنن لك في الجنة حتى ترضى ووجه مناسبتها لما قبلها إن قوله تعالى فيها لم يكن الذين الخ كالتعليل لإنزال القرآن كأنه قيل إنا أنزلناه لأنه لم يكن الذين كفروا منفكين عن كفرهم حتى يأتيهم رسول يتلو صحفا مطهرة وهي ذلك المنزل فلا تغفل .

{ لَمْ يَكُنِ الذين كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الكتاب } أي اليهود والنصارى وإيرادهم بذلك العنوان قيل لإعظام شناعة كفرهم وقيل للإشعار بعلة ما نسب إليهم من الوعد باتباع الحق فإن مناط ذلك وجدانهم له في كتابهم وهو مبني على وجه يأتي إن شاء الله تعالى في الآية بعد وإيراد الصلة فعلاً لما أن كفرهم حادث بعد أنبيائهم عليهم السلام بالآحاد في صفات الله عز وجل ومن للتبعيض كما قال علم الهدى الشيخ أبو منصور الماتريدي في التأويلات لا للتبيين لأن منهم من لم يكفر بعد نبيه وكان على الاعتقاد الحق حتى توفاه الله تعالى وعد من ذلك الملكانية من النصارى فقيل أنهم كانوا على الحق قبل بعثة رسول الله صلى الله عليه وسلم والتبيين يقتضي كفر جميعهم قبل البعث والظاهر خلافه وأيد إرادة التبعيض بما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما من أن المراد بأهل الكتاب اليهود الذين كانوا بأطراف المدينة من بني قريظة والنضير وبني قينقاع وقال بعض لا نسلم أن التبيين يقتضي كفر جميعهم قبل البعث لجواز أن يكون التعبير عنهم بالذين كفروا باعتبار حالهم بعد البعثة كأنه قيل لم يكن هؤلاء الكفرة وبينوا بأهل الكتاب { والمشركين } وهم من اعتقدوا لله سبحانه شريكاً صنماً أو غيره وخصهم بعض بعبدة الأصنام لأن مشركي العرب الذين بمكة والمدينة وما حولهما كانوا كذلك وهم المقصودون هنا على ما روي عن الحبر وأياً ما كان فالعطف على أهل الكتاب ولا يلزم على التبعيض أن لا يكون بعضهم كافرين ليجب العدول عنه للتبيين لأنهم بعض من المجموع كما أفاده بعض الأجلة واحتمال أن يراد بالمشركين أهل الكتاب وشركهم لقولهم المسيح ابن الله وعزير ابن الله تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً والعطف لمغايرة العنوان ليس بشيء وقرئ والمشركون بالرفع عطفاً على الموصول وحمل قراءة الجمهور على ذلك واعتبار أن الجر للجوار لا يخفى حاله والجار والمجرور في موضع الحال من ضمير كفروا وقوله تعالى : { مُنفَكّينَ } خبر يكن والانفكاك في الأصل افتراق الأمور الملتحمة بنوع مزايلة وأريد به المفارقة لما كانوا عليه مما ستعرفه إن شاء الله تعالى فالوصف اسم فاعل من انفك التامة دون الناقصة الداخلة على المبتدأ والخبر وزعم بعض النحاة أنه وصف منها والخبر محذوف أي واعدين اتباع الحق أو نحوه وتعقب مع كونه خلاف الظاهر بأن خبر كان وأخواتها لا يجوز حذفه في السعة لا اقتصاراً ولا اختصاراً وحين ليس مجير أي في الدنيا ضرورة وقوله تعالى : { حتى تَأْتِيَهُمُ البينة } متعلق بمنفكين والبينة صفة بمعنى اسم الفاعل أي المبين للحق أو هي بمعناها المعروف وهو الحجة المثبتة للمدعي ويراد بها المعجز وعلى الوجهين .